اتصل بنا
 

محمد عمارة .. التنوير والوسطية والثورة

نيسان ـ نشر في 2015-07-17 الساعة 05:26

نيسان ـ

المفكر الحر، المبدع الأصيل، البحاثة العبقري، المجدد المجتهد، المناضل المنافح، الثائر دائما،... كتب مبكراً مدافعاً عن الثورة؛ الثورة بأوسع معانيها؛ ثورة الإنسان العربي في وجه كل الهجمات الحضارية والثقافية والسياسية والعسكرية والدينية: هجمة الاستعمار باسم التمدين، هجمة الصهيونية والتصهين على قدسنا ومقدساتنا، هجمة التغريب باسم التحديث، وهجمة اللادينية والإلحاد باسم العلم والحداثة، وهجمة المادية باسم العقلانية، وهجمة الاستغلال الطبقي باسم الليبرالية الاقتصادية، وهجمة تزوير التراث وتزييف العقل المصري والعربي والإسلامي، وهجمة الغلو بكل صوره وأشكاله.

وفتح آفاقا وميادين بديلة من التنوير الأصيل المنفتح على الحضارة الإنسانية، ومن الوسطية الإسلامية التي تسعى إلى تعديل ميزانٍ اختل بين التفريط والإفراط، ومن الثورية الفكرية والعلمية المكافحة من أجل الأمة والوطن وثوابتهما، والمنافحة عن الهوية والمرجعية والاستقلال الحضاري، فجدد درس التراث، ومنهج التعامل معه والاستفادة منه، وطالع ما أفرزه التاريخ الغربي، فصحح صحيحه وقبّح قبيحه، واصطف وراء قضايا الوطن والأمة، جندياً منتمياً حاذقاً منتبهاً، لا يكل ولا يمل، ولا يتغفل عن رباطه الذي يرابط عليه.

ليس شيء من ذلك بمجهول ولا غامض على من له أدنى حظ من الثقافة. فالدكتور محمد عمارة أعرف من أن يعرّف، وأشهر من أكثر هؤلاء الذين يبيعون الدين والدنيا من أجل الشهرة، وحضوره قديم متجدد، وقلمه دفاق لا ينقطع، فائض بالعلم والتثقيف والتوعية والتنوير منذ عقود طويلة، وكتاباته تملأ المكتبات الخاصة والعامة، الحكومية وغيرها، متعه الله بالصحة. كتابته وخطابه بعامة ميسّر مفسر، لا يحمل عجمة المتغربين، ولا تعقيدات الأكاديميين، بينما يتناول أعمق القضايا بمنهاج أصولي عقلي رصين، شهد له أهل العلم والفضل والفهم برسوخ القدم وعلو الكعب، والبيان لما التبس، وقوة الحجاج، وروعة الدليل، والإنصاف والاعتدال. وعرف خارج مصر شرقاً وغرباً، فهو من الأوفياء الذين قدموا للوطن الشكر والعرفان بالعلم والعمل.

فمحمد عمارة هو العلم صاحب مدرسة إحياء الأعلام، هو من حمل على عاتقه تجديد الوعي بأعلام النهوض المصري والعربي والإسلامي الحديث؛ بدءاً من رفاعة الطهطاوي، فالأفغاني، فعبده، فالكواكبي، فرضا، وغيرهم. من خلال سلسلة الأعمال الكاملة التي اقتبسها منه آخرون، ونسجوا على منوالها، وهو من كتب يوضح حقائق الإسلام، وتحديات مصر الفكرية والثقافية والسياسية، ويحرّر المفاهيم والمصطلحات، ويواجه المطاعن والأكاذيب التي توجه للملة والأمة، ويدعو إلى الطريق الوسط الجامع بين الأصالة والمعاصرة، ويتابع عن كثب وبتؤدة ومثابرة كل ما يمكن أن يصيب كياننا الحضاري بسوء، فيرصد ويسجل ويجمع البيانات والحقائق، ويتتبع الخيوط، ويسبر الأسباب والماورائيات، حتى ترتسم عنده صورة الهجمة كاملة، فيعد لها العدة، ويرصد لها من العمر ما تستحق، ويقوم على صناعته الثقيلة في تفنيد الأباطيل، ودفع السيئة بالحسنة، والإفك بالصدق، والتزوير بالتنوير، والغلو بالوسطية، والخيانة بالوطنية، والانجراف بالثبات، فما أعظم فضل الرجل علينا جميعا. وصدق فيه من وصفه: عمارة مدفعية الدفاع عن ديننا وحضارتنا وأمتنا ووطننا وثوابتنا.. عن وجودنا. وكما كان وفياً للأساتيذ، فالوفاء مبذول له من أعداد لا تحصى من التلاميذ.

