بذور العنف التى نزرعها
فهمي هويدي
كاتب عربي
نيسان ـ نشر في 2015-06-27 الساعة 06:40
علمنا من العنوان الرئيسى لجريدة الصباح أن ثمة توجيها رئاسيا فى مصر بإعداد مناهج دراسية جديدة تحض على نبذ العنف والتطرف (الأهرام ٢٤/٦)،
فى اليوم التالى مباشرة أبرزت الصحيفة ذاتها على الصفحة الأولى أن قرارا صدر بوقف إعلان تليفزيونى عن البطاطس بدعوى أنه يحرض على العنف.
وفى نفس الأسبوع قرأنا انه بدأ إرسال قوافل للعلماء إلى ١٥ دولة فى أنحاء العالم للدعوة إلى السلم وتحصين الشباب ضد الغلو والتطرف.
وهى إشارات لا تخفى فى دلالتها ان موضوع العنف والتطرف أصبح يحتل أولوية قصوى فى الخطاب السياسى فضلا عن الإعلامى.
وهو تشخيص قد لا اختلف كثيرا معه، رغم اننى أحذر من التعميم فيه لأن العنف الحاصل تختلف أسبابه ومصادره من بلد إلى آخر.
إذ هو فى العراق صراع مثلا طائفى بينما هو فى مصر من تجليات الصراع السياسى وهو فى ليبيا صراع قبلى.
وإذا كان الاختلاف حول التشخيص محدودا، فإنه فى التأصيل والعلاج أكبر.
وخلافى فى التأصيل راجع إلى اننا نحارب خصما لا نعرف مصادره بالضبط، ونستخدم فى ذلك أسلحة وأساليب مشكوك فى جدواها، متصورين أننا بمثل الإجراءات التى أشرت إليها يمكن ان ننتصر بها فى المعركة التى لا حدود لها.
تذكرنى حفلة الإجراءات والبيانات التى نتصور أنها تحارب العنف بمقولة سمعتها من أستاذ الفلسفة الأشهر الدكتور زكى نجيب محمود انتقد فيها طريقة التفكير فى حل المشكلات والأزمات فى مصر، التى ذكر أنها تتسم بالتبسيط والكسل العقلى.
ذلك أننا نعمد إلى تحرير مذكرة أو ملء استمارة أو إصدار قرار إدارى.
ونعتبر ان مثل هذه الخطوات كفيلة بتوفير الحل. كما انها تغنى عن البحث وتحرى الجذور والعوامل الاجتماعية أو البيروقراطية التى أفضت إلى المشكلة.
بمعنى أن التفكير السائد يتجاهل الخلفية والجذور، ويستسهل تشكيل اللجان وعقد المؤتمرات وإصدار البيانات والتوصيات معتبرا انها كفيلة بتحقيق المراد.
لست أشك فى أن وزارة التربية والتعليم مثلا سوف تستقدم الخبراء وتعقد اللجان التى ستناقش ما تعتبره تنقية للمناهج الدراسية من أية إشارات تعتبرها مشجعة أو يشتم فيها تسويغ التطرف أو العنف، ولن تألو جهدا فى إضافة ما تعتبره داعيا إلى المحبة والتعايش والسلم الأهلى.
ولا اعرف كم من الوقت يمكن ان يمر لكى يدرك هؤلاء أن دلائل العنف مازالت كما هى، وان كلام الكتب ان لم يكن قد تبخر فى حينه، فإنه نسى فى العطلات ولم يحدث أى تغيير فى السلوك.
وما يقال عن الكتب يسرى على الخطب التى يلقيها المبعوثون فى جولاتهم، وعلى قرار حجب إعلان البطاطس أو أية إعلانات أخرى مماثلة.
من المفارقات التى تثير الدهشة اننا فى الوقت الذى تعبأ فيه الجهود للتصدى للعنف المجتمعى من خلال الإجراءات والمؤتمرات والبيانات، فإن عنف السلطة يستمر ويتم التسامح معه وتبريره وتشجيعه فى بعض الأحيان.
خذ مثلا المظاهرات السلمية التى يحشد البلطجية لإجهاضها وتتصدى الشرطة بالخرطوش لإيقافها وتتولى المحاكم العسكرية ترويع المشاركين فيها.
هذه الأصداء لا تعد فقط من مظاهر العنف الذى يقهر الشباب ويقمعهم، ولكنها تبعث برسالة إليهم تلقنهم دروسا فى ممارسة العنف، وتقنعهم بأنه الوسيلة المعتمدة لحسم الخلافات.
أضف إلى ما سبق قائمة الانتهاكات التى تصدر عن الشرطة ولا يحاسب عليها أحد، وتتناقل أخبارها مواقع التواصل الاجتماعى طول الوقت.
زد على ذلك مهرجان المحاكمات والاعدامات واستخدام القانون للتضييق من الحريات والالتفاف على الطوارئ.
حينئذ ستدرك ان هذه كلها ليست من علامات التسامح أو الاعتدال. لكنها فى جانب منها بمثابة جهد حثيث لنثر بذور العنف وإشاعة المرارات والثأرات.
وحين يهلل البعض لاستخدام القوة فى فض الاعتصامات والتظاهرات.
ويلوح آخرون باقتحام بيوت المعارضين وتصفيتهم.
وحين يتحول نفر من المثقفين والإعلاميين إلى شبيحة يحرضون على القمع والاستئصال.
فإن هذه الأجواء تشيع نوعا من الهيستريا يهيج المشاعر ويمحو كل أثر لخطاب نبذ العنف.
إن أحد أهم الوسائل الفعالة فى محاربة العنف ان تقدم السلطة النموذج، وتضرب المثل فى التسامح واحترام القانون والدستور.
ذلك ان المجتمعات تربى ولا تلقن،
وصدق من قال بأن كل نظام يستنبت المعارضة التى يستحقها.
من ثم فإن الاكتفاء بوعظ الناس لا يجدى، لأن الكلام يفقد رنينه إذا لم يكن معبرا عن حقيقة تمشى على الأرض. ولو أن الكلام وحده كافيا لما قيل ان الله يزع بالسطان ما لا يزع بالقرآن.
ذلك ان المجتمع الذى يرفل فى الحرية والتسامح وترفرف عليه رايات العدل يعلم الناس فضائل التعايش الكريم التى ننشدها.
أما ذلك الذى يسوده البطش والظلم فإنه يستخرج من الناس أسوأ ما فيهم، والعنف من الإفرازات الطبيعية فى هذه الحالة.
إن ما نفتقده حقا ليس موعظة أو مقالة أو مؤتمرا لهجاء العنف والإشادة بالتسامح والاعتدال، وإنما بيئة ثقافية وسياسية تجسد ذلك التسامح بما يحث الناس على التخلق به واحتذائه.
وإذا خلصنا إلى ذلك فسندرك أننا أحوج ما نكون إلى تجديد الخطاب السياسى وإلى ثورة فى الفعل السياسى تعيد الاعتبار لقيم العدل والحرية وتنتشلنا من مستنقع الاستقطاب والكراهية والتبشير بإبادة الآخر.
وحينئذ فقط نستطيع أن نتفاءل بالانتصار فى المعركة ضد العنف والإرهاب.
المصدر: الشروق الجديد