اتصل بنا
 

الخريف

نيسان ـ نشر في 2019-09-17 الساعة 08:15

نيسان ـ "ذات أيلول اشتعلت في القلب نار لا تنطفئ"
قالها الغريب بلهجة حادّة ومضى.
للأحداث والمواقيت عنده صيرورة متحركة ترفض الجمود والعزلة.
يكبر الغريب على غفلة من أحلامه التي بلا حدود، يمضي به العمر، القليل مما يريد ويسعى، والكثير من تصاريف القدر.
يجتاحه الخريف، يتغلغل داخل أفياء روحه، مثل كوب الماء الأول يهيم به الصائم في يوم قائظ، له استحقاقاته وسماته، السماء تبوح بقوس التأمّل الشفقيّ، الشجر يخلع رداءه الأخضر الزاهي، مستبدلاً إياه بثوب أصفر حزين. تغيب الشمس بطاقتها الحيوية ونهاراتها الطويلة، غيوم ملبدة بالخمول والوهن تتسلل بثبات نحو قلبه.
الإيقاع الرتيب مع عودة التلاميذ لمدارسهم والطلبة لجامعاتهم، ثم، وبعد كل هذا وذاك، التوقيت الشتويّ بما يحمله من كآبة الليالي الطويلة التي كما لو أنها بلا فجر محتمل.
قبل ذلك، وفي منتصف الصيف، فإن الحدث الأهم حسب دورة التقويم السنوية، هو (تسليم الشهادات)، وباستثناء الراسبين فلا أحد يخرج من المولد بلا حمص: المتفوقون يبتهجون وأسرهم تتباهى بهم وبالجينات المتفوقة التي زرعها الآباء والأجداد في شرايينهم. أما الذين تحصّلوا على نتائج متوسطة فهم "أصحاب الحكمة والخلطة السرية للحياة". إنهم عباقرة التوازن المضبوط إيقاعياً بين التحصيل العلمي و(الدعك) والانغماس في الحياة العامة، ولو (درسوا نص دراسة (النيردات) كان جابوا علامات عالية زيّهم وأكثر كمان. بكفّي أن أصحاب العلامات التسعينية محرومون من متع الحياة وأهلهم بنزلوهمش على الحارة ولا بشوفوا قرايبهم ولا عمره حدا شافهم). وفي الخانة الثالثة يتبادر الى ذهن الأهالي ان اصحاب العلامات المتدنية الذين عرفوا كيف تدار الحياة وعاينوا عن قرب تحدياتها ومنعطفاتها، ينتظرون إما منصباُ رفيعاً أو أن توكل لهم خلال سنوات قليلة مهمة قيادة الذين حصلوا على أعلى العلامات وقُبِلوا في أحسن التخصصات الأكاديمية، أو في أسوأ تقدير فإن صنعة او حرفة متوارثة ستجلب رزقاً أكبر وأكثر.
قبل الخريف، وقبل أن أغوص في متوالية نهاراته وشجن لياليه، يقودني شكل تنافس الناس في موسم توزيع الشهادات، إلى مراجعة متأمّلة لمختلف أخلاقياتنا المتعلقة بآليات التنافس، وما تمثلها في سلوكنا الجمعي والفردي من اندفاع هوسي بالانتصار الوهمي، والسكون اليه والتحجّر والانكماش المسيطرة على أواليات تفكيرنا، عوضاً عن الاحتكام الى الرضى بالفشل المحدود، كأداة مشجعة للتعلم واعادة البناء. كما يدفعني إلى معاينة الاندفاعة المجنونة لدى معظمنا لتبنّي التنمّر كوسيلة دفاع احتياطي عن مساحة وجوده الافتراضية، تنمّر يبدأ مع أطفالنا في حارات اللعب وساحات اللهو، وحساسيات مريضة تشكّل دوافعنا الأولى نحو الأشياء: فهذا مدلل لأن شقيقته جميلة، وهذا يرفض اللعب إلا مع فريق (اللعيبة) في دوريات الكرة الشراب.
تبدلات أيلول:
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عقد أهالي حارتنا في جبل الحسين اتفاقاً ضمنياً غير مكتوب، حددوا من خلاله أذان المغرب كموعدٍ لانتهاء (النزلة) على الحارة، ومن كان يرتاد المسجد فلديه فرصة تمديد الموعد حتى انتهاء الصلاة والعودة بعدها للمنزل. عدد الساعات المتاحة للحارة قبل الموعد المتفق عليه يتدهور بمعدلات عالية مع بداية أيلول، وهذا يشكل سبباً مهماً للامتعاض من قدوم الخريف.
عودة (المغتربين) إلى بلاد إقامتهم وعملهم، ومواعيد مؤجلة في الصحراء العربية او فوق غيم القارة الأمريكية للصيف الذي يليه من المرارات الكبرى أيضاً لأيلول الكئيب. لا أدري لماذا نسميهم جميعهم (مغتربين) رغم أن بعضهم يعمل في دول الخليج العربي الغارقة بشرقها وجنوبها؟ من منحهم هذا اللقب غير الدقيق؟
التوقف عن النوم عند الأقارب، التوتر الذي يبدأ في الأسبوع الأخير قبل بداية العام الدراسي، سوق القرطاسية الثقيل على الأسر التي عندها أربعة أولاد أو أكثر أحياناً جميعهم في المدارس. التوقف عن مشاهدة التلفاز حتى ساعة متأخرة من الليل. التبدّلات التحذيرية في درجات الحرارة.
ومن مشاهد أيلول التي تجعله يغوص داخل موجة حزن عميق: (ضبضبة) الجلسة الخارجية في بيت جدته رحمها الله وانتهاء موسم ولائم البطيخ الكبيرة.
