اتصل بنا
 

مملكة الشمس

نيسان ـ نشر في 2019-11-02 الساعة 10:29

نيسان ـ 1
أم قيس
اغلق باب الصف ورائه، القى بدفتر التحضير على الطاولة، حمل الطبشورة وكتب على اللوح الأخضر الطويل، "الطاعون"، و وضع تحتها خطان!
التفت إلى الطلاب، بعد أن القى بالطبشورة البيضاء على الطاولة، و هو يضرب كفاه ببعضهما ليتخلص مما علق بأصابعه من بقايا الطبشورة، وقال مواجها طلاب الصف:
- صباح الخير يا أبناء الغد.
- درسنا بحصة التاريخ لهذا اليوم هو الطاعون!
ارتفع حاجبا عامر، الجالس بالمقعد الأمامي مقابلا لطاولة الأستاذ، ومقابلا للوح، ولعنوان الدرس، وقلّب بكتاب التاريخ يبحث عن عنوان الدرس، فلم يجده، فتح الفهرس، ولم يجده؟!
قلب صفحات الكتاب، آدوميون.. عمونيون.. انباط.. رومان.. بيزنطيين.. ساسانيون.. غساسنة.. أمويين.. عباسيين .. فاطميون.. مماليك.. عثمانيون.. انجليز، ولكن! الطاعون أين هذا الدرس؟!
- أستاذ، بأي صفحه درس الطاعون؟.. سأل عامر.
- صفحة 542 ميلادية.. وبصفحة 614 ميلادية ينتهي الدرس.. أجابه الأستاذ مبارك.
اقترب الأستاذ مبارك من عامر، و وضع يده اليمني على كتاب تاريخ الأردن، منهيا محاولات بحث عامر، و وضع يده اليسرى على كتف عامر وجذبه وقوفا، و قال لكل طلاب الصف:
- انظروا من تلك النافذة، أنظروا إلى آثار أم قيس، انظروا إلى جدارا.
- "أيها المار من هنا، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فان".. هل تستطيعون سماع كلمات "آرابيوس" شاعر جدارا ؟
- هل تعلمون أنكم سكان مدينة الفلاسفة والشعراء؟
- هل تعلمون أنكم أبناء جدارا؟
- محمد.. إبراهيم.. وأنت يا عامر.. هل كان لكم جد، أو عم، أو خال، أو حتى جار اسمه انطونيوس، أو بطليموس؟ هل تعرفون أحدا من أبناء جدارا اسمه "ميلياغروس"؟
همهم الجميع مذهولين! واكمل الأستاذ مبارك، بعد أن وضع يديه فوق بضع الشعرات البيضاء المتطايرة من فوق رأسه ليسكنها مكانها، فتغطي ما سرق العمر من جبهته وقال:
- لا طبعا! هذا هو الجواب.. أنتم هذه هي اسماؤكم .. عمر.. عامر.. ابراهيم.. ولم يكن جدكم بطليموس .. و آرابيوس لا اظن أنه انجب ولدا.. ولكن! نعيش أم قيس، و نعيش فيها.
- هل تعلمون هذه الأعمدة انظروا لها.. احب تحتها "فليوديموس"، وكتب "مينيبوس" شعرا من تحتها .. واضحكت كلمات "ميلياغروس" كثيرون!
- ولكنهم ومن لحقهم، ومن قاتل منهم و بقي حيا .. ومن نسلهم أو ممن خلفهم.. كلهم ماتوا .. بالطاعون سنة 542 ميلادية، ومن نفذ بحياته من الطاعون، قتله الساسانيون بسنة 614.
- لذلك يا ابنائي أنتم ورثتم هذه الآثار، و رثتم هذه الحضارة، ليس عن اجدادكم، ورثتموها لأنها أصبحت بلادكم.. فالتاريخ أمانه، ولو لم يكن من ميراث اجدادنا.
2
الطاعون
الطاعون، ظلت هذه الكلمة تحتل تفكير عامر، ولم يستطع الانتصار عليها وطردها من تفكيره، منذ أن انهى الأستاذ مبارك حصة التاريخ، ظل يتسائل في نفسه هل التاريخ صادق؟ فكيف قد ينتهي شعب كامل سكن هذه البلاد لآلاف السنيين؟!
حملته أقدامه، وترك لهما القرار كما اعتاد في كل يوم، تسلقت قدماه شارع حي الإسكان الذي يقيم به صعودا باتجاه الشارع الرئيسي، متخذا من جيوب بنطاله مكانا لأسر يديه الحائرتان، وعيناه تطالع كل وجه يتقاطع مع مسيره، ويردد على نفسه ذات السؤال:
- من أنت ومن أين اتيت إلى هذه البلاد؟
- ومن المؤكد ليس لك جد قد نجا من الطاعون، و إن كان قد نجا، فحتما فقد مات علي أيدي الساسانيون!
رائحة الخبز البلدي ألتي عبق بها الشارع وأنف عامر، مختلطة بأصوات الباعة والمارون بالشارع، وبصوت آذان العصر، كلها كانت تزكم روحه وتفكيره، و تدفع بحيرته أكثر! من أين أتوا هؤلاء القوم؟!
أكملت قدماه التقدم، وصل إلى شارع الأعمدة، و عبر منه إلى ساحة الأعمدة، حيث اعتاد كل يوم أن يلقي بظهره إلى ذلك العامود البازلتي الأسود، الذي ينتصب منذ 2300 سنة، مواجها شمس الغروب، اسند ظهره إلى ذلك العامود، و جلس على الأرض، مقابلا الشمس وهي تتجهز للمغيب، و امسك ببضع حصوات يقلبها بيده، عندما أحس بيد دافئة تعبث بشعره، وتتسلل إلى كتفه، القى بتك الحصوات، و وضع يده فوق يدها، و جذبها برفق للجلوس بجانبه يراقبان الغروب، فحبهما بدأ أمام شمس مغيب أم قيس، وفي كل يوم يسقيانه من شمسها.
