اتصل بنا
 

أنفاس المقبرة

قاص واعلامي اردني

نيسان ـ نشر في 2019-02-14 الساعة 14:08

نيسان ـ (إلى أمّي في عيد الحب)
المقبرة تضجُّ بالحياة؛ خَلْقٌ يخرجون ومثلهم يدخلون. شيخ يُفهم المتجمهرين حول قبرٍ جديد، روعةَ الموت كبابٍ للتوبة. شيخٌ يقف على مسافة منه ويرمقه بغضب دفين: كانت هذه حصتي من الموت والخمسة دنانير فلماذا سبقتني إليها؟!
لا يعلم هذا المسكين أن الجنازة مرموقة، وأن الأمر لن يقف عند كف مريم، وقد يجني منها الشيخ الأكثر بلاغة مبلغاً سيجعله يغادر مساحة الموت الممتدة، ليُطعم أفواهاً عذّبها الانتظار.
وسط كل هذه الفوضى أبحث عن لحظتي وحدي أمام قبر حبيبتي.
لا أدري لماذا كلما قرأتُ اسمها على لحدها كما لو أنني أقرأه للمرة الأولى: (لبيبه حسن إبراهيم). أنتفض، تصيبني قشعريرة من الوريد إلى الوريد.
كنت اعترضت على من كتب الاسم فأنا أرى أن لبيبة بالتاء المربوطة وليست بالهمزة.
تاء التأنيث يا أمي يا سيدة الجميلات وشموخ النساء جميعهن.
على كل حال لم يعد لهذا الاعتراض من معنى، فهي ستبقى هي، بكل هذا التواري تحت الثرى، بكل هذا الجلال والجمال والبهاء، كما لو أن رَصْفَةَ مداميك إسمنتية وتراباً فوقه ترابٌ، لم يَفُتَّ من عَضُدِ الرهبة التي صنعتها لنفسها على مدار السنين، رغم الفقر ورغم عثرات الزمان قبل النكبة وبعدها وحتى لحظات الاستسلام داخل المستشفى العسكري.
أُقَرْفِصُ أمام مكانها الجديد بعد حتمية الموت، فقد خجلتُ أن أحمل معي أحد الكراسي الموجودة في سيارتي. أتعثر بالكلمات تماماً كما كان حالي عندما أواجهها بإخفاقٍ ما، أو ذنب صغيراً كان أم كبيراً.
كل ما قدرت على فعله أنني وعدتها أن أحمل معي لها في الزيارة المقبلة أخباراً طيبة عني وعن أحوالي وعن عالمها الكبير الذي ودّعته كما يليق بالنبيلات رفيعات الشأن والمقدار.
خجلتُ أن أقول لها (هابي فالانتاين ماما) فهي رغم كل عمق معارفها وجبروت خبراتها، مجرد امرأة أمّية من بلاد تعيسة ضائعة تُسمّى فلسطين. كانت تُسمّى فلسطين. صارت تُسمّى فلسطين. وسوف تبقى تُسمّى فلسطين.
أمّي.. حبيبتي.. حزن قلبي الصغير.. سند أيامي.. جبر خاطري.. غاليتي.. أحببتُ أن أكون معك في هذا اليوم وحدنا أنا وأنت.. ولا أدري لماذا المقبرة.. لماذا هذا اليوم تحديداً، كانت تَزْخَرُ بالحياة وتَهْدُرُ بأنفاس الناس وآمالهم؟

نيسان ـ نشر في 2019-02-14 الساعة 14:08


رأي: محمد جميل خضر قاص واعلامي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً