اتصل بنا
 

كنت شاهدا على المأساة

نيسان ـ نشر في 2018-06-14 الساعة 02:52

نيسان ـ


أتحدث كمواطن وشاهد، ممن كانوا وسط المعمعة، لا للتجرد من هويتي الحزبية المعروفة، ولا من كوني عضوا في المجلس الوطني، ولكن كإنسان مثلي مثل المئات الذين سمعوا الدعوة فلبوها، وسمعوا عن قرار منع التجمع فاستنكروه ورفضوه (وهذا حقهم الذي لا جدال فيه)، فكانت هذه مشاعري وانطباعاتي.
أثناء توجهي لمكان الفعالية، شاهدت ناقلات الجنود، جنود مدججون بالهراوات ويعتمرون الخوذ، ملابس سوداء، عشرات وعشرات من الجنود، رام الله تحولت إلى ثكنة، مرت في ذهني مشاهد تلفزيونية عن الانقلابات العسكرية، تساءلت إن كان الأمر يستحق كل ذلك؟!
عند المفارق والزوايا مجموعات من الجنود أو القوات الخاصة. يغلقون المنافذ، قلت ربما حددوا نطاقا يمنعون الفعالية/ المسيرة من تجاوزه، كمنع توجههم إلى المقاطعة مثلا، لكن أعداد الجنود تتكاثر كلما اقتربت من المنارة.
عند المنارة كانت المواجهة الأولى: مجموعات من العساكر المزودين بالتروس أو الدروع والهراوات يندفعون بشكل موحد وعنيف ليطردوا المتظاهرين ويبعدوهم بالعنف والضرب والدفع، وضابط يصيح في السماعة : على جميع الأخوة المدنيين إخلاء الشارع فورا! بين لحظة وأخرى، يأتي مجموعة من العساكر يمسكون بشاب وينهالون عليه ضربا طوال الطريق، ويقتادونه إلى مركبة اشبه بالزنزانة، اسفرت هذه الهجمة عن إبعاد الشباب إلى زاوية أخرى للشارع حيث تبلورت كتلة متماسكة من المتظاهرين وسط شارع ركب.
الهجمة الثانية: فشلت الهجمة الأولى في إبعاد المتظاهرين نهائيا، فعدد الشبان بالمئات وبينهم نسبة لا بأس بها من النساء، هنا كان التكتيك الثاني، واستخدام قنابل الغاز السام والحارق، وقنابل الصوت، وربما إطلاق النار في الهواء لترويع الناس. ولم يتوقف الدفش والضرب والشتائم ولا عمليات 'خطف' الشبان المركزة، ولا الهجمات المتكررة لمجموعات كبيرة من الشبان بالزي المدني وهم يصيحون ' أبو عمار قالها فتح ونحن رجالها' وأبو عمار بريء من هؤلاء الذين يستخدمون اسمه للهجوم على أبناء شعبهم.
ابتعد العشرات من المشاركين بسبب الغاز، وقد نلت كغيري نصيبي منه، لكن الفعالية ظلت كبيرة ومتماسكة، واشتدت الهتافات ' حرية حرية... غزة غزة .. وحدة وحدة وطنية'، وسط ذلك كنت ترى مجموعات العسكر باللباس المدني يواصلون مطاردة الشبان والفتيات، يسحبون بعضهم، يلاحقونهم إلى داخل المطاعم والمحلات التجارية، بعض العساكر حرصوا على تمرير السيارات والمركبات بالقوة، يبدو أنهم انتبهوا إلى أنهم حريصون على حق الناس في التسوق والتبضع للعيد، ولم يفطنوا إلى أنهم أمطروا الناس بقنابل الغاز وطلبوا إلى المدنيين إخلاء الشارع.
الهجمة الثالثة
هنا كان الاستخدام الأبشع للتنظيم والزي المدني، حضرت قوة قوامها العشرات يرتدون طواقي فتح، وسارت وتحركت بنسق عسكري منظم، فاختطفت المزيد من الشبان والصبايا، وافتعلت عددا من المشاجرات، وواصلوا الضرب المبرح، صادروا الكاميرات والهواتف النقالة، وأحيانا كانوا يقيمون حلقات للهتاف.
حاول عدد من الشخصيات السياسية المعروفة التدخل للتهدئة أو لحماية الشباب والحد من العنف، وكذلك فعلت بعض السيدات والمشاركين من كبار السن، بلا طائل، كانت هذه الهجمة هي الأعنف، لكنها هي أيضا لم تفلح في كسر الفعالية.
خلاصات سريعة واولية
- بعض الاصدقاء والمشاركين شبهوا الهجمة بموقعة الجمل المصرية سيئة الصيت، ولا أدري حقيقة الزج بالمدنيين ومنتسبي التنظيم لتنفيذ واجبات القمع العسكري، هذا أمر جلل يحتاج إلى تحقيق، وهو يسيء أول ما يسيء لحركة فتح، التي يأبى مناضلوها وتاريخها ومكانتها الطبيعية أن تُزجّ في قمع من تختلف معهم من شركائها الوطنيين.
- كانت مشاركة رمزية مهمة من فعاليات الداخل 'حراك حيفا' ولا شك أنهم اصيبوا بالأسى لما جرى.
- بشكل عام لم يخرج المشاركون عن حدود الهدف الذي جاءوا من أجله، وهو غزة والمطالبة برفع العقوبات، حين سألت أحد الضباط عن سبب كل هذا العنف والقسوة أجابني وكأنه مقتنع بما يقول ' مش شايف كيف بطعرصولنا؟؟؟ '
- كل القمع الذي استخدم لم يفلح في كسر الفعالية، التي أوصلت رسالتها بشكل أقوى مما كانت تخطط، وهذا يبشّر بوجود إرادة وزخم واستعدادات كفاحية عالية ، واستعداد لتحمل النتائج لدى الشباب.
- ثمة أخبار عن 15 مصابا في المستشفى صودرت هوياتهم، واعتقل بعضهم وقدّر عدد المعتقلين ب 80 شخصا بينهم ثلاث فتيات بحسب شهادات الشهود، ومنهم الرفيق أحمد الهندي الذي اعتقل وتعرض لضرب مبرح.
- لا شك أن الضرر والأذى والإساءة الذي لحق بالسلطة وأجهزتها أكبر بألف مرة من الضرر الذي كان يمكن أن يحصل لو تُرك المشاركون يهتفون ويعبرون عما يريدون، هذا الضرر لا يمكن إصلاحه ببيان توضيحي منمق، بل هو بحاجة إلى مراجعة مبادىء الشراكة الوطنية ودور المؤسسات السياسية، ومدى احترام الأجهزة للقانون والدستور، والتزاماتها بالاتفاقيات الدولية التي وقعتها، كما أن من حقنا أن نتساءل عن عقيدة الأجهزة الأمنية، وما الذي زرع في بعض منتسبيها كل هذا الحقد والكراهية و'الغلّ' تجاه المشاركين.
- كان يمكن أن يوفّر الحضور السياسي والمجتمعي والمؤسسي الوازن بعض الحماية للمتظاهرين، وربما يحرج المسؤولين عن هذه المأساة في تاريخنا الوطني.
- ثمّة مؤشر مروّع ينبىء عن ارتفاع منسوب العصبوية، وبروز نزعات هي للميول الفاشية أقرب، وأعتقد أن هذه النزعات مرشحة للصعود مع استمرار الفشل في مواجهة التحديات الوطنية والاجتماعية.
كان مشهدا بائسا ومأساويا، مخجلا ومحزنا، كلنا نأمل ألا يتكرر وأن نسارع لاستخلاص العبر، لعلنا نوقف التدهور قبل أن تفوت الفأس في الرأس

نيسان ـ نشر في 2018-06-14 الساعة 02:52


رأي: نهاد أبو غوش

الكلمات الأكثر بحثاً