- أرى شمسنا اليوم غير متوهجة؟!، لأول مرة منذ أن أحببتك، أحس بأنها حزينة.. همست نور وأصابع يدها اليمين متشابكة بأصابع عامر، وعيناهما تحدقان بشمس المغيب.
- نعم، لقد احسست بها بالأمس.. كما أحسست بها بالأمس الأول.
- كم هذه الشمس عظيمة، ولعل من عبدوها قبلا، علموا سر جمال غروبها، و علموا كم تعرف من اسرار العاشقين، تعرف قبلاتهم، وكثير ما القت بنورها ليعطي لأحضانهم دفئا على دفء حبهم.
- الشمس اصدق من كتاب التاريخ، فهي تعلم عدد السيوف التي استلت، والرماح التي شقت صدور المتحاربين، الشمس، الشاهد على كل ما فعل البشر ببعضهم، وهي شاهدة على حب العاشقين.
- أظن أنها تعبت، فمن يستطيع أن يتحمل كل هذا التاريخ الطويل، ويبقى متوهجا جميلا!.. قال عامر.
- علمني الأستاذ مبارك عظمة هذه الشمس، فهي تشرق وتغرب على قصص و حكايات، على اشعار و أغاني، على حياة وموت، وعاشت طويلا ومازالت تلقي بنورها، وأنا بمجرد
سماعي لحادثة تاريخية، احسست بهواني وضعفي، لكم هي عظيمة هذه الشمس! .. أكمل عامر حديثه.
القت نور بشعرها وبرأسها على كتف عامر، وايديهما متشابكتان، و الشمس بقيت تنحدر ببطء من وراء هضبة الجولان، عندما أحس عامر ونور، باهتزاز العامود الذي يستندان اليه، واهتزازات الأرض، بل السماء كلها تهتز!
- هل أحسست بهذا؟!
- نعم، وكأن كل جسدي يهتز .. أجابت نور
ووقف كلاهما مذعوران خائفان ينظران إلى ساحة الأعمدة التي استمرت بالاهتزاز، و ينظرون إلى السياح، وإلى من وقف أو يسير من فوق تلك الساحة.
- ولكن ما بل هؤلاء الناس لا يكترثون لهذه الاهتزازات! ومازالوا يتنزهون غير عابئين؟ و هؤلاء السياح لا يبالون؟! ، هل نحن من نحلم؟!.. سأل عامر
- انظر لهؤلاء الناس لا ظلال لهم؟ انظر الأعمدة لا ظلال لها كذلك!، و الشمس ذهب وهجها ؟! يا الهي ما هذا .. حتى أنا وأنت يا عامر انظر إلى ظلينا يتقلصان؟!
امسك عامر بيد نور و وقفا ينظران الشمس وقالا بصوت عال: -
- ما بالك يا شمسنا اليوم؟
- لن تجيبكما الشمس اليوم، ولن تستعيد وهجها، وهذه البلاد سوف تغرق بالظلام، فهذه الشمس لم تعد تحتمل النظر إلى أراض البشر، لقد تعبت منكم!
التفت عامر و نور يمينا وشمالا، يبحثان عن المتكلم، فلم يريا أحد، نظرا إلى الخلف وإلى الامام، فلم يجدا أحد، قال عامر:
- من أنت، وأين أنت، ولماذا اختفى ظل الحاضرين هنا؟ ولماذا تهتز بنا ساحة الأعمدة ؟!
تبدى من خلف العامود البازلتي، رجل يلبس ثوب اغريقيا أبيض، شعره اختلط سواده ببياضه، ينتعي نعلا بني اللون يغطي مقدمة قدميه، واضعا يداه فوق بعضهما، تمسك احداهما بثوبه الأبيض، ووقف أمام نور و عامر، وقال لهم:
- أنا ابن جدارا ، عشت هنا، ومت هنا، وشاهدت حبكما هنا!
- وعلمت كم احببتما هذه الأرض، وكم احببتما شمسها.. وكم تحبان بعضكما!
- سمعت همسكما، وشعركما، وسمعت دندانتكما، وتمتعت بأغنيكما!
- أنا اعرفكما، وأعرف هذه الأعمدة، وأعرف هذه المدينة، ومازلت عاشقا لها منذ قرون، ولذلك مازالت روحي تهوى غروبها وشروقها، مازالت روحي تسكنها!
- اليوم الشمس تغيب ولن تعود! الشمس غضبت، ولم تعد تحتمل!
- انتما تحملان ظل الشمس، وأنتما من تقع عليكما مهمة اضاءة الشمس من جديد!
قال عامر متعجبا وخائفا ويده تشد على يد نور، التي امسكت بجسده و حضنته خوفا و آملا:
- لماذا نحن؟ ولماذا الشمس غاضبة؟ وماذا يجب أن نفعل؟!
رد عليه:
- لديكم ثلاث أيام لتعيدوا للشمس نورها، وتنتهي هذه المهلة بتاريخ الثامن عشر من يناير، يجب أن تشرق الشمس في صباح ذلك اليوم.
- هذه الأرض بقيت أمانه بيد الانسان، فقتل فيها، ونهب وسرق واراق الدماء، ومهمتكم أن تعلموا هؤلاء البشر معنى حب الأرض.. و إلا فلن تشرق الشمس عليكم من جديد.
سألت نور بكلمات خائفة:
- ولكن كيف نعيد لها نورها؟
- ابحثا بأسرار المدن الأاربعة، وعندما تبحثان سوف تجدان نور الشمس لتعيدوه لها.
- أنا لن ترياني مرة ثانية، سوف اتلاشى مع اخر نور للشمس يختفي وراء تلك الجبال.. أجابها الاغريقي.
