اتصل بنا
 

جينيالوجيا التقدم.. 'الجميع' هي كلمة السر

نيسان ـ نشر في 2021-05-11 الساعة 23:14

نيسان ـ تنحدر كلمة الجينيالوجيا (Genealogy) من أصل إغريقي. وتعني "دراسة شجرة العائلة" بمعنى آخر دراسة الأنساب، أما من ناحية اشتقاقية فهي تعني "البحث عن النشأة والتكوين والوقوف عند الأصل". لكن استخدامها المعاصر تعدى للبحث في أصل الأشياء ومعظم الظواهر الإنسانية والقيم، ولذلك دخلت الكلمة الى الكثير من حقول الدراسة فهناك جينيالوجيا الأخلاق، والسياسة، والحقيقة، والعنف، والدين.
‏يعتبر الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه مؤسس الجينيالوجيا المعاصرة. وفي مقدمة كتابه "جينيالوجيا الأخلاق" 1887 يقول "إنّ أمر الجينيالوجيا يتعلق بأصل أحكامنا الأخلاقية ‏المسبقة"، وليس القصد من الأصل العودة إلى البدايات، ولكن كيف تكوّنت الأشياء والكيفية التي ‏ظهرت بها.‏
فالجينيالوجي يصغي إلى التاريخ، تاريخ القيم والإنتاجات الثقافية، ليكشف عما وراء التاريخ من صراع بين قوى فاعلة مثبتة للحياة وقوى انفعالية أو ارتكاسية تحتقر الحياة وتتعلق بعالم الماوراء. والجينيالوجيا هي نقد لهذه التأويلات العدمية المشدودة إلى لوحات قيميّة وضعتها قوى السيطرة والقوة.
وفي المقابل ينشد الفيلسوف –كما يتصوره نيتشه- خلق قيم جديدة هي قيم أرضية تبشر باحتفالية الجسد رمز القوة والإرادة، وتمثل إرادة القوة مبدأ الحياة في صيرورتها وصفائها وبهجتها، وفي ضوء هذه التراتبية بين القوى أو القيم، نفهم أن الجينيالوجيا كما يرى دولوز هي فلسفة الاختلاف بين أخلاق الوضاعة وأخلاق الرفعة، ولعل الوقوف عند أصل القيم وكيفية تكونها هو الذي يتيح لنا المعرفة بالإنسان وعلاقته بهذه الحياة.
إذن؛ الجينيالوجيا مصطلح ومعناه البحث عن الأصل في المفهوم، لكن الجينيالوجيا مع نيتشه هي جزء من نمط تفكيره وكتابته، ذلك أنّ مفهوم الجينيالوجيا الذي لا تتوقّف مَهمته على تقوية المفاهيم وإرجاعها إلى أصولها العميقة والحقيقة، هو تساؤل عن الأصل النفسي والفيزيولوجي لمفاهيم الثقافة والمعرفة، وهو أصل مُحجّب ومقنّع، ولا يمكن إماطة اللثام عنه إلا بواسطة تحليل اللغة كما يقول الفيلسوف العراقي رسول محمد رسول.
كانت هذه التوطئة المختصرة لمفهوم الجينيالوجيا ضرورية لقراءة كتاب الباحث الأردني إبراهيم غرايبة الموسوم بـ"جينيالوجيا التقدم: التكوين الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للإصلاح والتنمية" الصادر العام 2021، عن مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية والذي يعمل فيه غرايبة باحثاً.
والكتاب كبير؛ جاء في 748 صفحة، وهو ضمن مشروع فكري ثقافي وبحثي تفرد به غرايبة في الأردن -وربما - في الوطن العربي بالتركيز على جينيالوجيا التقدم والتنمية البشرية والعدالة والحكم الرشيد في التقدم البشري.
وحسب وصف المؤلف فإنّ الكتاب هو "عمل معرفي ثقافي؛ باعتبار المثقف يستخدم المعرفة لأجل رسالة اجتماعية. ويحاول أن يساهم في إنشاء علاقة إيجابية مع المكان والموارد، وتحول التاريخ إلى عمليات حيوية متواصلة مستقلة عما يبذله باحثون وأكاديميون، ففي عشقهم للمكان ينشئ المثقفون انتماء يتسع لكل مواطن، ويتيح لنا أن نرى أنفسنا وننشئ وعينا لذاتنا كما نحب أن نكون".
