اتصل بنا
 

علامات الطريق .. حين لا يتحدث الإسفلت ويُجرَّم السائق (6)

نيسان ـ نشر في 2025-07-10 الساعة 10:29

نيسان ـ علامات الطريق ليست خطوطًا ملوّنة على الإسفلت، بل لغة الحياة ونظام العدالة على الشارع. هي الحاسة البصرية للطريق، وسلاحه الوقائي الأول.
وفي أدلة تصميم الطرق، لا يُفتح طريق ولا يُرخّص تصميم قبل أن تُستكمل العلامات الأرضية وفقًا لمعايير صارمة، لأنها هي من تُنظّم حركة المركبات، وتُرشد المشاة، وتُحدّد الأولويات، وتمنع التقاطعات العشوائية، وتُقلّل زمن التعرض للخطر، وترفع كفاءة الطريق دون الحاجة لتوسعته.
على شبكة طرقنا، ورغم ما نواجه من حوادث وإصابات، فإن غياب العلامات الأرضية هو القاعدة لا الاستثناء. معظم الطرق – داخل المدن وخارجها – لا تحتوي على خطوط واضحة، وإن وُجدت فهي باهتة، مطموسة، أو غير متسقة مع السياق الهندسي. لا إشارات توقف، ولا فواصل بين المسارب، ولا خطوط عبور للمشاة، ولا أسهم اتجاهية، ولا خطوط إبطاء عند المدارس أو التقاطعات. حتى العلامات الخاصة بالمشاة (مثل Zebra Crossings) نادرة، وإن ظهرت فهي بلا صيانة، بلا إنارة، وغالبًا بلا احترام.
في مداخل المدارس، تُفاجَأ بسيارات مسرعة لا تدري أن خلف الحائط أطفالًا يعبرون. في الدواوير، لا خطوط تُرشد السائق إلى كيفية الدخول والخروج. في التقاطعات، لا شيء يُنظّم الأولويات. والسائق؟ يُترك وحده يجتهد، يخطئ، ويتخبط. والمشاة؟ يترنحون على الإسفلت، يعبرون عشوائيًا، ويبقون وقتًا أطول في منطقة الخطر لأن لا أحد رسم لهم طريق النجاة.
الدهانات الأرضية – كما تؤكد الأدلة التصميمية البريطانية (DMRB) والأمريكية (MUTCD) والأردنية إن وُجدت – ليست تفصيلًا تجميليًا، بل عنصر حاسم في ضبط السلوك المروري وتقليل التصادم. فهي تشمل (لا للحصر):
١) علامات تنظيمية: خطوط بيضاء وصفراء، ممرات مشاة، خطوط توقف.
٢) علامات تحذيرية: أسهم إبطاء، رموز أرضية، كتابات مثل “SLOW” أو “SCHOOL”،… الخ.
٣) علامات إرشادية: أسهم اتجاهات، أرقام المسارب، خطوط دمج أو تجاوز،…الخ.
٤) علامات خاصة للمشاة وذوي الإعاقة: دهانات خاصة بهم، مسارات بارزة، رموز إرشادية،…الخ.
وفي المقابل، تُظهر كروكيات الحوادث في الأردن لعام 2024 أن 2.2٪؜ فقط من مجموع حوادث الإصابات نُسبت إلى غياب العلامات الأرضية، رغم أن الغياب يكاد يكون شاملًا. وهذا يدل على خلل في التشخيص والتوثيق، ويُغيّب الطريق وعناصرها المختلفة كعنصر فاعل في وقوع الحوادث.
والمفارقة الأكبر أن المركبات الحديثة، المزوّدة بأنظمة ذكية تبقيها في مساربها وتمنع انحرافها، تصبح عاجزة عندنا، لأن حسّاساتها لا تجد خطوطًا لتقرأها، فتصبح التكنولوجيا عمياء، والسائق متّهمًا، رغم أن الطريق لم يخبره بشيء، ولم يرسم له حتى حدود الأمان.
السائق لا يختار أن يدهس أحدًا، ولا يعرف هوية من يعبر أمامه فجأة، لكنه يُدان وكأنه قاصد. يُحاسب وحده، بينما يُبرّأ الطريق، وتُنسى الجهة التي لم تضع خطًا، ولم ترسم إشارة، ولم تصن علامة. فالخط الذي لم يُرسم قد يكون هو القاتل، والممر الذي غاب هو الفخ.
الخلل ليس في المخصصات. فالدهانات واللوحات البصرية لا تُكلّف الكثير، بل أقل من فاتورة إسعاف أو شاهد قبر.
الخلل الحقيقي هو في غياب المتخصصين في هندسة النقل والمرور والسلامة، وفي ضعف إدراك الإداريين في الجهات المسؤولة عن شبكة الطرق، لما يجب أن يكون.
ولا نقول هذا خصومة، ولا ملامة، بل توصيف دقيق لحالة مزمنة من الإهمال وضعف المعرفة والرقابة. ومقولة “الإنسان مسؤول عن 95٪؜ من الحوادث” يجب أن تُدفن. فهي ليست قاعدة علمية ولا هندسية، بل شماعة تُعلّق عليها أرواح الأبرياء وتُغفل الأسباب البنيوية.
المطلوب أن تُدرج علامات الطريق كعنصر رئيسي في تحليل الحوادث، وأن يُطالب المحامون بالمرافعة وبمساءلة الجهات التي لم تُنفذ التوصيات الهندسية، لا فقط الدفاع عن سائق لم يجد دليلًا على الطريق. فالتقصير منهجي، لا جزئي.
لقد آن الأوان أن نتحدث بلغة الطريق. أن نُعيد الخط الأبيض والأصفر إلى مكانه، قبل أن نرسم الخط الأحمر حول ضحية جديدة.
هذه المقالة السادسة في سلسلة فكّ ألغاز الترهل في هندسة النقل والمرور والسلامة. وسنواصل، لأن من ماتوا لا صوت لهم….
والله ولي التوفيق..

نيسان ـ نشر في 2025-07-10 الساعة 10:29


رأي: د. نضال القطامين

الكلمات الأكثر بحثاً