هذا محمد عمارة الذي يهاجمون. هذا محمد عمارة الذي ما عاد مشايخ السلطان يطيقون. هذا محمد عمارة الذي يتهمونه بازدراء الأديان، وهو المنافح عن تعايشها وتجاورها وتحاورها بالتي هي أحسن، يتهم حين يدافع عن الإسلام، ويوضح حقائقه، ويكشف افتراءات المفترين عليه بأنه يتهجم على غيره من الأديان. لا يريدون لعمارة أن يكشف مخططات التنصير، وهي مكشوفة معلنة، واشتكت منها الكنيسة الأرثوذكسية في مصر سابقا. لا يريدون لعمارة أن يكون منصفاً يقول الحق، وينطق بالصدق. يريدونه مثلهم: يسكت حين يجب الكلام، ويبهم حين يجب البيان، ويلوي أعناق الأصول، لكي تخالف المنقول والمعقول، يريدون عمارة في عباءتهم المهلهلة، لأنهم لا يعرفونه حقاً، ولا يعرفون قدره وقيمته، وتكوينه وإيمانه.

صدع محمد عمارة بالحق في وجوه الطابور الخامس من غلاة العلمانيين الذين أرادوا تشويه صورة الإسلام وهدم حقائقه، ونسبوا إليه ما ليس منه، واستهزأوا بأركانه وبنيانه، رد عليهم كتبا ومقالات، ومحاضرات ومناظرات. وصدع بالحق، حين أراد غلاة الطائفيين أن يزرعوا الأشواك في جسد الوطن، ويمزقوا نسيجه الواحد، فعلمهم كيف تكون الوحدة الوطنية ضمن المرجعية الحضارية، ودافع، مع الحكيم طارق البشري، عن مشروع "الجماعة الوطنية"، وكذلك مع رفيق حبيب وغيرهما، وصدع بالحق في وجه الاستبداد والفساد والعمالة السياسية والحضارية في وجه الطغاة والمتكبرين، وآزر الثورة من كل وجه، ودافع عن ميزانها ووسطيتها، وحذر من استقطاباتها العمياء، حتى كان ما كان.

سمّى الانقلاب باسمه، وبيّن حكمه الشرعي، وصدع بالحقيقة الشرعية المؤصلة المستدل عليها، في وجه من يلوون ألسنتهم، ويتلاعبون بمقام الآيات والأحاديث، ويستدلون باطلا، ويقولون منكراً من القول وزوراً، فجاء، كالقرضاوي وحسن الشافعي، مصابيح هداية في وقت الغواية، وقامعي فتنة أمام مروجي الفتنة، ومثبتي قلوب وأقدام في معترك تزل فيه الأقدام والأفهام.

إن استقالة عمارة اليوم من مجلة الأزهر لا تزيده إلا رفعة وعزة، وقد ألح هو عليها من قبل، ولم يكن يريد أن يزيد الضعيف ضعفاً، ولا أن يزيد الهين هواناً. كان، كالشافعي، يريد حفظ ما عسى أن يكون بقية من خير في هؤلاء الذين خذلوا الدين وأهله، وباعوا العلم والأمانة بأبخس الأثمان. قبول استقالة عمارة إدانة للمؤسسة وإهانة منها لنفسها. ولكن، هل يشعرون؟ واستقالة عمارة حجة عليهم، لا لهم، ومزيد من إسقاط الأقنعة وانكشاف المستور. (أخرجوهم من قريتكم..).. "الحمد لله الذي عافانا..".

ثم التلويح بتحويل عمارة إلى نيابة أمن الدولة العليا إنما هو استكمال لعملية إهدار قيمة النيابة والأمن والدولة نفسها، إهدار للقيم والقمم والقامات التي يعزّ بها الوطن وتعتز بها الأجيال، وتستنير بها في طريق النهوض، إنما هو مزيد من سكب الوقود على نيران الكراهية والانقسام في كيان الوطن. ولكن، أليس هذا هو الانقلاب؟ وأليست هذه أغراضه وأمراضه ومخططاته ومؤامراته؟ أليس ذلك هو الامتداد الطبيعي للقتل والاغتيال والقمع وكبت الحريات وتدمير المعايش؟

سيزول الانقلاب وسنمحو آثاره، وسيبقى عمارة قيمة ومنارة، وتنويرا واستنارة، ووسطية واعتدالا، ما بقي الحق وأهل الحق، وزهق الباطل وأهل الباطل، وستنتصر الثورة قريبا قريباً، بإذن الله الحق المبين.

المصدر: العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2015-07-17 الساعة 05:26

الكلمات الأكثر بحثاً