ورقة رابحة في يد الأنظمة الاستبدادية
إحسان الفقيه
كاتبة أردنية
نيسان ـ نشر في 2019-04-01 الساعة 14:59
نيسان ـ يقول الدكتور مصطفى حجازي في كتابه «سيكولوجية الإنسان المقهور»: «وأقصى حالات التماهي المتسلِّط تأخذ شكل الاستلاب العقائدي؛ ونقصد بذلك تَمَثُّل واعتناق قيم النظام، والانضباط والامتثال، وطاعة الرؤساء الكبار، وهي قيم تخدم – بما لا شك فيه – مصلحة ذلك المتسلِّط؛ لأنها تعزز مواقعه وتصون مكتسباته».
معظم الطرق الصوفية المغالية، مثّلت حالة الاستلاب العقائدي باعتناقها سياسات النظام الحاكم، وكانت ورقة رابحة في أيدي المستبدين، الذين استغلوا الطرق في مواجهة خصومهم من التيار الإسلامي المعارضين لسياساتهم. العلاقة بين السلطة والصوفية في كثير من البلدان العربية قائمة على تبادل المصالح، حيث تستفيد السلطة من الطرق الصوفية، التي تحتل مكانة بارزة في ثقافة المجتمعات، لخلق ودعم شرعية هذه السلطة واستقرارها، وفي المواجهة الفكرية مع التيارات الأصولية، خاصة السلفية، والإسلام السياسي، الذي تمثله غالبا جماعة الإخوان المسلمين، وذلك مقابل تمديد نفوذ تلك الطرق ودعمها ماديًا.
في مصر بلغت العلاقة بين السلطة والتصوف مبلغًا عظيمًا، ليس وليد العصر، وإنما بالنظر إلى عهد محمد علي سنكتشف أنه كان محاطًا بالصوفيين، وسعى لاحتوائهم بهدف الاستفادة منهم، فأصدر قرارًا عام 1812 يعطي الشيخ خليل البكري سلطة مطلقة على الطرق الصوفية وتكاياها وزواياها، بل جرّد الأزهر من سلطته لتصبح في يد الصوفية الذين أصبحوا يشكلون كيانًا مستقلا. الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن ذهب في كتابه «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر، إلى أن الأحزاب المصرية لم تغفل الطرق الصوفية ودورها في التعبئة الاجتماعية، خلال الفترة من 1907 إلى 1957، بعد أن حصلت تلك الطرق على الاعتراف الرسمي عام 1905 بفضل علاقتها المتينة ببعض رجال الأحزاب، على سبيل المثال حزب الوفد السياسي الليبرالي تدخل لحل مشكلة داخل إحدى الطرق الشاذلية، وسعى مصطفى النحاس زعيم الحزب لفرض مرشحه أحمد الصاوي العمراني، ليكون شيخ مشايخ الطرق الصوفية. واستغل عبد الناصر الطرق الصوفية في تثبيت دعائم حكمه والترويج لسياساته الغريبة عن التربة المصرية، حتى أنها خرجت في مسيرة كبيرة تأييدا لعبد الناصر عقب هزيمته في حرب يونيو/حزيران 1967، واستغلها في صراعه مع الإخوان المسلمين.
كما أعطى الرئيس المخلوع حسني مبارك أهمية كبيرة للطرق الصوفية ومنحها مساحة واسعة في التحرك، كإحدى وسائل التضييق على الإسلاميين، وقام بتعيين شيخ مشايخ الطرق الصوفية التفتازاني عضوا في الحزب الحاكم.
وكان للصوفية دور بارز ضد حكومة الإخوان في مصر، ولم ترحب بصعود الإسلام السياسي إلى الحكم بعد ثورة يناير/كانون الثاني، فقامت بعقد تحالفات مع القوى العلمانية والليبرالية ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي ينتمي بالأصل لجماعة الإخوان، وعقدت الطرق الصوفية اجتماعات موسعة مع عدد من الأحزاب السياسية لبحث ودراسة إمكانية التحالف، لمواجهة جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين.
وفي الجزائر، استشعرت السلطة تعاظم نفوذ الحركة الإسلامية فعملت على إحياء التصوف، وأنشأت الجمعية الوطنية للزوايا عام 1990، كما اعتمد بوتفليقة على الطرق الصوفية في دعم شرعيته، وكان مشتهرًا عنه كثرة زيارة الموالد الصوفية ودعمها بالمال، وحرص إعلامه على تغطية فعاليات الطرق، إضافة إلى عمله على إنشاء الزوايا وترميم الأضرحة، وعلى الجانب الآخر يقوم بالتضييق على الإسلاميين. وبسبب تناغم بوتفليقة مع التوجهات الأمريكية الرامية إلى تلميع ودعم الطرق الصوفية، التي تطلق عليها الإسلام الشعبي، كثّف بوتفليقة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول جهوده في دعم الطرق الصوفية.
معظم الطرق الصوفية المغالية، مثّلت حالة الاستلاب العقائدي باعتناقها سياسات النظام الحاكم
وفي تركيا رغم العلمانية الأتاتوركية التي رانت على البلاد، والتي تتجه لنبذ وإقصاء الدين، تلاقت السلطة مع الطريقة النقشبندية، والاستفادة منها في الانتخابات، وكما يقول فريد الدين آيدن، استطاعت أن تروض النقشبنديين على العمالة السياسية، بطمس الشهوة السياسية فيهم وإجهاضها، وزرع بذور الشقاق بين مشائخهم، ولم تعد السلطة تهابهم ولا تعتد بهم، بل ترتاح لكثرة عددهم ونشاطهم، لأن نجاح الأحزاب السياسية في الانتخابات العامة متوقف على دعمهم، فلا يمكن لأي حزب أن يفوز بأعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات العامة إلا أن يكون قد أقنع عددًا من شيوخ هذه الطريقة وجذبهم إلى صفوفه. وفي تلك الأوساط العلمانية، لاقى من يعرف بزعيم الكيان الموازي – المقيم حاليا في أمريكا فتح الله جولن، ذو التوجه الصوفي – قبولًا في الأوساط العلمانية التركية، ومن المعروف أنه تشدد في مواقفه من حركات الإسلام السياسي، وأيد العولمة، ورأى النأي عن السياسة كعادة هذا التيار الانسحابي. إن اهتمام السلطة بدعم الصوفية يرجع إلى أنه تيار ديني له تاريخه في المجتمعات العربية، وله تأثيره في الموروثات الشعبية، وله طرق متعددة تنبث منها طرق أخرى أصغر، فتيار بهذا التعدد والانتشار والشعبية، يضفي على السلطة نوعًا من الشرعية، وذلك لما يمثله الدين من أهمية في حياة تلك الشعوب.
تعمل تلك الأنظمة على ضرب الإسلاميين بالتيار الصوفي من خلال قناعات مغلوطة لدى هذه الطرق، أبرزها أنها ترى من الجماعات الإسلامية إدبارًا لمحبة آل البيت، بسبب إنكار تلك الجماعات على الصوفية بعض الممارسات التي تحمل قدرا من الغلو في الصالحين والأولياء وآل البيت، لذا كانوا أقرب للتلاقي مع الشيعة أكثر من تلاقيهم مع تلك الجماعات بسبب اتهام الشيعة – الإمامية خاصة – للإسلاميين من أهل السنة بأنهم نواصب، يناصبون عليا رضي الله عنه وآل البيت العداء.
إنه لمن الواجب على التيار الإسلامي التلاقي والحوار مع الطرق الصوفية، لئلا يتركها للغزو الشيعي المُمول من قبل إيران، والتي تعتبر الشيعة العرب ذراعًا لها، وكذلك ينبغي عدم ترك الصوفية فريسة للأنظمة الاستبدادية تستخدمها كورقة لشق لحمة الصف المجتمعي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*كاتبة أردنية
القدس العربي
معظم الطرق الصوفية المغالية، مثّلت حالة الاستلاب العقائدي باعتناقها سياسات النظام الحاكم، وكانت ورقة رابحة في أيدي المستبدين، الذين استغلوا الطرق في مواجهة خصومهم من التيار الإسلامي المعارضين لسياساتهم. العلاقة بين السلطة والصوفية في كثير من البلدان العربية قائمة على تبادل المصالح، حيث تستفيد السلطة من الطرق الصوفية، التي تحتل مكانة بارزة في ثقافة المجتمعات، لخلق ودعم شرعية هذه السلطة واستقرارها، وفي المواجهة الفكرية مع التيارات الأصولية، خاصة السلفية، والإسلام السياسي، الذي تمثله غالبا جماعة الإخوان المسلمين، وذلك مقابل تمديد نفوذ تلك الطرق ودعمها ماديًا.
في مصر بلغت العلاقة بين السلطة والتصوف مبلغًا عظيمًا، ليس وليد العصر، وإنما بالنظر إلى عهد محمد علي سنكتشف أنه كان محاطًا بالصوفيين، وسعى لاحتوائهم بهدف الاستفادة منهم، فأصدر قرارًا عام 1812 يعطي الشيخ خليل البكري سلطة مطلقة على الطرق الصوفية وتكاياها وزواياها، بل جرّد الأزهر من سلطته لتصبح في يد الصوفية الذين أصبحوا يشكلون كيانًا مستقلا. الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن ذهب في كتابه «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر، إلى أن الأحزاب المصرية لم تغفل الطرق الصوفية ودورها في التعبئة الاجتماعية، خلال الفترة من 1907 إلى 1957، بعد أن حصلت تلك الطرق على الاعتراف الرسمي عام 1905 بفضل علاقتها المتينة ببعض رجال الأحزاب، على سبيل المثال حزب الوفد السياسي الليبرالي تدخل لحل مشكلة داخل إحدى الطرق الشاذلية، وسعى مصطفى النحاس زعيم الحزب لفرض مرشحه أحمد الصاوي العمراني، ليكون شيخ مشايخ الطرق الصوفية. واستغل عبد الناصر الطرق الصوفية في تثبيت دعائم حكمه والترويج لسياساته الغريبة عن التربة المصرية، حتى أنها خرجت في مسيرة كبيرة تأييدا لعبد الناصر عقب هزيمته في حرب يونيو/حزيران 1967، واستغلها في صراعه مع الإخوان المسلمين.
