قصتي مع بابور الكاز
نيسان ـ محمد العرسان ـ نشر في 2015-10-01 الساعة 01:03
لم يكن هدير "بابور الكاز" حكرا على منزلنا المصنوع جله من الصفيح في مخيم الشهيد عزمي المفتي للاجئين الفلسطينيين في شمال الأردن – إذ كان يهدر بين أزقة المخيم.. معلنا إشراقة يوم جديد.
وكما يودعك صوت "دك" بابور الكاز عند ذهابك الى المدرسة يستقبلك مرة اخرى بعد رحلة طويلة تكون قد قطعتها سيرا على الاقدام حتى تصل مدرسة وكالة الغوث (المبنية من الصفيح) الواقعة على مدخل المخيم، رحلة يتخللها فضول طفل يتطفل علىطوابير النساء والرجال الذين ينتظرون ساعات للحصول على مساعدات وكالة الغوث من الطحين والـملابس "البكج" كما يطلق عليها سكان المخيم.
رحلة تنتهي كل مرة الى " طشت " معدني " لقن " ومياه تغلي على بابور تفيح منه رائحة الكاز، لتخليصك من غبار علق في شعرك وملابسك بعد " معركة الحصول على المؤن" ومن رائحة عرق خلفتها نصف ساعة من السير تحت اشعة الشمس او اللعب داخل الأقنية المكشوفة في المخيم.
اليوم وبعد مرور عشرات السنين استبدلنا البابور بغاز ايطالي فاخر يتوسط المطبخ المرتب بعناية ليصبح البابور مرحلة توثق لذكريات عنونها البساطة والفقر.

من أين أتى بابور الكاز؟
حمل الإحتلال البريطاني بابور الكاز للمنطقة في اربعينيات القرن الماضي كأداة للطهي و اللتدفئة واقتصر على العائلات الميسورة، وكان جزء مهما في "جهاز اي عروس كمعين لها عوضا عن اشعال الحطب" كما تقول الحاجة فاطمة الصقور ، الا ان مكانته الإجتماعية سرعان ما تراجعت واصبح رفيق الفقراء في اليالي الباردة.
يعتقد علماء الانثروبولوجيا - وهو علم يهتم بالثقافات ومواضيع التطور الانساني – ان ظهور بابور الكاز في المنطقة و المدن والقرى العربية جاء بسبب ما يسمى " بالتثاقف " وهو " اقتباس الثقافات من بعضها البعض، حسب ما يقوله أمين سر جمعية جمعية الأنثروبولوجيين الأردنيين فهمي الزعبي.
وحسب عالم الانثروبولوجيا انتقل "بابور الكاز " الى القرى من عندما بدأ القرويون بالاتصال مع المدن من خلال بيع منتجاتهم الزراعية للمدن حيث وجدوا فيه الراحة اكثر من استخدام الحطب الذي يتسبب بتلويث المنزل.
يضرب الزعبي مثالا لإنتقال ثقافة استخدام بابور الكاز من الغرب الى بعض المدن العربية كحيفا وانتقالها من تلك المدن الى مدن وقرى اخرى في فلسطين والأردن، وينطبق " التثاقف" في علم الانثروبولوجيا ايضا على اقتباس ثقافة القرية من المدينة والعكس.
يقول الزعبي إن "القرى سواء في الاردن او فلسطين كانت تعتمد بثقافتها على موقدة الحطب في الطبخ و التدفئة ولم تكن تعرف "بابور الكاز" كونه اختراع اجنبي دخل الى مجتمع المدينة الذي لا يجيد التعامل مع الحطب، وكان الأثرياء في المدينة يمتلكون انواع مرتفعة السعر من بوبابير الكاز التي لا تصدر ضجيجيا يسمى "بالبريموس الأخرس".
اليوم وبعد تطور المجتمعات البشرية وتوفر بدائل تقنية تحولت كل مقتنيات المنزل التي لا حاجة لها الى تحف للزينة ومنها بابورالكاز حسب الزعبي.
