اتصل بنا
 

نُحِبُّ الحياة

قاص واعلامي اردني

نيسان ـ نشر في 2018-11-13 الساعة 10:02

نيسان ـ لعل الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب المنطقة والعالم شغفاً بالحياة، وانحيازاً للفرح والمسرّات. هذا أولاً، أما ثانياً، فلأنه كذلك، ولأنه كان ينشغل بتخضير الحقل عندما كانت قطعان العبرية السائبة تجوب بلاد الله بحثاً عن غفلة تتسلل من خلالها، ولأنه كان ينشغل بتوضيب خشب النايات من أجل لحن جديد، عندما كانوا يخططون لغدرٍ وضيع، فقد تمكّن بعض أشرارهم من حشر أنوفهم ببعض شأننا بالحياة والصلوات والأغنيات. لم يتركنا أعداء المحبة والحياة بحالنا، لم يتركوا الكنعانية تجهز ثوب العرس كما ينبغي وكما يليق بسالم وأسبوع الأناشيد.
مدفوعين بحسدٍ قاتل من كل هذه المدنية مقابل بربريتهم ووحشية سماتهم وشكل وجودهم في براري الكون، عبرت بعض قبائلهم عبور العابثين الذين لم يقدّموا لأبناء المجدلية وبناة الحضارة أي إضافة تُذكر. بل على العكس حاولوا سرقة المنجز الذي حين وضعوا رحالهم، وجدوه زاهراً راسخاً مجللاً بالمجد والخير والطيبة.
وقرناً بعد قرنٍ، ألفيةً بعد أخرى، لم يفعلوا شيئاً سوى تحريف الحقائق ونسج الأكاذيب وتكريس الوهم كحقيقة لا رادّ لها. سطوا على الرموز والدلالات وصادروا المرويّات، فهكذا دائماً أبناء صهيون يفعلون. هذه حقيقةٌ، ومن لا يراها ساطعة مثل شمس آب فهو أعمى بعيونٍ أمريكية. هناك في بلاد العم سام حيث تلاقت الرغائب والغرائز وجينات العدوان، وتصاهرت المسيحية الصهيونية مع اليهودية الصهيونية، وجدوا لهم موطئ قدم باغية من التأييد المطلق والمباركة الغادرة.
لا شك أنهم تعبوا على أنفسهم. تمدّدوا في مخرجات العلوم التطبيقية والاقتصاد العالمي وعالم الموضة وجمهوريات الإعلام الأكثر بلاغة وتأثيراً وتلاعباً بالحقائق والحقوق.
وبعد أن فرضوا أنفسهم كضحايا بامتياز، أرادوا، وفق المنطق نفسه، ولكن بالاتجاه المعاكس، أن يفرضوا أنفسهم كجلادين بامتياز، دون أن يعترض أحد في الكون كائناً من كان على طغيانهم وعدوانهم وجرائمهم واحتلالهم غير المشروع لفلسطين.
وكما وجدوا الكنعاني منغمساً في حقله وزيتونه ومباهج حضوره البهي في أرض أجداده وبحر امتداده نحو العالم الحُر الجميل، وجدوا الفلسطيني منغمساً أيضاً في بيارات برتقاله وزهو فرادته حضارة ومدنية وتقدماً ورقيّاً، وفي انحيازه النهائي للحياة والبناء والعمل والمحبة والتسامح، وهل من معطيات أنسب من هذه كي يجهزوا عليه مرّة ثانية كما فعلوا في أزمان بعيدة؟
شعبٌ يُحبُّ الحياة، يُبتلى بقطعان تنتصر للموت والخرافة. لا يحتاج الأمر لتوصيفٍ أكثر تعقيداً أو لتحليل غارقٍ في القراءة والفلسفة والتقعيد. الأمر مُقَعَّدٌ وحده. والمسألة مُوَصَّفَةٌ وواضحةٌ وبسيطةٌ مثل بساطة الحقل والسهل والساحل واليرغول والحنّة والحنطة والموسم والأولياء، ومثل بساطة القرى المستريحة على كتف الجبال.
وهل من دليل أسطع على حبّه للحياة من قصائد شعرائه: محمود درويش حين يصدح "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". أو حين يترنّم بنشيده الخالد: "نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ، وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ , وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ، وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ , وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ، وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً ’أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ’ أَوْضِحْ قَلِيلاَ، نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا...".
وليس إبراهيم نصر الله ببعيد عن كل هذا الحب عندما يقول: "لستُ أمضي إلى الموتِ مبتسماً.. بينَ هذي الرصاصةِ والشمسِ أرفعُ أُغنيةً.. رايةً للحياةْ.. أُحبُّ الصغارَ كثيراً ". إلى أن يهتف: "لكنني أعرفُ البحرَ منذُ صباه.. طاعنٌ في الزغاريد والعرسِ.. والشمسِ.. هذا أنا وجبينٌ إلهْ.. لا أقول لكَ الآنَ إني سأمضي إلى الموتِ.. لا أعشق الموتَ لكنّه سُلَّمي للحياةْ".
أما إذا اعتقدوا أن بحر غزّة هادئ، فإني أقول لهم إنه اعتقاد صحيح، لكنه مخاتل، فهو الهدوء الذي يسبق العاصفة، فهو ليس بحراً ابن حرام، إنه بحرٌ له آباء وأجداد وأسماك لا تعرفه إلا باسمه القديم الأصيل. وله أب يواصل بث الوصايا له، وفي وصيته الأخيرة قال له:
"أوصيكَ يا ولدي دائماً:
حين تمتدّ أرضُ السواحل عاريةً
أو يكثرُ الجندُ حولكَ
كنْ في امتدادِ السهولِ جبلْ
وكنْ أنت دولتكَ العاليةْ
حين تسقطُ خلفكَ كلّ الدّولْ".

نيسان ـ نشر في 2018-11-13 الساعة 10:02


رأي: محمد جميل خضر قاص واعلامي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً