من المتحف إلى الصفّ: آنَ الأوانُ ليرتدي أبناؤُنا أُردنيّتَهم.
نيسان ـ نشر في 2025-04-07 الساعة 14:04
نيسان ـ كلّما مررتُ بوسط البلد، أُصاب بحنينٍ غريب لا أعرف إن كان سببه المباني، أم رائحة المكتبات القديمة، أم بحثي الدائم عن خيطٍ يُشبهنا في هذا الركن من المدينة، اتوق لهذا اليوم الذي ستحملني فيه اقدامي لأبحث عن ثوب أردنيٍّ حقيقيّ في مركز العاصمة، عن قُطبةٍ تسكنها الحكاية، فلا أجد إلا ما يُشبه الثوب الذي طمست ملامحه الماكينات الحديثة، دون نقوشات وانماط وقطب صحيحة، فطالما قادتني هذه الخيبة إلى أحاديث مع الباعة عن الفرق بين الملبوس والهوية، و في كل مرة ينتهي بي المطاف إلى زيارة إحدى السيّدات في السلط، لأستأجر من ذاكرتها ثوبًا أصيلًا كلّما احتجت أن أُلبس انتمائي حُلّة.
في السنوات الأخيرة، بدأت صحوةٌ فارقة في الأزياء الأردنية الأصيلة، وكأنّ الأرض رفّت بأهدابها وأفاقت من غفوة؛ صحوةٌ أعادت الثوب الأردنيّ إلى الحياة، لا من باب الحنين، بل من باب احقاق الحقّ حيث شهدنا ولادة علاماتٌ تجاريّة رست على شاطيء تقديم الثوب كما هو، دون تزييف أو تنميق أو حداثة حولت الثوب الى "كانفس" هجين، فأصبحنا نرى جمال زهور قصر المشتى على ثوب الشَّليل، وثوب التشاريف، وثوب بني حسن، وصرنا نسمع عن "فنطزة" و "المزيونة" وغيرها، كعلامات تحاول أن تُعيد للحكاية خيطها المفقود.
شيئًا فشيئًا، بدأت العرائس في الكرك ومادبا ومعان يفصّلن ثيابهنّ كما كانت تلبسه الجدّات، وأصبحت حفلات الحنّة مشهدًا حيًّا لتراثٍ كدنا ننساه حيث غلبت عليه التقاليد السودانية والهندية بعيدا عن الحفلات الأصيلة، وأصبحت كلمة "الخلقة"، و"الهرمزي"، و"قُطبة سبعة ثمانية"، و"المنجل"، و "بين ابرتين" كما لو أنها مفردات لغةً قديمة تُبعث من جديد، تنطق بالألوان، وبالغرزة، وبالإبرة.
وفي عز هذه الصحوه جاء مشهدُ اليوبيل الفضيّ محطةً فارقةً، حين وقف الزي الأردنيّ أخيرًا في ضوءٍ عادل، يُظهر تنوّعه بين البادية والريف، بين الكرك والمفرق، بين قمح الحقول وبيت الشعر، بألوانه، وقُطَبه، ومزاجه، ونَفَسه.
لكنّ هذا الحضور، رغم جماله، ظلّ محصورًا في المناسبات الكبرى والاستعراضات الرسميّة، ولم يتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليوميّة كما ينبغي، فلا تزال المدارس تكتفي بالمريول الأخضر أو اللباس الأزرق، دون خيطٍ واحدٍ يمتدّ إلى ذاكرة المكان، أو يهمس بانتماء، وكأنّ المسافة بين الصفّ والمتحف لا تزال قائمة، وكأنّ الطفل لا يستحق أن يرى نفسه في ما يرتديه، أو أن يعرف أن ما تلبسه جدّته لم يكن مجرّد ثوب، بل وثيقة مصنوعة بالإبرة والخيط، وثيقة تحمل ألوان الأرض ومزاج الناس وملامح البيوت والحقول، لو دخل هذا الزي إلى المدرسة، حتّى وإن كان بشريطٍ مُطرَّزٍ صغير على الكمّ، أو بقُطبةٍ مأخوذة من ثوب الشوبك أو بني حسن، لكان كافيًا ليخلق سؤالًا في عقل طفل، ويزرع انتماءً لا تصنعه المناهج الدراسية ولا النشرات الإذاعية، بل تخلقه العادة، والبصر، والملمس، والرمز المألوف.