وهو، وإن ركز على الحالة الأردنية والبلاد تحتفل بدخول مئويتها الثانية؛ إلا أنّ عالمية الأفكار التي يطرحها الكتاب تجعل منه دليلاً مهماً لمن أراد التخطيط لمستقبل التنمية سواء في الأردن أو أي قطر عربي آخر.
يقع الكتاب في ستة أجزاء حسب مكونات الإصلاح والتقدم التي يقترحها المؤلف، وهي إضافة للمقدمة التي كانت بعنوان كيف تتقدم الأمم: الإدارة الكيفية والعادلة للموارد، والحكم الرشيد أو التكوين السياسي والمدني، والمجتمعات المستقلة ووعي الذات أو التكوين الاجتماعي والثقافي، وقيم التقدم المستمدة من العيش معاً، والاعتدال والثقة ونبذ الكراهية والتطرف، وأخيراً استشراف مستقبلي مستمد من تصور أو نموذج مقترح للتقدم والتنمية.
اعتمد غرايبة تعريف (صمويل هنتنغتون) للتقدم وهو "التغير باتجاه التطوير الإيجابي في مجموعة من المؤشرات، من أهمها النمو الاقتصادي، ومستوى المعيشة (الرفاه) والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، والحريات والديمقراطية"، مؤكداً أنّ "سلسلة الازدهار والتقدم تتطلب ‏ تكريس قيم تحمي التقدم وتديمه في وعي وثقافة الأمم، مثل الاعتدال والتسامح والتعددية والتنوع والثقة ومواجهة التطرف والتعصب والكراهية. فالمجتمعات تتبع في علاقاتها وتنظيم مواردها منظومة من القيم والثقافات الإيجابية والتقدمية، ثم تدور حولها المؤسسات السياسية والعامة، وهي قيم وأخلاق يفترض أن ينشئها موقف عقلاني، فإذا لم تكن القيم والأخلاق عقلانية، فإن السلوك السياسي والاجتماعي الفردي والجماعي يمكن أن يتحول إلى تسويات غير أخلاقية، ويزود التخلف بمبررات أيديولوجية أو اجتماعية وثقافية".
ويحذر غرايبة من أن "الزج بالدين والثقافة في الصراعات السياسية وفي تكريس الكراهية للآخرين والاشمئزاز منهم؛ يزيد الصراع حدة من غير فائدة، ويقلل فرص التسوية والمصالحة، ويطيل أمد الحروب والصراعات والآلام، ويساهم في تفكيك المجتمعات وانقسامها، ويخفض مستوى الثقة في الحياة اليومية والسوق؛ ما يلحق ضرراً بالمصالح والأعمال من غير فائدة أو مقابل".
وفي كل هذه الأجزاء يقدم غرايبة وجهات نظر جديدة وخلاقة دون أن يستغني عن دعمها بأهم المصادر العالمية مثل تقارير التنمية البشرية والبنك الدولي والخبراء والأكاديميين المرموقين، كما يظهر ذلك في قائمة المراجع التي عاد إليها.
في الخلاصة؛ يؤكد غرايبة أنّ "الجميع" هي كلمة السر في التنمية والتقدم، فأن يكون الجميع مشمولاً ببرامج التنمية والخدمات الأساسية يعني المساواة والرضا الاجتماعي وتقليل الفجوة، وقدرة أفضل على الانتماء والمشاركة، ومواجهة الجريمة والكراهية والتطرف العنيف والإرهاب.
سيكون المحرك الأساسي لتجمعات الناس وعلاقاتهم في ظل حالة الازدهار، قائماً على تنظيم وتأمين الخدمات والحياة اليومية والاقتصادية والاجتماعية. وعلى هذا الأساس، تقوم مصالح وأعمال وأسواق، ومؤسسات اجتماعية وتعليمية وصحية، وتدبير الموارد والإنفاق، والعلاقة مع الحكومة ودورها والإنفاق العام وإدارة الموارد والسياسات الضريبية والمركزية وحماية المستهلك.
وفي ذلك يتنافس المواطنون ويشكلون أنفسهم في كتل وتيارات وتحالفات، وقد تكسر متوالية التشكل الاقتصادي والاجتماعي، أو تنحرف إلى العنف والصراع المدمر في حالة عدم القدرة على ملاحظة العلاقة بين الحريات والعدالة والازدهار وتحسين الحياة، وذلك يجعل الأسواق والمعارف تعمل ضد نفسها".

نيسان ـ نشر في 2021-05-11 الساعة 23:14


رأي: سعود الشرفات

الكلمات الأكثر بحثاً