البيروقراطية الدينية في مصر

نجحت السلطوية العسكرية في مصر، منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في تأميم المؤسسة الدينية (مشيخة الأزهر، وزارة الأوقاف، دار الإفتاء) إلى مؤسسة بيروقراطية بحتة، يسري عليها ما يسري على بقية مؤسسات الدولة من ضعف وترهل وضعف للكفاءة. لذا، لم يكن غريباً أن يتراجع حجم التأثير الروحي والمعنوي والديني لهذه المؤسسة في الأوساط الشعبية، فضلاً عن ضعف الثقة فيها وفي مصداقيتها. ولم يبتعد القائمون عن أمر هذه المؤسسات يوماً عن السياسة الرسمية للدولة. وفي أحيان كثيرة، قاموا بدعم السياسات السلطوية لنظام الحكم وتبريرها، مثلما كانت الحال إبّان عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. بيد أن الأسوأ هو ما يحدث منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، حيث اكتملت عملية تدجين هذه المؤسسة و"خصخصة" القائمين عليها لصالح السلطة العسكرية.

قبل أيام قليلة، وقف الجنرال عبد الفتاح السيسي مخاطباً جمعاً من شيوخ الأزهر المعممّين، وقال كلاماً "فارغاً"، كما هي العادة، حول الملحدين والجنة والنار... إلخ. دعك من مضمون ما قاله الرجل، وتأمل حالة "الصمت" والاستسلام التام التي بدا عليها الحاضرون، وكأنهم يستمعون إلى محاضرة يلقيها "شيخ الإسلام" ابن تيمية، أو تلميذه النجيب ابن القيم الجوزية. تماماً مثلما فعل، أوائل العام الجاري، حين هاجم الأزهر في حضور مشايخه، وطالبهم بالقيام بثورة دينية لتصحيح التراث وتنقيته.

راجع أيضاً مواقف وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة، ومفتي الديار المصرية شوقي علام، وشيخ الجامع الأزهر أحمد الطيب، وأفعالهم وتصريحاتهم، لكي تعرف حجم الانحدار والتردّي الذي أصاب المؤسسة الدينية في مصر، وجعلها مجرد أداة طيّعة فى يد السلطة. خذ ما حدث قبل أسبوع مع الشيخ محمد جبريل الذي تم إيقافه عن إمامة الصلاة في المساجد المصرية، وجرى منعه من السفر، والتحقيق معه، لمجرد أنه دعا على الظالمين الذين لم يسمّهم أو يعرّفهم. وخذ أيضاً تصريح وزير الأوقاف، أخيراً، بإنشاء شركة لإدارة المساجد وحراستها وفق المفهوم الأمني السلطوي. وقطعاً لا يجب أن يفوتك ما فعله مفتي الديار المصرية الذي يسرق كتب "الإخوان المسلمين" في النهار، ويصدّق على أحكام إعدامهم بالليل. فقد سرق الرجل صحفات من كتاب سيد قطب (في ظلال القرآن) ونسبها لنفسه، من دون أن يخجل من ذلك أو يعتذر عنه.

يبدأ تدهور المؤسسة الدينية في مصر من القمة وحتى القاع. لذا، لا تستغرب حجم التصريحات العجيبة التي يصدرها مشايخ ورجال دين كُثر، سواء فى خطبهم أو فى مداخلاتهم الإعلامية، مثلما حدث مع أحدهم الذي شبّه السيسي بالرسل، قبل أن يشبّهه زميل آخر له بالصحابي الجليل خالد بن الوليد. ولا غرابة، أيضاً، في ألا تتجاوز نسبة النجاح في الثانوية الأزهرية التي أُعلنت نتيجتها قبل أيام 30 بالمائة، وهو ما يعكس حجم التردي الذي أصاب قطاع التعليم الأزهري في مصر.

وتبدو المفارقة أكثر عندما نقارن مواقف هؤلاء مع أسلافهم من المشايخ ورجال الدين الذي رفضوا الاستسلام للسلطة، أو مهادنتها، منذ حكم العثمانيين وحتى الاحتلال البريطاني في مصر. فمن ينسى مواقف أول مشايخ الأزهر، الشيخ محمد الخراشي، الذي كان يلجأ إليه المظلومون والمستضعفون من الرجال والنساء، من أجل نصرتهم ودفع الضرر عنهم لدى السلطة؟ ومن ينسى مواقف الشيوخ عبد الله الشرقاوي وعمر مكرم والسادات والجوهري في أثناء الحملة الفرنسية، والشيخين، سليم البشري وحسونة النواوي، في أثناء الاحتلال البريطاني؟

أما الأكثر مفارقة، فهو حجم التعدد والتنوع الفكري والمذهبي الذي كان يميّز مؤسسة كالأزهر، إبّان قرونها الأولى، والذي كان أقرب إلى حالة من الليبرالية الفكرية والدينية، قبل أن تتحول مؤسسة بيروقراطية جامدة، وأحد الدعائم الرئيسية للسلطوية والاستبداد.