- اول تلك الاسرار يختفي تحت ظلال مدينتكم، وكلما عجزتما! انصتا لتلك المدن عندما تدخلوها ،واسالوا حيطانها و قناطيرها؟! لا تنتظرا كثيرا ..لا تنتظرا.. اعيدوا للشمس نورها!
غابت الشمس، و غاب الاغريقي، وبقي عامر و نور مذهولين، خائفين، وحائرين! ونزل الظلام على ساحة الاعمدة، وعلى المدينة وعلى كل الأرض.

3
الأستاذ مبارك
طرقت هزّات قوية على الباب الصدئ، حتى أنه كاد أن يتساقط من تحت شدتها، صوت باب داخلي يفتح، وصوت اقدام تحارب حذاء "شبشب" محاولة أن تنتعيه، بينما يقترب صوت حفيفها بالأرض من باب السور الخارجي، كانت ذات صدى عال، تضاعف علوه مع هدوء ظلام ذلك المساء، توقف عامر ونور عن طرق ذلك الباب و بقيا منتظرين أن يفتح لهما.
- مساء الأنوار، ما هذه المفاجأة السعيدة، عامر ونور بهذا المساء، تفضلا بالدخول .. رحب الأستاذ مبارك بالزائرين.
- مصيبة! كارثة! لابل اعظم، إنها نهاية العالم! لن تصدق ما حدث!.. لن تصدق! .. تقاطعت كلمات نور و عامر وهما يحدثان الأستاذ مبارك من مكانهما أمام الباب .
- خذا نفس عميق، ولابد لكل كارثه من علاج، تفضلا استريحا أولا، ومن ثم نتحدث، فطالما أنتما على قيد الحياة، وبصحة فلا شيء بعد ذلك عظيم.
دخلا يتبعان الأستاذ مبارك، ويداهما متشابكتان، فتح الأستاذ مبارك باب افضى إلى غرفه، رديئة الإضاءة، استكانت إلى احد جدرانها مكتبه، ازدحمت بها كتب كثيرة، من مختلف الاحجام، وطاولة لشدة قدمها لا تكاد تقوى على حمل كل تلك الكتب فوقها، ثلاث كنبات يتقاوين على الاستمرار، وسجادة صغيرة احتلت مكان بين الطاولة والكنبات، لتجعل من المكان اكثر دفء، واكثر جمالا برغم قدمه.
جلس كلاهما، واخذ الأستاذ مبارك، موقعه إلى الكرسي خلف تلك الطاولة.
- تفضلا، ماهي هذه الكارثة؟!
- هل سوف تصدقنا؟! لا لن تصدق؟!
- أنا اعرفك ومؤمن بك يا عامر.. و اظنك لم تأتيني اليوم إلا وأنت مؤمن انني سوف اصدقك؟! تكلم.
- لذلك أخترتك من بين كل أهل أم قيس يا أستاذ مبارك؟!
حدث عامر، ونور الأستاذ مبارك بكل ما حدث، لم يقاطعهما الأستاذ مبارك، وما أن انهوا حديثهما، حتى وضع نظارته على أنفه، وقام إلى مكتبته، واختار كتابا كبير الحجم " جدارا أثينا المشرق العربي"، وضعه على الطاولة، وتوجه إلى فونوغراف بزاويه الغرفة، و قلب بضع أسطوانات سوداء، واختار واحده، واطلق عنان ذلك الفونوغراف، ليصدح بأنغام "فيفالدي" بمعزوفة الفصول الأربعة، نظر عامر ونور لبعضهما، وبرغم استغرابهما، آمنا بعظمة وحكمة الأستاذ مبارك، عاد الأستاذ مبارك، لطاولته، و بداء يقلب بصفحات كتابه المفتوح.
- هل تعلمان قيمة هذه المعزوفة "الفصول الأربعة" التي صدح الآن من فونوجرافي؟!
- هي عمل موسيقي رائع، ألفه "فيفالدي"، و "فيفالدي" في هذا العمل الموسيقي عمل على محاكاة عوامل الطبيعة المختلفة مثل نسمات الهواء والرياح الشديدة والعواصف.. نشرة سنة
1725، ومازال كبار الموسيقيين إلى يومنا هذا يتنافسون على اظهار ابداعهم بعزف ما كتب منذ اكثر من 300 سنة!
- "فيفالدي" عظيم بلا شك.. وهؤلاء الموسيقيين عظماء كذلك.. الموسيقى حياة.
- آه.. نعم هذا ما ابحث عنه اسمعا.. سوف اقراء لكما من كتاب جدارا أثينا الشرق، سوف احكي لكما ماذا كانت عليه جدارا!
- "ميلياغروس" ولد في "جدارا"، وعاش بين 110 -40 ق.م ، تكلم اللغة الآرامية و أتقن اللغتين الفينيقية و اليونانية ، ألف العديد من القصائد الشعرية في حبّ مدينته جدارا، قدمَ فيها صوراً شعرية رائعة عن الحياة الاجتماعية في جدارا، فصورها بأنها مدينة الحبّ والعشق والجمال، مدينة متطورة يكثر فيها المغنون وعازفوا القيثارة، وقد شبهها بأثينا، ثم جمع أشعاره في ديوان اسماه (الإكليل) وفي إحدى قصائده يقول: مربيتي، وجدارا موطني، وهي مدينة ٌ عربية ٌ وحضارتـُها يونانية ٌ، جزيرة ُصور ٍ، انبثقتْ عن "أوقراطس"، أنا "ميلياغروس"، فقد سرتُ بعون ِ آلهة الشـِّعر ِ على خطى "مانبوس" وأخذتُ من إلهامهِ؛ فإنْ كنتَ عربياً فأيّ عجبٍ في ذلك! أيّها الغريب كلنا، نسكنُ وطناً واحداً ، والخواءُ نفسهُ وَلـَدَ جميعَ البشر ِ، وبعدَ أنْ شعرتُ بثقل ِالسنين؛ حفرتُ هذه الأسطرَ قبلَ أنْ أنحدرَ إلى القبر ِ!! ..
