و للمكان دفاتره و حارسوه !

ماجد شاهين
نيسان ـ نشر في 2018/03/16 الساعة 00:00
( 1 ) مخابيء و عناوين ! و إلى كونها كانت تشكل جدارا ً عازلا ً أو ساترا ً ، فإنـّها كانت صناديق بريد و محطّات توقف و انتظار ! تلك كانت ' السنسلة ' أو السناسل . هل تتذكرون كيف كانت الرسائل والهدايا الصغيرة تُدس ّ بين حجارة السنسلة ريثما يحضر من يأخذها ، العاشق أو الصديق أو الصاحب و سواهم ؟ السناسل كانت ملاذا ً للأفاعي الصغيرة و كانت ' مخازن و مخابيء ' مؤقتة و كانت صناديق عناوين ومحطّات اتكاء ! عديدون كانوا يسندون أجسادهم إلى السناسل أو يجلسون في الجوار ! و منها كانت ' كوّات ' مفتوحة أو نوافذ صغيرة يطلّ منها من يريد إلى الآخرين او إلى الشارع أو تطلّ منها البنات إلى عناوينهن ّ حين كان للعناوين قيمة و معنى و حضور . أتحدث عن سنسلة و طين ِ و حجارة هكذا تقام فوق بعضها من دون اعتناء كبير . و أتحدّث عن سماء كانت متاحة لكي نراها كلّنا ، من الحوش أو الشباك أو السنسلة أو من شارع لا يضيق على عابريه . تلك أوقات لم تكن المطارح فيها ضيّقة ولا الصدور . ( 2 ) إلى أين تذهب ؟
اليوم أو أمس أو في الغد القريب أو البعيد ؟
يسألني و هو يراني أجلس عند عربة ِ بائع ِ الشاي قريبا ً من مصلّى المجمّع في انتظار أن يُؤذّن للمغرب ، واحدة من محطـّات استراحتي .
قلت : أنا أسافر من مادبا إلى مادبا ، من طرفها إلى قلبها و من ذراعها إلى كتفها و من صدرها إلى عيونها !
أينما ولّيت وجهك في المدينة ، تراني و تجدني :
رائحتي هنا و حرفي هناك ،
مرحباتي هنا و تلويحات روحي هناك ،
ضحكتي هنا و قليل من بكائي هناك !
..
هنا و هناك .. زوايا و عناوين في المدينة ناصعة لا اختباء فيها !
أسافر منها و إليها وارحل قليلا ً إلى ذاكرة ٍ و أحوال ٍ و أمّهات وشجن ٍ و صور ٍ و قبور !
..
و أظلّ حارس َ الوقت وأكثر . ( 3 ) و يحرسون المكان !
للمكان ، حارسوه .. والمكان هو الشارع والمدينة والمدرسة والمسجد والكنيسة و أطراف الحارات و شجر عتيق و مطارح طفولة وملاعبها .
و حين يحرس المرء مكانا ً ، فإنه يعتني به و يرش ّ روحه بالماء والعطر لكي يظل ّ نديّا ً ،
يحرس طيوره و شجره و ترابه ،
يحرس أرواح الغائبين عنه والمسافرين والراحلين والنائمين والساهرين في أوجاعهم أو حزنهم أو انتظاراتهم ،
يحرس الماء حين تفيض وحين تشح ّ ،
و يحرس دالية العنب قبل الفطام وقبل القطاف ،
و يحرس أنفاس الأمّهات حين يلذن بالصبر والصمت والحكمة لكي يضعن أطفالهن الجدد ،
و يحرس الهواء !
... للمكان حارسو ذاكرة و حارسو وقت ٍ و حارسو أيّام مقبلة ،
يسترجعون الحروف الاولى في المدارس والأزقّة ،
يسترجعون بيوت الطين في الذاكرة والمخابز و عربات الباعة الجائلين ،
يسترجعون صور الهدايا التي كانت توعها دول ٌ صديقة على شكل هبات ومساعدات و مؤن ٍ ،
والحارس ُ لا ينسى الوجع ، فيسترجعه ويحاول أن يراه على هيئة قرنفل و بيلسان وعصافير ! والمكان يحفظنا كما نحفظه ويسترجعنا كما نسترجع ذاكراته ،
والمكان فيه أرواح وحياة لا تكذب ،
فيه مساكن من حجر وطين ولكنها تعج ّ بالدهشة والحبور و قد يخالطها قهر أو حزن أو بكاء ،
لكنّها لنا ، و أماكننا ،
نحرسها فتحرسنا ،
نفيض عليها من وجدنا وشوقنا ، فتفيض علينا ً حنوّا ً و رقّة و تهدهد أرواحنا المتعبة !
... للمكان حارسوه و عاشقوه و العاشق لا يخطيء عنوانه .
    نيسان ـ نشر في 2018/03/16 الساعة 00:00