ولعلّ ما يدفعني لكتابة هذا المقال ليست المشاعر التي اكنها للثوب في ذاته، بل الإحساس بالفجوة بين ما نلبسه وما نحن عليه، خاصّة بعد أن أعلنت المملكة العربيّة السعوديّة اعتماد زيّ موحّد في المدارس يحمل رموزًا من تراثها، فقط عندها بدأتُ أتساءل: لماذا لا نملك زيًّا مدرسيًّا يُشبهنا؟ لماذا لا نُدرِج في ملابس أبنائنا خيطًا من خريطة بلادهم، قطبةً من نسيجها، لونًا من ترابها؟
وحين بحثتُ عن تاريخ الزيّ المدرسيّ في الأردن، وجدتُ فجوةً في السرد والاهتمام، فبحسب "دليل السياسات المدرسيّة" الصادر عن وزارة التربية والتعليم، بدأ اعتماد الزيّ الموحد في التسعينيّات، لأهداف تنظيميّة تتعلّق بالانضباط وتقليل الفوارق الطبقيّة، دون أي ذكرٍ للبعد الثقافي أو الهوية الوطنية، كما وتؤكّد دراسةٌ نُشرت عام 2010 في "المجلة الأردنية للعلوم التربوية" بعنوان "السياسات التعليمية في الأردن وتأثيرها على الهوية الوطنية"، أنّ الزيّ استخدم كأداة ضبط، لا كأداة انتماء.
وعند مقارنة التجربة الأردنية بتجارب عالميّة، نجد فرقًا في النظرة والتطبيق، ففي ماليزيا وبحسب دراسة نُشرت عام 2018، جرى دمج عناصر من اللباس التقليدي في تصميمات المدارس، ليكون الزيّ رمزًا مرئيًّا للهوية، أما في رواندا، فبعد الإبادة الجماعيّة، أُعيد تصميم الزيّ المدرسيّ ليُجسّد الوحدة الوطنية، ويكسر ما سبق من تفرقة بصريّة بين الهويّات.
في المقابل، ما زال تأثير التعليم البريطانيّ يُخيّم على ألوان زيّنا المدرسيّ، ففي دراسة صادرة عن "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" عام 2015، تُشير إلى أن اختيار اللون الكُحليّ والأخضر جاء بوصفه امتدادًا للنهج البريطاني في خمسينيّات القرن الماضي، لا انعكاسًا لثقافتنا المحليّة.
ويزداد وضوح هذه الفجوة حين نُراجع دراسة د. رنا الصبّاغ بعنوان "الهوية الوطنية في المناهج الأردنية"، التي تُبرز غياب الثوب الأردنيّ تمامًا من المنهج، مقابل تركيزٍ مفرط على العلم والنشيد، وكأنّ الهوية تُبنى بالأناشيد وحدها، وبحسب بحث أبو غزالة (2020)، فإنّ 62٪ من الشباب الأردنيّ لا يرتدون الملابس التقليدية إلا في المناسبات، فيما يُظهر استطلاع "جمعية الحفاظ على التراث الأردني" (2021) أنّ 45٪ من الشباب لا يستطيعون وصف الزيّ الرجاليّ بدقّة، رغم أنّ 70٪ منهم يعتبرون الشماغ والعقال رمزين وطنيّين.
أمام هذا المشهد، لا بدّ أن نسأل: أين غابت صورة الثوب عن يومنا؟ ولماذا لا يراه الطفل إلا في المناسبات؟ حيث تشير دراسة الخطيب (2017) حول "صورة التراث الأردني في الدراما التلفزيونيّة" تُؤكّد أن الثوب الأردني نادرًا ما يظهر كجزء من الحياة اليوميّة في الأعمال الفنيّة، ما يجعل حضوره هشًّا في الذاكرة البصريّة للأجيال.