كما أعطى الرئيس المخلوع حسني مبارك أهمية كبيرة للطرق الصوفية ومنحها مساحة واسعة في التحرك، كإحدى وسائل التضييق على الإسلاميين، وقام بتعيين شيخ مشايخ الطرق الصوفية التفتازاني عضوا في الحزب الحاكم.
وكان للصوفية دور بارز ضد حكومة الإخوان في مصر، ولم ترحب بصعود الإسلام السياسي إلى الحكم بعد ثورة يناير/كانون الثاني، فقامت بعقد تحالفات مع القوى العلمانية والليبرالية ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي ينتمي بالأصل لجماعة الإخوان، وعقدت الطرق الصوفية اجتماعات موسعة مع عدد من الأحزاب السياسية لبحث ودراسة إمكانية التحالف، لمواجهة جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين.
وفي الجزائر، استشعرت السلطة تعاظم نفوذ الحركة الإسلامية فعملت على إحياء التصوف، وأنشأت الجمعية الوطنية للزوايا عام 1990، كما اعتمد بوتفليقة على الطرق الصوفية في دعم شرعيته، وكان مشتهرًا عنه كثرة زيارة الموالد الصوفية ودعمها بالمال، وحرص إعلامه على تغطية فعاليات الطرق، إضافة إلى عمله على إنشاء الزوايا وترميم الأضرحة، وعلى الجانب الآخر يقوم بالتضييق على الإسلاميين. وبسبب تناغم بوتفليقة مع التوجهات الأمريكية الرامية إلى تلميع ودعم الطرق الصوفية، التي تطلق عليها الإسلام الشعبي، كثّف بوتفليقة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول جهوده في دعم الطرق الصوفية.
معظم الطرق الصوفية المغالية، مثّلت حالة الاستلاب العقائدي باعتناقها سياسات النظام الحاكم
وفي تركيا رغم العلمانية الأتاتوركية التي رانت على البلاد، والتي تتجه لنبذ وإقصاء الدين، تلاقت السلطة مع الطريقة النقشبندية، والاستفادة منها في الانتخابات، وكما يقول فريد الدين آيدن، استطاعت أن تروض النقشبنديين على العمالة السياسية، بطمس الشهوة السياسية فيهم وإجهاضها، وزرع بذور الشقاق بين مشائخهم، ولم تعد السلطة تهابهم ولا تعتد بهم، بل ترتاح لكثرة عددهم ونشاطهم، لأن نجاح الأحزاب السياسية في الانتخابات العامة متوقف على دعمهم، فلا يمكن لأي حزب أن يفوز بأعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات العامة إلا أن يكون قد أقنع عددًا من شيوخ هذه الطريقة وجذبهم إلى صفوفه. وفي تلك الأوساط العلمانية، لاقى من يعرف بزعيم الكيان الموازي – المقيم حاليا في أمريكا فتح الله جولن، ذو التوجه الصوفي – قبولًا في الأوساط العلمانية التركية، ومن المعروف أنه تشدد في مواقفه من حركات الإسلام السياسي، وأيد العولمة، ورأى النأي عن السياسة كعادة هذا التيار الانسحابي. إن اهتمام السلطة بدعم الصوفية يرجع إلى أنه تيار ديني له تاريخه في المجتمعات العربية، وله تأثيره في الموروثات الشعبية، وله طرق متعددة تنبث منها طرق أخرى أصغر، فتيار بهذا التعدد والانتشار والشعبية، يضفي على السلطة نوعًا من الشرعية، وذلك لما يمثله الدين من أهمية في حياة تلك الشعوب.
تعمل تلك الأنظمة على ضرب الإسلاميين بالتيار الصوفي من خلال قناعات مغلوطة لدى هذه الطرق، أبرزها أنها ترى من الجماعات الإسلامية إدبارًا لمحبة آل البيت، بسبب إنكار تلك الجماعات على الصوفية بعض الممارسات التي تحمل قدرا من الغلو في الصالحين والأولياء وآل البيت، لذا كانوا أقرب للتلاقي مع الشيعة أكثر من تلاقيهم مع تلك الجماعات بسبب اتهام الشيعة – الإمامية خاصة – للإسلاميين من أهل السنة بأنهم نواصب، يناصبون عليا رضي الله عنه وآل البيت العداء.
إنه لمن الواجب على التيار الإسلامي التلاقي والحوار مع الطرق الصوفية، لئلا يتركها للغزو الشيعي المُمول من قبل إيران، والتي تعتبر الشيعة العرب ذراعًا لها، وكذلك ينبغي عدم ترك الصوفية فريسة للأنظمة الاستبدادية تستخدمها كورقة لشق لحمة الصف المجتمعي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*كاتبة أردنية
القدس العربي
نيسان ـ نشر في 2019-04-01 الساعة 14:59
رأي: إحسان الفقيه كاتبة أردنية