أبو راس
د. سالم الأقطش
أكاديمي أردني
نيسان ـ نشر في 2015-04-07
كانَ يعملُ بجدٍّ في أرضه التي ورثها عن والده، ويشكو إلى كلّ مَن يلقاهُ تضييقَ الحكومةِ الخنّاقَ على المزارعين، وعدم الاكتراث لهم ولهذا القطاع كله، نصحه الناسُ قائلين :" أنت عقلك نظيف، ولازم تكمّل بكالوريوس وتتعين في إحدى الوظائف الحكومية "، أخذ نصحهم على محمل الجدّ، وباعَ دونما من أرضه، وبدأ مشواره مع التعليم حتى انتهى من البكالوريوس بمعدل امتياز، فجاءه الناس زُرافاتٍ ووحدانا مهنئين مباركين، وكعادتهم نصحوه قائلين:" لازم تكمّل ماجستير حتى تضع لنفسك قدما في الزحام "، فما كان منه إلا أن باع دونمين من أرضه وبدأ مشواره إلى منتهاه ليحصل على درجة الماجستير بامتياز.
أخذ يسوّق نفسه في الدوائر الحكومية، ويتابع إعلانات التوظيف، ويرقب دوره في الديوان الذي لا يبارح مكانه،(هذا عادة ما يحدث لمن يتنازل عن أرضه ويلهث وراء أماني الحكومة) ذات تذمّرٍ محضة، نصحه صديقه قائلا :" يا رجل أنت شربت البحر وعجزت عن الكاسة، الماجستير هو الجسر الذي تعبر منه إلى الدكتوراه، عليك أن تتابع "، فما كان من صاحبنا إلا أن باع ما تبقى له من الأرض، وتابع رحلة الدكتوراه، ( فقد يفتح الله بابا كنت تحسبه من شدة اليأس لم يُخلق بمفتاح).
كان مجدا ونَهِما إلى العلم، ولكن الحياة تعضّه بفقرها، والعلم لا يوهب إلا إلى فقير راضٍ أو غنيٍّ لديه ما يكفيه، وبعد مخاض عسير انتهى من الدكتوراه ، وبدأ رحلة التقدّم إلى الجامعات، لم يدع مكتبا للتوظيف ولا جامعة حكومية ولا خاصة حتى وضع سيرته الذاتية، لا شيء يفعله سوى الانتظار، وكلما ذهب إلى مقابلة لدول الخليج ، قالوا له :" هل معك أبحاث ؟ هل عندك خبرة في التدريس ؟ هل لك مؤلفات ؟ " ، الجامعات غدت سوقا تجارية تهتم بالألقاب.
أخيرا صادف الرجل المناسب الذي انتظره طويلا، هو فقط الذي يستطيع وضعه في مكانه الذي يستحق، وبعد أن رحب به، وأكرم وفادته، قال له :" عليك أن تكتب ثمانية بحوث لتترقى إلى رتبة أستاذ مشارك وبعدها الجامعات كلها ستتدافع عليك بالمناكب" ، غادر المكان وليس أمامه خيار إلا الأخذ بالنّصح، فخيار العودة الى الأرض ما عاد متاحا، وهو في طريق عودته وقف على قارعة الطريق ينتظر حافلة تقله إلى بيته، فجأة توقفت أمامه سيارة (مارسيدس) فارهة لا تكاد تعرف لها لونا، ظل واجما ولم يبرح مكانه، وظن أنه سوء تقدير من السائق.
نادى عليه السائق بصوته الأجشّ ": تعال يا منحوس، شو ما عرفتني؟ ههههههه، أنا فلاح إلي كنتوا تنادوني بالصّف أبو راس " ، عطر شانيل سبورت، نظارات ريبان باللون الأزرق، بدهشة قال له صاحبنا : " آخر عهدي بك أنك رسبت بالتوجيهي، وفتحت محل أحذية، شو من وين جايب كل هالشياكة والسيارة يا أبو راس " ضحك ضحكة مسؤول وقال له : " والله النصيب، أنا الآن رئيس في الـ.....، ومسؤول عن الـ..... ، وقائم بأعمال الـ.....، ومستورد للـ....، ورئيس جمعية الـ.....) ، تنفس صاحبنا الصعداء، وقال في نفسه:" وعبدٍ قد ينامُ على حريرٍ .... وذو شرفٍ مفارشه التراب.