خالتي أم العبد
محمد جميل خضر
قاص واعلامي اردني
نيسان ـ نشر في 2018-06-11 الساعة 12:34
قدر خالتي دنياز (أم العبد) أن يترجّل أولادها الراحلون بعيداً عن الأردن التي شكّلت مقامهم بعد الهجرة من فلسطين. بدأت قصة رحيل ضناها بعيداً عنها، مع بكرها ميسر العيساوي، التي قضت في سجون النظام السوري. ميسر أودعت نهايات العام 1986 أحد معتقلات حافظ الأسد، وما هي سوى شهور معدودة حتى تحوّلت من سجينة إلى مفقودة، ومن اسم وذاكرة ونضال ومواقف إلى مجرد رقم. كل ذنبها أنها رفضت الانشقاق عن حركة فتح كما فعل بعض كوادر الحركة هناك بالترغيب مرّة والترهيب مرّات من قبل النظام المجرم. واصلت خالتي دون كلل ولا ملل ولا يأس مشوار بحثٍ عنها امتد على مساحة عقدين من الزمان، قبل أن تصلها إشارات وتلميحات وصلت حد الوضوح أن التي تبحث عنها ماتت. لا نعرف ولا تعرف خالتي متى ماتت ولا كيف ولا أين دفنت. هكذا جرى محو أثر إنسانة من الوجود لمجرد أن نظام يتزنر بالطغيان والفساد وترهل مؤسساته قرر أن يخفيها دون أي اعتبار لحقّها بالحياة والدفاع عن نفسها ومواقفها وخياراتها السياسية والنضالية، ودون اعتبار لحق أهلها بمعرفة مصيرها.
ثائر آخر عنقود خالتي أم العبد، قضى هو الآخر في عزِّ شبابه، سافر شتاء عام 1992 إلى بغداد وعاد منها داخل تابوت. وأذكر أيامها أن عبد اللطيف ابن خالتي الذي رحل أول من أمس رحمه الله، قام بجهود مضنية وسافر للعاصمة العراقية كي يستكمل إجراءات نقل جثمان أخيه من بغداد إلى عمّان.
ولا أنسى ما حييت دموع عبد اللطيف وهو يقنع خالتي أن لا تفتح التابوت لتبقى محتفظة بأبهى صورة لصغيرها الذي فُجِعْنا جميعنا برحيله قبل أن يبلغ عامه الخامس والعشرين. كان عام السبع شتوات الكبيرات، وبقينا نذهب لبيت خالتي أسبوعاً كاملاً قبل أن يصل الجثمان، والدتي بقيت في بيت خالتي وأنا وأشقائي كنا نذهب يومياً، وفي الأيام التي تعطل فيها السير تماماً بسبب تراكم الثلوج، كنا نذهب من جبل الحسين إلى المحطة حيث بيت خالتي سيراً على الأقدام.
وها هو أخيراً عبد اللطيف يواصل تراجيديا الموت المعجون بالوجع والسفر والغربة وضياع لحظات التملي الأخيرة من راحل عند أبواب الرحيل.
يقيم منذ سنوات قليلة فقط في القاهرة، وفيها مات إثر تعثر عملية جراحية عادية ولمّا يصل بعد لعامه الستين (رحل رحمه الله وأكرم مثواه عن 58 عاماً).
فهل ينبغي للتغريبة الفلسطينية أن تظل تتناسل وتنتقل من شكلٍ لآخر.
ورغم قوتها الاستثنائية، وخروجها كل مرة من محنة مرض أو عارض، أكثر قوة وصلابة، ورغم تاريخها المشع بوميض فلسطين ومباهج البلاد ودبكات الفرح وأهازيج الأعراس، إلا أن مصابها بولدها عبد عقّد أصابع تمسكها بالأمل، وقد لمحت أمس في المستشفى (مستشفى فلسطين لتكتمل المفارقات) الذي نقلناها إليه بعد سماعها خبر عبد اللطيف، أن البريق الذي عودتنا عليه خبا. ربما ليس تماماً، فعندما شدّتني من أذني عناقاً ولوعة، لاحظتُ أن في تلك الأصابع التي رفعت علامة النصر آلاف المرّات، جموحاً معجوناً من عصبٍ متينٍ ومعدنٍ أصيلٍ لا يقدر عليهما لا الدهر ولا الموت. عصبٌ لن تنال منه النوائب جميعها.
نيسان ـ نشر في 2018-06-11 الساعة 12:34
رأي: محمد جميل خضر قاص واعلامي اردني