ماذا لو كان الثوب جزءًا من الزي المدرسيّ، كما هو القلم والكتاب، لتعلّمه الطفل دون الحاجة إلى محاضرة أو حملة توعويّة، يمكن ان نكتفي بشريطٌ صغير، أو قُطبة واحدة، لتفتح بوّابة الانتماء، فالهوية لا تُعلَّم فقط، بل تُرتدى، وتُلمس، وتُرى، وتُصبح من تفاصيل الحياة، فقد آن الأوان أن نكسر الحاجز بين المتحف والصفّ، أن نُنزِل الثوب من واجهة العرض، ونُدخله إلى جدول الحصص، لا بوصفه قطعة قماش، بل بوصفه وثيقة، وحكاية، وخيطًا من وطن،كما ان الأوان لوزارة الثقافة و مديرية التراث المادي، التعاون مع صفحات الفايسبوك التي تشكر جهودها ف بالحفاظ على ما تبقىمنذاكرةصورية.
في السنوات الأخيرة، بدأت صحوةٌ فارقة في الأزياء الأردنية الأصيلة، وكأنّ الأرض رفّت بأهدابها وأفاقت من غفوة؛ صحوةٌ أعادت الثوب الأردنيّ إلى الحياة، لا من باب الحنين، بل من باب احقاق الحقّ حيث شهدنا ولادة علاماتٌ تجاريّة رست على شاطيء تقديم الثوب كما هو، دون تزييف أو تنميق أو حداثة حولت الثوب الى "كانفس" هجين، فأصبحنا نرى جمال زهور قصر المشتى على ثوب الشَّليل، وثوب التشاريف، وثوب بني حسن، وصرنا نسمع عن "فنطزة" و "المزيونة" وغيرها، كعلامات تحاول أن تُعيد للحكاية خيطها المفقود.
شيئًا فشيئًا، بدأت العرائس في الكرك ومادبا ومعان يفصّلن ثيابهنّ كما كانت تلبسه الجدّات، وأصبحت حفلات الحنّة مشهدًا حيًّا لتراثٍ كدنا ننساه حيث غلبت عليه التقاليد السودانية والهندية بعيدا عن الحفلات الأصيلة، وأصبحت كلمة "الخلقة"، و"الهرمزي"، و"قُطبة سبعة ثمانية"، و"المنجل"، و "بين ابرتين" كما لو أنها مفردات لغةً قديمة تُبعث من جديد، تنطق بالألوان، وبالغرزة، وبالإبرة.
وفي عز هذه الصحوه جاء مشهدُ اليوبيل الفضيّ محطةً فارقةً، حين وقف الزي الأردنيّ أخيرًا في ضوءٍ عادل، يُظهر تنوّعه بين البادية والريف، بين الكرك والمفرق، بين قمح الحقول وبيت الشعر، بألوانه، وقُطَبه، ومزاجه، ونَفَسه.
لكنّ هذا الحضور، رغم جماله، ظلّ محصورًا في المناسبات الكبرى والاستعراضات الرسميّة، ولم يتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليوميّة كما ينبغي، فلا تزال المدارس تكتفي بالمريول الأخضر أو اللباس الأزرق، دون خيطٍ واحدٍ يمتدّ إلى ذاكرة المكان، أو يهمس بانتماء، وكأنّ المسافة بين الصفّ والمتحف لا تزال قائمة، وكأنّ الطفل لا يستحق أن يرى نفسه في ما يرتديه، أو أن يعرف أن ما تلبسه جدّته لم يكن مجرّد ثوب، بل وثيقة مصنوعة بالإبرة والخيط، وثيقة تحمل ألوان الأرض ومزاج الناس وملامح البيوت والحقول، لو دخل هذا الزي إلى المدرسة، حتّى وإن كان بشريطٍ مُطرَّزٍ صغير على الكمّ، أو بقُطبةٍ مأخوذة من ثوب الشوبك أو بني حسن، لكان كافيًا ليخلق سؤالًا في عقل طفل، ويزرع انتماءً لا تصنعه المناهج الدراسية ولا النشرات الإذاعية، بل تخلقه العادة، والبصر، والملمس، والرمز المألوف.