مصلح بوابير الكاز صادمد في وجه الحداثة
وسط مدينة اربد وبالقرب من مسجد اربد الكبير، أقدم مساجد المدينة، والذي يعود بناؤه إلى نهايات العهد العثماني، يقبع محل الحاج يوسف اللداوي لتصليح بوابير الكاز، اللداوي لا يحمل في ذاكرته حكاية بابور الكاز فقط، وإنما الكثير من صور النزوح من مدينة اللّد عام 1948، واللجوء من مدينة غزة إلى الأردن عام 1967.
يستذكر الحاج يوسف موقع "بابور الكاز" في الذاكرة الشعبية بالأردن وفلسطين، وكيف كان البابور جزءا مهما في كل منزل، يقول اليوم "أصبح البابور يعلق كتراث وانتيكا في المنازل".
ويعج محل اللداوي بكافة انواع البوابير كـ "البريموس"، وهو نسبة للبلدة المصنعة في السويد، والبابور "الأخرس" الذي لا يصدر صوتا وهو الأغلى سعرا، وبوابير أخرى من صنع بريطانيا وأستراليا وحتى الصين.
إلا أن تطور الحياة وظهور الغاز المطبخي بكافة أشكالة جعلت الحاج أبو يوسف يدخل تعديلات على طبيعة مهنته لتشمل تصليح "النرجيلة" وكافة أشكال أجهزة الغاز.
"ارتفاع سعر الكاز وجه ضربة قاضية لهذا الاختراع"، يقول اللداوي، ورغم أنه لا ينكر مدى تأثير تطور التكنولوجيا على مكانةبابور الكاز، إلا أنه يؤكد حضور البابور اليوم رغم تنحيه عن عرش تربع عليه لعقود طويلة جدا.
كل منا ومن أبناء جيلنا والأجيال التي سبقتنا، يعرف كيف يشغل البابور، إلا أن وقع هذه العملية يأخذ من تفكير وتخيلات أبنائنا الكثير كلما حكينا لهم عن دفئ شتاءاتنا سابقا، و حسب خبير تصليح بوابير، يعمل البابور بآلية بسيطة تشمل ضخ مادة الكاز من الخزان النحاسي إلى الرأس مرورا بالأنابيب، من خلال دفع الهواء بواسطة مفتاح طويل "يدك" بشكل متواصل لحين تحول مادة الكاز من الحالة السائلة إلى الغازية ليشعل حينها بواسطة عيدان الكبريت.
ومن الأجزاء المهمة في البابور "مفتاح التنفيس" الذي يتواجد على جانب الخزان النحاسي، ففي حال فتح هذا المفتاح يخرج ضغط الهواء وتقل مادة الكاز المتدفقة للرأس، ويحتاج البابور لأداة أخرى بسيطة في "الإبرة" وهي عبارة عن شريط معدني برأس إبرة لتنظيف الرأس.
مدير مديرية التراث في وزارة الثقافة الأردنية حكمت النوايسة يرى أن بابور الكاز في طريقه إلى التلاشي من الثقافة الشعبية الأردنية، بعد انتشار أداوت أخرى بديلة مثل الغاز المنزلي، لسهولة التعامل بدون ضوضاء وبتكلفة أقل".
يقول النوايسه إن البابور أصبح تراثا حتى عند الفقراء الذين يستخدمون الغاز أو الحطب في التدفئة والطبخ، إلا أنه يرتبط بذكريات لدى الأجيال التي عاصرته، تتعلق بالنهوض صباحا على صوت دك البابور، كما يرتبط بالاستحمام والوعاء المعدني الذي كان يسخن الماء فيه".
يبدو ان بابور الكاز خُلع عن عرشه في ظل حداثة طالت مناحي حياة المجتمع، ليعتلي الغاز المنزلي والمواقد على العرش، تاركةبابور الكاز يتقاعد بسلام و يصبح من صفحات التاريخ.