- الله ما اروعك..
قال الأستاذ مبارك .. واكمل قرائته لذلك النص.
- كلف" ميلياغروس " الفنان "ارابيوس"، بكتابة بعض العبارات الفلسفية الوجدانية باللغة اليونانية، ونقشها على لوحة حجرية ووضعها على قبره بعد مماته، حيث وجدت هذه الكتابة باللغة اليونانية على مقربه من قبره وهذا نصها:(أيّها الإلهُ السماويُّ، ويا ترابَ جدارا المقدس، ارفعيه عالياً، فإنْ كنتَ عربياً فلك مني تحية، وانْ كنتَ فينيقياً فلتعشْ يا سيدي، وإنْ كنتَ يونانياً فأتمنى لك الصحة َ؛ وأمَّا أنتَ فأجبْ على التحيةِ بمثلِها)، كما ألف هذه العبارة لتكون على قبره، وبها يخاطب من يمر على مقربة منه:-(أيهَّا المارُ من هنا ،إليك أقول: كما أنتَ الآن كنتُ أنا !! وكما أنا الآن ستكونُ أنت!! فتمتع إذاً بالحياةِ لأنك فان ٍ).
- عامر، وأنت نور .. أنا لم استغرب، مما حدث لكما اليوم؟! اخرجا للشارع، لساحة الاعمدة، امشيا بالأرض طولا وعرضا، فهل تجدان أثينا الشرق؟! جدارا اصبح اسمها أم قيس؟!
قال عامر:
- أعلم كم كانت جدارا عظيمة، والآن أنا مؤمن أن عظمتها تستمر لأن فيها الأستاذ مبارك..
- لكن لماذا غضبت الشمس؟! و لماذا الثامن عشر من يناير؟ ومن هي المدن الأربعة؟ و الأهم كيف نعيد للشمس نورها؟
أجاب الأستاذ مبارك:
- هل مازلت تتذكر درس اليوم "الطاعون"؟!
- نعم.. أجاب عامر
- هذه البلاد، ورثت حضارات عديدة، وعاش فيها البشر منذ الاف السنين، وظلت الشمس تراقب، وتشرق وتغرب على اسرار، على دماء وعلى حروب، كانت تشرق على عازفين القيثارة، والمغنون، كانت تدخل من زجاج الكنائس والمعابد، والمساجد، وتغيب وتحمل دعائهم، هذه الشمس صبرت كثيرا.. و لك أن تتخيل ساحة الاعمدة قبل 2300 سنه تغص بالمغنين و العازفين والشعراء، والمسرح الغربي يكتظ عن آخره بالممثلين والحضور، اين ذهب كل هؤلاء؟! و لماذا أصبحت هذه المدينة فقيرة بشعرائها و ثقافتها وفنها؟!
- في الثامن عشر من يناير 749، اشرقت الشمس على هذه الأرض، وعندما غابت، غابت مع غيابها مدن مثل "بيلا" طبقة فحل" و " أبيلا"، مات مئات الاف من الناس، وغابت ارواحهم مع غروب شمس ذلك اليوم.. ذهبت مع زلزال الجليل الذي حصد النسل و الأهل.. زلزال الجليل الذي يحل موعدة بكل يناير بالثامن عشر، قتل كثير من البشر واخفى مدن بأكملها.. وهو موعد شروق الشمس في هذا العام كما قال الاغريقي؟!
- وقبلها غابت كثير من الأرواح بعد أن اريقت دماء على هذه الاراض، الانسان قتل وتجبر، وكلما ابتعد عن الروح، تملكه حب الجسد، وحب الجسد تتحكم به الشهوات، فقتل و حارب، و جند الجنود، و اقام اعواد المشانق، لمن لم يمت بالسيف او بالرمح او بالسهام.
- لنعيد للشمس نورها، يجب أن نعيد الناس إلى ارواحهم ؟!.. أكمل الأستاذ مبارك حديثه.
قالت نور:
- وكيف يكون ذلك، وما هي المدن الاربعة، وما هي الاسرار التي يجب أن نبحث عنها بتلك المدن؟!
- حلف "الديكابولس"، للمدن العشرة، كان يضم بيلا، و ابيلا، تلك المدن دمرت بزلزال الجليل ا! وكان يضم ذلك الحلف أيضا، فيلادلفيا، وجراسيا، وجدارا، وتهدمت بعض اعمدتهم ومعالمهم، بسبب زلزال الجليل، وبسبب البشر، ولكن هذه المدن مازالت قائمة يحاربن الزمن، واظن أن ذلك الاغريقي قصد تلك المدن الثلاث.
- اما المدينة الرابعة، فأظنها البتراء، لان الانباط كانوا على ضفاف مملكة الرومان، و هذا الحلف الديكابولسي، أقيم لحماية البلاد من الانباط، وبلا شك البتراء العظيمة، برغم الدماء التي اريقت لها وبسببها، خلدت رائعة كونية، لذلك هي احد المدن الاربعة.. فحلف "ديكابولوس" ضد البتراء.. هو معنى ذا قيمه، مدن خالدة تتقاتل، ونحنا ورثناها.
- كم أنت عظيم أيها الأستاذ العظيم، اليوم علمتنا أن أم قيس مازالت أثينا الشرق لأنك فيها!
نهض عامر و نور والقيا بجسديهما واذرعهما لتختلط مع بعضها حاضنين الأستاذ مبارك، قبلهما، الأستاذ مبارك وقال لهما:
- أنا قد أمتلك المعلومة، ولكن انتما من ستعيدان للشمس نورها ؟! أيها العاشقان
- لنتحرك فالوقت قصير، و أهلنا سوف يواجهونا كما واجه اهل الطائف محمد، فكيف لنا أن نقنع أهل أم قيس، وأهل الأردن، والعالم بأن الشمس لن تشرق من جديد؟!
- كيف لنا أن نقنعهم بأن جدران وحجارة جدارا تحمل احد اسرار نور الشمس؟!
اقترحت نور، أن يتم دعاء جميع اهل القرية، إلى المسرح الجنوبي بالمدينة الاثرية للاجتماع بهم، و اخبارهم برسالة الاغريقي، و وافقهما عامر، و اكمل الأستاذ مبارك، بعد أن بارك اقتراح نور، بأن يذهبوا إلى جامع القرية، ويستخدموا سماعاته لدعوته الناس للاجتماع.
3
السر الأول
- لا يمكن مستحيل، أن اجعلك تستخدم الجامع بهذا الجذام، بهذا الجنون، ما تقوله لا يصدقه عقل، إلا اذا آمن بجنونكما..
صاح شيخ الجامع بوجه نور و عامر، بعد ان طلبا منه الاذن لدعوة اهل أم قيس لاجتماع عاجل بشان غياب الشمس من خلال سماعات الجامع.
- ارجوك أن تصدقهما..
خاطب الأستاذ مبارك شيخ الجامع وهو واقف من وراء نور و عامر.
- قال برغم أن ما يقولانه هراء! وإن لم اامن بما قالا، فلا يمكن أن أقول لمن هو بقدرك يا أستاذ مبارك، الا نعم! تفضلا بالدخول.. وتفضل يا أستاذ مبارك .
فتحت سماعات الجامع، وانطلق صوت عامر، مختلطا بصوت نور، وبصوت الأستاذ مبارك، يدعون القرية للحضور إلى المدرج الروماني الغربي بجدارا، بعد أن بلغوهم بأن الشمس لن تشرق وحدثوهم برسالة الاغريقي، وطلبوا منهم الاستعجال، وطلبوا منهم ان يصدقوا ما قيل، وإلا فلن يكون لهم صباح في الغد.
انطلق ثلاثتهم، ومعهم شيخ الجامع الذي تبعهم، و اخترقوا الحي القديم من مدينة أم قيس متجهين نحو المدرج الغربي، وسمعوا شماتة بعض أصحاب الدكاكين، و رأوا بعض المارة يبسملون، ويسبحون الله، ويضربون بأيديهم، على جنون هؤلاء، ولكنهم اكملوا مسيرهم غير عابئين، و شيخ الجامع برغم أنه مؤمن بالأستاذ مبارك، الا ان خطواته ضعفت وتباطأت ولكنها لم تتوقف.
دخلوا المدينة القديمة، وصعدوا المنحدر قبل متحف أم قيس، و مروا من أمام المتحف، واشتبكت اغصان شجرة الرمان التي تساقطت اوراقها بشعر نور، وعلق شعر نور بها، توقف ثلاثتهم، محاولين تحرير شعر نور، من بين اغصان شجرة الرمان، تعثر عامر بحجر كبير، و هو يحاول أن يساعد نور على تحرير شعرها، اضاء على ذلك الحجر بجواله، فوجده حجر بازلتي اسود كبير، منقوش عليه كلام يوناني، اقترب اكثر بالضوء، فوجد أن ذلك الحجر قد رمي إلى جانب شجرة الرمان منذ زمن، وتساقط عليه الاوساخ، وكثير من ما أخرجت شجرة الرمان من بقايا ثمارها ومن اغصانها:
- هل تعلمون ما هو مكتوب على هذا الحجر؟! ..سألهم مبارك متعجبا و هو يمسح بيده ذلك الحجر
- "ياأيهَّا المارُ من هنا ،إليك أقول: كما أنتَ الآن كنتُ أنا !! وكما أنا الآن ستكونُ أنت!! فتمتع إذاً بالحياةِ لأنك"
- هذا حجر " ميلياغروس"، ملقى تحت هذه الرمانة! هذا الحجر هو وجه ام قيس و شاهد على عظمة أثينا الشرق؟! ملقى بهذه القمامة ؟! و تريدون أن تشرق الشمس من جديد؟!
أكملوا مسيرهم غاضبين باتجاه المدرج الروماني الغربي، و بداء الناس يتوافدون برغم قلة اعدادهم، محاولين أن يجدوا مكان يجلسون عليه، في مسرح تهدم واصبح خطر الجلوس فيه، ولم ينتظر الثلاثة قدوم أناس اكثر، فقد بدى واضحا أنهم اصبحوا بنظر اهل ام قيس من المجانيين الجدد! فكيف يدعون أن الشمس لن تشرق .. انهم لمجانيين! .. ولكن خاطب الأستاذ مبارك الذي وقف على المسرح، وورائه عامر و نور و شيخ الجامع قائلا:
- يا اهل أم قيس، لن يكون لكم شمس بالغد! ولن تصدقوني اليوم؟
- ولكن في الصباح سوف تصدقوني، كما صدقت أنا نور و عامر، من دون ان انتظر الشروق!
- كانت أم قيس قبل المسيحية، وقبل الإسلام دار الفلاسفة والشعراء، كانت بلاد الحب، و سكن فيها المسيحيين، والمسلمين، وبقيت هذه المدينة بحجارتها بأعمدتها، وبفنها تقاوم وتعيش، ولكن نحن قتلنا أم قيس!
- هجرنا الفلسفة والشعر، وامسكنا المحاريث، ودسنا على الاثار و لم نحترم كل ذلك الإرث، ابتعدنا عن الجوهر فتمسكنا بقشور الدين، وتطرفنا ببعدنا عن الفن
- اعيدوا لام قيس هيبتها! اذا اردتم ان تشرق الشمس من جديد.
- اجعلوها مجددا بلد الفلاسفة والشعراء، " ميلياغروس" كان حراث، ولكنه مبدع، نحن اختزلنا همومنا وراء عود الحراث، وتركنا الطرب، والفن، والموسيقى، و القينا بحجر أم قيس العظيم تحت شجرة الرمان.