على نحو ما، تحفر الصور أعلاه حيّزها داخل وجدان الغريب، ليس كموضوعٍ حول رحيل الصيف فقط، بل كجزء من ذاكرته وطفولته وطفولة عمان الضائعة.
لاحقاً في اسطنبول شكّل أيلول بداية التقويم الجديد في حياة الغريب، فهي أشعلت قلبه بجمالها وصخبها، وتجلّت كمساحة للمفترق المفصليّ الأهم في حياته.
وفيها تحقق (لقاء الحسم) بينه وبين نفسه، أطلق عليه هذا الاسم لتخليد ذكراه.
إنه الحب.. نعم الحب بمختلف إشاراته وطقوسه وتجلياته.
كانت البداية قبل ثمانية اشهر، وفي سياق لقاء معتاد ومتكرر مع صديقة مشتركة، وإذا بلقاء كان يفترض أنه يشبه سابقاته، وإذا بالحب كالنهر الجارف، حاول مقاومته دون جدوى، ويقول لنفسه ربما هو إعجابٌ مبالغٌ به، أو رغبة بتجربة جديدة تدفعني للكتابة.
يعود الغريب إلى الخريف بشتات أكثر تشعباً وضياعٍ ماحق. ورغم ذلك يصمد ويسعى بعزم الرجال وإيمان القديسين. يقاوم محاولاتها المُراوِغة، يعيش اغتراباً عن نفسه ومحيطه، يقود حرباً بلا قواعد اشتباكٍ واضحة ولا نتيجة متوقعة ولا احتمالات. يأخذ نفسه نحو المجهول. يحطم الجسور خلفه والقوارب. يواصل قدماً بلا تردد ولا فرصة للعودة. يذهب للمواجهة بقلب سليم وبشجاعة الفدائيين. يردد ترنيمة الفجر "الحب ملحمة الإنسان الكبرى". يحمل الغريب هُيامه الذي كأنه يتربع داخل جوانحه منذ أبونا آدم إلى أن ألقاه إرثاً جميلاً عذباً قوياً أمام عينيها.
تفتّح الحب أخيراً. أزهر حدائق وردٍ وياسمين الشام. لمع خيط الفرح مثل قوس قزح يملأ بهاء السماء.
فُتحت أبوابُ قلبها المستعصية، تبدد خوفها بلمسة يديه وجرأة طرحه والتزامه، ذهب الخريف وكل ما يعنيه وكتب بخصلات شعرها عمراً جديدأ أجمل من زهر الرمّان والغازانيا الإفريقية. حمل تاج الإسكندر ورِضى الجدات في زيارات الأحفاد وتربع سيداً للفوز الكبير. يذهب بها إلى أقاصي الحب بين التنظير والممارسة، بين العفوية والجسور، يحفّز قلبها المبتدئ ويأخذه إلى ما بعد هبّة البدايات.
وعلى طريقة الأحداث العظيمة تنتهي الملحمة بالموت المبكر والسكتة الغرامية المفاجئة، بلا أسباب، وبحججٍ لا ترتقي إلى أهمية حدث كالقبض على سارق فاشل في رواية بوليسية. كأن كل الحروف التي نثرها بين كتفيها وحول خصرها وفي رموش عينيها لم تكن، كأنهما لم يجريا معاً يزاحمان الفراشات، ويطيران كالعصافير بين شلل الأصدقاء وصخب المقاهي ويضيئان صور الذكرى.
ذهبت حبيبته إلى حيث يذهب طائر اللقلق الأبيض في رحلته السنوية، إلى فلسطين، مجازاً تائهاً بين نصوصه وقصائد المُلهمين، الريح مشبعة بمختلف تفاصيل الهزيمة، في صور القدس ويافا وعشاء الخميس المعتّق بالعطر وابتسامات الخجل بعد جولة غزل عنيفة.
يفتقد الغريب لغريزة الصبر ونشر الفعل حتى تتم السماء دورتها بالثمر والزاد، هذه عقيدة الأجداد في مواسم الزيتون، لا يجيد تربية الأمل ولا يحلم بالغد، ويؤمن أن الأغنية التي لم يغنها اليوم لن يغنيها أبداً. يغرق في بحثه المجنون عن كل شيء، يحاول فك طلاسم الجلوس عند منحدرات التلال ونبذ سلطة الوقت. يجلس في المقهى بلا أوراق لعبة الشدة ولا نرد الطاولة، يُبحر في الوجوه، يشد على نارجيلته ويردد: "لم تأتِ ساعتي بعد، يبدو أن الحياة تنبذني". يعود للبحث عن نهار يبدأ بتلاوة آيات الصباح وعزف ألحان الرحابنة في قلب أمّه وصوت فيروز. يضرب فيه موعداً مع الرزق والسعي والصيد. يصرخ فيه بكل قوته: المرأة صاحبة البلاد والعلم أول العبادات والحرية مصير وحق بلا تنازلات. وعندما يفشل مرّة أخرى، يزداد حَنَقُه ويعود للنزق المُنفّر حتى يكاد يفقد البقية الباقية من الأصدقاء.
وحيداً يجلس الغريب، يجدّد سؤال الفصول: لماذا يصاحب الخريف كل هذا البؤس؟ من بعيد يأتيه صوت يقول له إن كآبة الخريف ظاهرة عالمية يا غريب. جواب قد يريحه قليلاً، لكنه أبداً لا يشتبك مع أعماق روحه وأشجان لوعته، فهناك في منطقة ما خلف الجسد والروح، ثمة رومانسية مشلوعة الفؤاد، تفضي إلى سوريالية تلقي بظلالها السلبية على قصته، وعلى قصص الأيام والفصول جميعها.

نيسان ـ نشر في 2019-09-17 الساعة 08:15


رأي: حمزة خضر

الكلمات الأكثر بحثاً