شظايا صحن طائر

باسل طلوزي
نيسان ـ نشر في 2018/02/20 الساعة 00:00
كان في وسع رهط الأطفال الأردنيين المتحلقين حول شظايا 'الجسم العسكري' الهابط على قريتهم أن يفسّروه، غير أنهم آثروا انتظار الرواية الرسمية، على اعتبار أنهم يصدّقون كل تصريح رسمي، حتى لو خالف حقيقة ما تبصره أعينهم، وكان المسمى الحكومي واضحًا لا يحتمل اللبس: 'شظايا جسم عسكري'، أما حقيقة هذا الجسم فمتروكة لتقديرات الخبراء.
كان في مقدور الأطفال أن يقولوا إن هذا الجسم جزءٌ من حطام المقاتلة الصهيونية التي أسقطتها دفاعات الجيش السوري. لكن بما أن للحكومة معجم تفسيرها الخاص، فقد وجدوا أنفسهم يؤثرون الصمت، لأن المعجم الحكومي يحمل تفسيرات المرحلة الجديدة التي عليهم أن يخضعوا لأبجدياتها التي تناقض كل ما تعلموه من آبائهم وأجدادهم، بعد أن تغير تفسير 'العدو' ذاته.
نعم، لقد تغير كل شيء، أيها الأطفال المتحلقون حول 'الجسم العسكري'، منذ بدأ القلق يساور جدكم مظفر النواب، وهو يقول: 'هل يحتاج دمٌ بكل هذا الوضوح إلى معجم طبقي كي يفسّره؟'.. كان جدكم آنذاك يعجب من اختلاف 'الرفاق' على تفسير دم أحد الشهداء. واستغرب هذا الجدل البيزنطي، حول ما إذا كان الشهيدُ 'شهيدًا' أم لا، وها أنتم تعايشون ما يشبه الحالة ذاتها: 'هل تحتاج مقاتلة صهيونية مطاحة، بكل هذا الوضوح، إلى خبراء لتفسيرها؟'.
الواقع، أنها تحتاج 'جدًا' إلى ذلك، أيها الأطفال، وليتكم تنظرون بأعيننا، لا بأعينكم التي لم تُصب بعد بتلوث عربي، كالذي أصابنا، بعد أن أخضَعنا حكامنا لقراءة معجمٍ جديدٍ عنوانه: 'إعادة تعريف العدو والصديق'. وحينها ستترددون كثيرًا، قبل أن تحكموا على هذا الجسم الواضح، بأنه 'مقاتلة معادية'.
لا حاجة بكم للانتظار أزيد من ذلك. وفي وسعي أن أنقل إليكم الرواية الرسمية العربية عن هذا 'الجسم المجهول'، الذي تبعثرت شظاياه على كل الأراضي العربية، فقد تظهر رواية رسمية بالتصريح: 'تبين أن شظايا الجسم تعود إلى صحنٍ طائر لم يُعرف كوكبه بعد'، وقد تظهر روايةُ أزيد دقة، معلنةً أن الشظايا 'تعود لطائرة صديقة أسقطت بنيران صديقة'، في حين ستظهر روايةٌ من بعض دول الخليج، معربة عن أسفها 'لسقوط طائرة صديقة بنيران عدوة'.
من جهتي، أرجح أن يتم اعتماد الرواية الأخيرة: 'طائرة صديقة تعرّضت لعدوان غادر بنيران عدوة'، لأن المصاب الجلل الحقيقي في فقدان هذه المقاتلة إنما وقع على سادة أبو ظبي والرياض والقاهرة، وعلى نحو أشد مما وقع على نافوخ نتنياهو وترامب ذاتهما، ففي تلك الديار ربما تقام الآن مناحاتٌ على هذا الحدث الضخم الذي أصاب 'شقيقًا'، لا صديقًا حتى.
ويتعاظم النواح، لأن الحادثة أعادت ضخ بعض الإحساس المفقود بالكرامة العربية، وهذا ما عملت تلك العواصم عقودا على وأده والخلاص منه؛ إذ لا كرامة مع ضرورة 'التطبيع' مع إسرائيل، ولا كرامة في دمج 'الجسم' الصهيوني في صميم الجسد العربي، ولا كرامة مع 'طبخة القرن' التي تحاك الآن في واشنطن.
أما روايتكم، أيها الأطفال المتحلقون حول شظايا 'الجسم الواضح'، فأراهن أنها تقول: 'ما نشاهده الآن هو بقايا كرامة عربية، جاد علينا بها مدفع عربي، استعادت فوهته بصرها الحديدي، وعرفت طريقها الصحيح، لتعيد تعريف العدو إلى رأس النكبة الأولى سنة 1948، وإلى ذيل النكبة الأخيرة بحكام أشد بلاءً من الصهاينة أنفسهم، سنة 2018، وإن ما سقط هو طائرة معادية تحمل في سجلها مئات الغارات المدمرة على أطفال غزة، وجنوب لبنان، وتدمير مفاعلات نووية في العراق وسورية، ويزخر تاريخها بكل ما أنتجته العربدة والصلافة من وقاحةٍ على هذه الأمة المبتلاة بأسياد كالعبيد'.
وثمّة منكم من سيكمل الرواية ليقول: 'لتسقط شظايا الطائرة بردًا وسلامًا علينا، وجمرًا ولظىً على نافوخ كل من يحاول أن يجعل من إسرائيل شقيقًا أو صديقًا.. فلا تحتاج طائرةٌ صهيونيةٌ واضحةٌ إلى كل هذا التدقيق لتفسيرها'.
    نيسان ـ نشر في 2018/02/20 الساعة 00:00