- هذا المسرح الذي مازال يقاوم ليبقى على قيد الحياة، بقي للأمطار و للتخريب مدة 1900 سنة، منذ اكثر من 1900 سنه لم يستخدم ! فهلا نحترمه ونعيد له هيبته؟!
- اعيدوا يا اهل ام قيس للشمس نورها.. وليعود للشمس نورها انصتوا إلى حجارتها، واسالوها من جلس عليها والقى شعرا من فوقها.. من احب فيها.. ومن غنى .. ومن كتب لنا كل هذا الجمال .. انصتوا إلى وجع ام قيس .. واعيدوا لها هيبتها.
ارتفعت همهمات الحاضرين وانفضوا عنهم .. وبقي الثلاثة وحدهم و اقفين وحيدين على المسرح

4
السر الثاني
بقي عامر ونور، يرقبان الشمس من شباك غرفه الأستاذ مبارك، الذي ظل منهمكا وغارقا بين كتب التاريخ، وكلهما أمل أن يكون ما مروا به حلم.. ولكن ساعة الصباح تدق.. والشمس لم تطلع!
- هل كنتما تشكان؟! و تأملان ان تشرق الشمس؟! قال الأستاذ مبارك وهو منغمس بكتبه
- ولكنها لم تشرق .. ردت نور
- استعدا فأمامنا مسير طويل، و الوقت قصير بقي لدينا يومان .. وإلا لن نراها مجددا .. اكمل الأستاذ مبارك.
خرج ثلاثتهم من باب منزل الأستاذ مبارك، و شاهدوا حشدا عظيما يتقدم إليهم، نساء رجال، شيوخ وأطفال، كل أهل ام قيس قادمين نحوهم.
- ماذا نفعل يا أستاذ مبارك.. نحن اتينا لنعتذر عن عدم تصديقنا اياك.. واليوم نحن طوع امرك.. قال احدهم.
- أبدأوا من تحت تلك الرمانة، وعندها سوف تعلمون ماذا عليكم فعله .. قال لهم عامر.
- ونحن سوف ننطلق إلى المدن الثلاث الأخرى .. ونترك جدارا امانه برقبة من ورثوها .. اكمل عامر .
انقسم الحشد، فمنهم من انطلق باتجاه المدينة الأثرية، وآخرون تبعوا عامر ونور والأستاذ مبارك في رحلتهم نحو المدن الثلاث، متجهين إلى جرش.
وبعد أن علم أهل الأردن بفاجعة الشمس، وانتشرت اخبار رحله عامر ونور والأستاذ مبارك لاستعادة نورها، كان في كل قرية يعبرونها ينضم لهم مئات و الاف الأردنيين، يشاركونهم رحلتهم، حتى وصولوا جرش و غرقت جرش بكل القادمين .
- برغم أن الشمس غابت عن ارض هذه البلاد، إلى أن الاف الناس الذين يتبعوننا، اشرق قلبي بأملهم بالغد .
- لم يخطر ببالهم أن الشمس سوف تغضب يوما، فاليوم أظن الشمس بدأت تعلم كم أن هذا الشعب يحبها.. تركوا أعمالهم، و مشاكلهم، تركوا غضبهم و المهم، وتبعونا لترضى الشمس عنا وتشرق.
تنهد عامر بتلك الكلمات للأستاذ مبارك ونور، وهم يتقدموا تلك الحشود مخترقين قوس "قوس هادريان" قوس النصر لمدينة جرش ليدخلوا المدينة القديمة.
- اليوم هذا القوس يحتفل بعيده ميلاده الثاني، فأهل جرش كانوا يكرمون دائما ضيوفهم، اكرموا الملك "هادريان" عندما زار المدينة سنة 129 م وبنو له هذا القوس، وها هو اليوم يحتفي بألاف من عشاق الشمس يخترقونه عابرين إلى المدينة .. اكمل عامر حديثه
- قالت نور، كانت دائما جرش بقلبي، فهي توأم جدارا، ولو تركت جدارا بيوم فلن أعيش الا بجرش .. ونظرت إلى عامر وتبسمت له
- اليس كذلك عامر !
- تعد جرش اعظم مدن الرومان التي مازالت تحافظ على مبانيها، برغم انها اهملت لبضع قرون، ولكن بقيت مدينة متسامحة، عاش فيها المسيحيون، ومن ثم اسلمت، وعاش فيها المسلمون، تحملت حروب الفرس وبطشهم، ولكنها استمرت بالحياة، رحبت بالعثمانيون، وبقيت مدينة التسامح على طول العمر، واليوم هي مدينة الفن.. اكمل الأستاذ مبارك حديثه
تجمع الحشد وسط ساعة الاعمدة، واحاط مئات الاف بالأستاذ مبارك و نور و عامر، وعلت كلماتهم المتسائلة، كيف سوف نعيد الشمس، و تصاعدت معها آمالهم، فخاطب عامر تلك الحشود:
- الشمس الغاضبة، لن تعود إلا اذا انصتنا لمدننا! لنعرف منها اسرار غضب الشمس !
- جدارا اغضبت الشمس، وأهلها يعيدون الآن لجدارا عظمتها!
- جراسا مدينة السلام، مدينة الفن، التي كانت تواجه كل حرب وكل جيش يعبر منها، أو يأتي لقتال أهلها، بان تقيم نصبا فنيا جديدا بالمدينة.
- جراسا كانت تواجه الدماء بالفن، وإلى اليوم مازالت منارة للثقافة والفنون .. ولكن يختفي فيها سر، جعل من الشمس تغضب، واليوم انتم ونحن مطالبون أن نبحث عن ذلك السر.
