مفلح العدوان .. فتى الجبال يوثق همس القرى وأنّاتها
نيسان ـ نشر في 2018-03-29 الساعة 08:52
محمد قبيلات...بعد طول صمت، ها هي القرى تبوح، وما كان لها هذا لولا ذلك الفتى المتحرش بالذاكرة، الذي نبش في الحواكير، وسلك الوديان، وارتقى الجبال، وأزاح غبارات سديمية عن بيوتات طواها الزمان بنسيانه، بيوت لا نعرف كم لبثت في سباتها.
انطلق عبر وديان الذاكرة وشعابها باحثا عن سر الانتقال من ثقافة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل، مخترقا تشكيلات الزمان وتلويناته الباهتة، تلك المنسدلة على نوافذ هشمتها التواريخ المفتعلة لتتركها طيّ الغفلات.
فكانت ضالة مفلح وغايته، دائما، أن يصل إلى مكنونات الأسرار المتروكة حكايا صموتة ومغلفة بالنسيان.
نعم؛ لقد أنطقَ مفلح القرى، ولأن نصيبه من اسمه كبير أفلح، فخاض المغامرة واثق الخطوة غير آبه بأية مفاجآت، حتى صارت صنعته التي يحدب عليها كحرفي ماهر حدّ التقانة، فوثّق بالصوت والصورة همس القرى وأنّاتها، متحديا حداثة المدينة وبهرجها وضجيجها، فاتحا الباب على سواليف القرايا وكأنه أراد أن يذكر السرايا بهذه القصص المدرجة على رفوف الإهمال.
ومن دون إيغال أو غلو أو إسفاف، يأخذنا على جناح الكلمة المقتصدة الباذخة، وبأسلوبه السلس، إلى أمكنة صنعت التاريخ، وإلى جدران ما زالت واقفة تحكي قصة الانتصار على قسوة الطبيعة وعواملها العتيدة، جدران بمثابة الشهود العدول على من وقفوا هنا في مواجهة الجدب بكل أشكاله وألوانه.
لقد مرَّ كثيرون في هذه الديار، وأكثر منهم حاولوا العبث لغرض إضاعة الاثباتات والأدلة، لكن صورة واحدة من تلك التي التقطها مفلح كانت كفيلة بأن تظهر الحق الأبلج وتزهق الباطل اللجلج لتحيله كما كان زهوقا على الدوام ليس له من مستقر غير مرض السريرة.
كم مرَّ من غزاة وفاتحين؟ كم مرَّ من عابري سبيل؟ كم مرَّ من هاربين ومقهورين؟ كم مرَّ من دعاة ومبشرين؟ كم مرَّ من تجار ولصوص وأفاقين؟ وكم كانت هذه الديار خط الدفاع الأول عن الآخرين؟ لكن هذه الأرض سجلت صمودها، لقد ظلت الأحلام الكبيرة تعنون حداءات أبنائها من العسكر والبدو والفلاحين.
يا لها من صور وحكايات آسرة! يا لها من كوّات تفتح على القلب النار والشجون!
لقد صعد مفلح العدوان تلك الجبال كلها وولج كهوف الذاكرة جميعها وصفن مطولا أمام الأشجار المعمرة، دخل إلى ثنايا الشقوق في جذوعها، كما رصد التجاعيد على ملامح الكهول، في تحسس لعلامات الزمن وآثاره. عن سبق إصرار وترصد، سلك بنا مفلح العدوان تعرجات الدروب المفضية إلى كنه الزمان ليصل بنا إلى تلك النكهات المعتقة التي ضيّعناها في معمعة الحاضر.
في الجنوب، تحديدا في بيضاء معان، رأى في عين الشمس حورية ألقت ألوان قميصها الوردية على الصخر لتغوي العشاق، فأي جمال هذا الذي يسكبه على الصورة؟ يا له من ساحر!
أما في الشمال؛ فقد توقف في أم الجمال مقابل قوس قنطرة تعلوه نافذة تطل إلى مدى بعيد، نافذة مشرعة على الأعالي، تنفتح من جدران شيدتها قلوب بيضاء بحجارة سمراء، نافذة تطل إلى طريق القوافل بين البتراء وتدمر لتجمع تلك القصص التي كانت تحكي سير الأمجاد التليدة.
قال مفلح العدوان عبر هذا البوح: نحن هنا، قبل انفعالات وفهلوات السياسة، قبل التاريخ المكتوب، وقبل الجغرافيا الطارئة.