ولعلّ ما يدفعني لكتابة هذا المقال ليست المشاعر التي اكنها للثوب في ذاته، بل الإحساس بالفجوة بين ما نلبسه وما نحن عليه، خاصّة بعد أن أعلنت المملكة العربيّة السعوديّة اعتماد زيّ موحّد في المدارس يحمل رموزًا من تراثها، فقط عندها بدأتُ أتساءل: لماذا لا نملك زيًّا مدرسيًّا يُشبهنا؟ لماذا لا نُدرِج في ملابس أبنائنا خيطًا من خريطة بلادهم، قطبةً من نسيجها، لونًا من ترابها؟
وحين بحثتُ عن تاريخ الزيّ المدرسيّ في الأردن، وجدتُ فجوةً في السرد والاهتمام، فبحسب "دليل السياسات المدرسيّة" الصادر عن وزارة التربية والتعليم، بدأ اعتماد الزيّ الموحد في التسعينيّات، لأهداف تنظيميّة تتعلّق بالانضباط وتقليل الفوارق الطبقيّة، دون أي ذكرٍ للبعد الثقافي أو الهوية الوطنية، كما وتؤكّد دراسةٌ نُشرت عام 2010 في "المجلة الأردنية للعلوم التربوية" بعنوان "السياسات التعليمية في الأردن وتأثيرها على الهوية الوطنية"، أنّ الزيّ استخدم كأداة ضبط، لا كأداة انتماء.
وعند مقارنة التجربة الأردنية بتجارب عالميّة، نجد فرقًا في النظرة والتطبيق، ففي ماليزيا وبحسب دراسة نُشرت عام 2018، جرى دمج عناصر من اللباس التقليدي في تصميمات المدارس، ليكون الزيّ رمزًا مرئيًّا للهوية، أما في رواندا، فبعد الإبادة الجماعيّة، أُعيد تصميم الزيّ المدرسيّ ليُجسّد الوحدة الوطنية، ويكسر ما سبق من تفرقة بصريّة بين الهويّات.
في المقابل، ما زال تأثير التعليم البريطانيّ يُخيّم على ألوان زيّنا المدرسيّ، ففي دراسة صادرة عن "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" عام 2015، تُشير إلى أن اختيار اللون الكُحليّ والأخضر جاء بوصفه امتدادًا للنهج البريطاني في خمسينيّات القرن الماضي، لا انعكاسًا لثقافتنا المحليّة.
ويزداد وضوح هذه الفجوة حين نُراجع دراسة د. رنا الصبّاغ بعنوان "الهوية الوطنية في المناهج الأردنية"، التي تُبرز غياب الثوب الأردنيّ تمامًا من المنهج، مقابل تركيزٍ مفرط على العلم والنشيد، وكأنّ الهوية تُبنى بالأناشيد وحدها، وبحسب بحث أبو غزالة (2020)، فإنّ 62٪ من الشباب الأردنيّ لا يرتدون الملابس التقليدية إلا في المناسبات، فيما يُظهر استطلاع "جمعية الحفاظ على التراث الأردني" (2021) أنّ 45٪ من الشباب لا يستطيعون وصف الزيّ الرجاليّ بدقّة، رغم أنّ 70٪ منهم يعتبرون الشماغ والعقال رمزين وطنيّين.
أمام هذا المشهد، لا بدّ أن نسأل: أين غابت صورة الثوب عن يومنا؟ ولماذا لا يراه الطفل إلا في المناسبات؟ حيث تشير دراسة الخطيب (2017) حول "صورة التراث الأردني في الدراما التلفزيونيّة" تُؤكّد أن الثوب الأردني نادرًا ما يظهر كجزء من الحياة اليوميّة في الأعمال الفنيّة، ما يجعل حضوره هشًّا في الذاكرة البصريّة للأجيال.
ماذا لو كان الثوب جزءًا من الزي المدرسيّ، كما هو القلم والكتاب، لتعلّمه الطفل دون الحاجة إلى محاضرة أو حملة توعويّة، يمكن ان نكتفي بشريطٌ صغير، أو قُطبة واحدة، لتفتح بوّابة الانتماء، فالهوية لا تُعلَّم فقط، بل تُرتدى، وتُلمس، وتُرى، وتُصبح من تفاصيل الحياة، فقد آن الأوان أن نكسر الحاجز بين المتحف والصفّ، أن نُنزِل الثوب من واجهة العرض، ونُدخله إلى جدول الحصص، لا بوصفه قطعة قماش، بل بوصفه وثيقة، وحكاية، وخيطًا من وطن،كما ان الأوان لوزارة الثقافة و مديرية التراث المادي، التعاون مع صفحات الفايسبوك التي تشكر جهودها ف بالحفاظ على ما تبقىمنذاكرةصورية.
نيسان ـ نشر في 2025-04-07 الساعة 14:04
رأي: ريمان الدويك