ارتفعت الأصوات قائلة:
- ابحثوا تحت كل حجر و في كل زاويه، يجب ان نجد ذلك السر
- الوقت يمر مسرعا .. قال الأستاذ مبارك
انفض الجمع بكل اتجاه، وامتلئت المدينة بالرؤوس وبالأيادي التي تبحث عن سر تكتمه المدينة، و تبعهم الأستاذ مبارك ونور و عامر:
- ماذا يعني اسم جرش؟ يا أستاذ مبارك .. سالت نور
- جرش تعني المكان كثيف الأشجار.
جال عامر بنظره بالمدينة التي غطاها نور القمر، بعد أن هزت كلمات الأستاذ مبارك اذنيه، ولم يجد المدينة كثيفة الشجر، بل اشبه بأرض قاحله الا من بعض الشجيرات :
- أستاذ مبارك ، اظن أن السر قد عرفته ؟!
- هذه المدينة مازالت تحافظ على جمالها، ولكن لا شجر فيها، فإما ان يتغير اسمها أو أن نعيد لاسمها معناه.
جال الأستاذ مبارك بناظريه إلى ما أحاط بهذه المدينة، وقال بالفعل، ونادى بالناس إلى الاجتماع
- تبدى لنا السر بهذه المدينة!
- احملوا غرسه بأيدكم، زيتون، صنوبر، سرو، واغرسوها فوق جبال جرش، وفي سهولها، وبين اعمدتها و حول مدرجاتها، وفي ساحات بيوتكم، وعلى اطراف شوارعها، و أمام قوس "هادريان".
- فل يغرس كل منكم شجرة اليوم، لنعيد لجرش معنى اسمها.. لنعيد لها اخضراراها و وجمالها.
- ومن يغرس منكم شجرة فليتبعنا إلى عمان، لنكشف سر عمان الذي اغضب شمسنا .

5
السر الثالث
دخلوا عمان بنهاية اليوم الثاني، وتبعهم من غرس اشجاره بجرش، ومن آمن بان شروق الشمس آت، وكانت الحشود تستقبلهم على أرصفة شوارع عمان، وفي ساحاتها، وكثير من أهلها استبقوهم بالبحث بين جبالها، ووديانها، عن سر كتمته جبالها، سر جعل الشمس تغضب وترفض الشروق من جديد.
وصلوا إلى العبدلي، و اتخذوا مكان وسطا بين مجسد الملك عبدالله، وكنيسة الأقباط، ودلفت إليهم الحشود من جبل الحسين، ومن وسط البلد ومن الشميساني ومن كل شارع، ومن فوق كل، رصيف وقال رجل عجوز واجه الأستاذ مبارك وعامر و نور:
- بحثنا بتاريخ عمان، فلم نجدها إلا مدينة سلام.
- سكنها البشر قبل 9000 سنة، ومازالت جبالها السبعة شامخة، ومازال فيها البشر يعبدون، ومنهم يتهجدون، وآخرون يرسمون الفرحة على شفاه اللاجئين، والخائفين والمذعورين الذين سكنوا بيوت عمان هربا من موت أو خوفا من قلة طعام.
- عمان بيوتها اتسعت لأهلها، ولجيرانها من بلاد العرب، وما ضقت علينا يوما.
- فكيف لمدينة بهذه الرحمة أن تغضب الشمس؟!
ارتفع صوت رجل آخر وقال:
- بحثنا تحت كل حجر بجبل القلعة، حيث سكن أهل عمان الأوائل، و مررنا بوادي عين غزال، وعبرنا من فوق كل أثر، فلم نجد أي سر يختفي تحت ثناياها.
- كيف لمدينة، سكنها فيها من عبد اللات والعزى، واحبها من أمن بالمسيح، و أمن فيها من تبع رسول المسلمين، كيف لمدينة مثلها أن تغضب الشمس؟!
قال الأستاذ مبارك:
- لابد أن فيها سر، برغم أنها مدينة ذات قلب كبير، و أهلها لهم اديان ومذاهب واصول شتى ، وتعايشوا بأمان بكل العصور، لابد أن يكون فيها سر يختفي في مكان ما، ولابد لهذا السر أن يكشف اليوم.
- ومن سوف يكشفه ايماننا بأن الشمس يجب أن تشرق.
التف جمع من المسيحيين وراء مطرانهم، واصطف آخرون من وراء شيخ ام فيهم، و توجه الجميع بأيديهم يدعون الله، أن يخرج اليهم بذلك السر، وأن تشرق الشمس من جديد، ومن وقف حولهم، ومن اعتلى الادراج و الأرصفة ، رفعوا أيديهم كذلك.. رفعوها داعين الله أن يكون الغد كله نور.
- مالي أرى أن كل من بعمان رجال فقط ! من يدعي ومن يصلي ومن يقف فوق الرصيف، رجال! هل الشمس للرجال؟! .. قالت نور لعامر.

- كيف لهذه المدينة التي كبرت بداخلي، و كنت كلما اسمع اسمها، اتخيلها فاتنه، وجدائلها مرخيه فوق الكتفين، اين جمال عمان، و ورود بيوتها.. وأين ملكات البيوت اللواتي باركهن المجد؟!
وقفت نور بين المصلين، وبين الداعين، وبين المتأملين وقالت:
- اين نساء عمان؟!
- اين بنات عمان؟
- وأين جدائلهن، فالشمس لن تشرق على رجال عمان، إلا اذا وقفن بنات عمان جنبا إلى جنب مع الرجال.
- لن تشرق الشمس إلا بعد أن تتزين بنات عمان، و يجدلن شعرهن ، ويضعن طلاء الاظافر الأحمر و احمر الشفاه .
- الشمس سوف تشرق من فوق وجوه بنات عمان ومن وراء قامات أهلها.

6
السر الرابع
في صباح اليوم التالي المظلم ،عبقت عمان برائحة العطور، الفرنسية، والعربية، و تزينت عمان بجمال سيداتها اللواتي اغرقن الشوارع، و اختلط جمالهن بجمال الزهور، وهن مرخيات الجدائل من فوق الاكتاف، قال الأستاذ مبارك للجموع المحتشدة، ولبنات عمان الجميلات، قال للمطران و لشيخ الجامع، ولرجال عمان، و دعى اهل جدارا، واربد، وجرش، وعجلون، ودعا سكان كل قرية، وكل مدينة، خاطب اهل مادبا، وحسبان وذيبان، والسلط ، ان يتوجهوا نحو البتراء.
طلب من كل عازف أن يجلب كمانه، و قانونه، وعوده و مزماره، طلب من كل شاعر أن يعد قصائده، وطلب من كل متهجد أن يحضر ادعيته، طلب من كل طفل، ومن كل لاجئ ومن كل خائف، أن يتقدم الركب إلى البتراء، وطلب من اهل الطفيلة والكرك و العقبة ومعان، ان يلتقوا بهم في البتراء، وطلب من اهل وادي موسى أن يستعدوا للاحتفال بعودة شروق الشمس. وان يعدوا كثيرا من أكاليل الغار و الزيتون.
قال الأستاذ مبارك:
- سر البتراء لا يمكن ستره، فجدارا و جرش وعمان، تحالفوا لا كثر من 400 عام خوفا من البتراء و من الانباط
- حتى الرومان تحت هذا الحلف وباسمة ، وعندما اعتدوا يوما على اهل البتراء، غضب أهلها ، ولم يبقوا من جيش الرومان إلا خمسين رجلا .
- البتراء مدينة الصخر، البتراء أهلها احبوا الجمال والفن والنحت.
- البتراء أهلها سكنوا الصخور فاحبوا السكون والهدوء.
- ولان حلف "ديكابولس" (جدارا و عمان وجرش) كان عليهم أن يتقدموا للبتراء ولأهلها، بشعرهم، وبفلسفتهم، وبفنهم لا بسيوفهم ؟! وبعد 1900 سنة، سوف نذهب كلنا للبتراء، نغني لها و لتاريخها ولمن مات من أهلها، أو تخلدت ذكرياته.
- سوف نذهب لننشد للبتراء ، وننتظر الشمس هناك .
فاض السيق ببنات عمان وجرش ومعان والعقبة والكرك، وبجهات اهل البلاد السمر والبيضاء والسوداء، اختلط العازفون بالشعراء، و الأطفال و الشيوخ، امتلأت ساحة الخزنة بالأردنيين بالمسلمين، والمسيحيين، وبمن لم يعرف الها كذلك، بل امتلأت بكل اللاجئين، والقادمين، والزائرين، امتلأت المحكمة وساحتها، و امامها و بجوانبها، وكذلك الدير لم يعد به مكان، و اصطف من استطاع التسلق فوق وعلى حافات الجبال، و وقف عامر و الأستاذ مبارك ونور على درجات الخزنة، قبل بزوغ الفجر بدقائق، بعد ان تجهز العازفون، والعشراء والمغنون، واصطف الرجال والنساء ، وكل عيونهم باتجاه السماء ينتظرون وقال عامر بصوت متهدج، صادح بقوة الصخر :
تأتي وتمضي الشّمسُ لكنّما عندي شروقُ الشمسِ مثل الغروب
هذا يُزيح النومَ عن مُقلتي وذاك يُدمي القلبَ حتى يذوب
عند الضحى أشتاقُ يا مهجتي وفي الدجى بينَ الدراري أجوب
أنوح بالأشعار بَعد النّوى وأرقُبُ الأيّامَ حتّى تؤوب
لو كان نوحي عُدّ الورى ذنباً لكنتُ اليومَ كلّي ذنوب
لكن عزاء القلب أنّ الأسى قد صار شعراً عشقتهُ القلوب
و رفعت نور صوتها بالغناء بينما يد عامر تحضنها من وراء ظهرها و عيونهما نحو الشمس :
بكتب اسمك يا بلادي
على الشمس ألما بتغيب لا مالي ولا أولادي
على حُبك ما في حبيب
يا دار الأوفى دار
تلبق لِك الأشعار
تبقى على الداير مضوية
مزروعة مجد وغار
على البرج العالي
ودخول خياله
وسيوف تلالي
وعزك ما يغيب
لا مالي ولا أولادي
على حُبِك ما في حَبيب
ردد ملاين الأردنيين، والأستاذ مبارك تلك الكمات بصوت كادت ان تتفلق له الصخور، حتى سقط أول شعاع على خزنه البتراء، وظلت تتوهج تلك الاشعة وتكثر و تسقط على أعمدة الخزنة ومن بين السيق، وبدا وجه نور يشع مع اشعاعات تلك الخيوط الأولى لصباح الشمس الغائب منذ يومين، وكلما تساقطت الاشعة اكثر، ارتفع صوت الغناء اكثر واكثر، حتى غطت اشعة الشمس كل البتراء، و اشرقت على جبل القلعة، ودخلت اشعتها من تحت قوس "هادريان" بجرش لتتساقط على اغضان الشجيرات المزروعة، و أضاءت حجر "آرابيوس" البازلتي بجدارا، بعد ان اعيد إلى مكانه الطبيعي، و اعادت لأعمدة ام قيس ظلالها، بعد أن بقيت أيام من دون ظلال، واعادت للعازفين الذين وقفوا بين أعمدة أم قيس ظلالهم ، وهم يغنون للحب وللسلام

قال عامر لنور لاحقا، لقد رأيت الاغريقي سعيدا ضاحكا.. واظنه همس باذني ونحن نستقبل اشعة الشمس الأولى وقال
- اليوم اعدتم لمن مات فو هذه الأرض احترامه
انتهى

نيسان ـ نشر في 2019-11-02 الساعة 10:29


رأي: محمد ملكاوي

الكلمات الأكثر بحثاً