المسجد الأقصى: الشرارة القادمة
د. عبد الله معروف
باحث ومتخصص في علوم القدس والمسجد الأقصى
نيسان ـ نشر في 2015-07-27 الساعة 21:58
أثبتت التجارب الطويلة في ظل الاحتلال الإسرائيلي للشطر الشرقي من مدينة القدس أن كلمة السر في أي مفاوضات أو نقاشات على المستوى السياسي هي المسجد الأقصى المبارك، ذلك المكان الكبير بمساحته الهائلة (144 ألف متر مربع بالمناسبة) مع ما يحتويه من مبانٍ وقباب وساحات وأشجار هو الكلمة الفيصل التي يمكنها أن توقف أي مسيرة مفاوضات وتفجر الأوضاع في مدينة القدس وبالتالي في فلسطين بل وفي المنطقة كلها.
بعد ثمانية وأربعين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي للجزء الشرقي من مدينة القدس لا يحتاج أي مراقب إلى دراسةٍ عميقةٍ ليعرف مدى الفشل الذي بلغه مشروع تهويد مدينة القدس وتثبيت السيادة الإسرائيلية في هذه المدينة المقدسة، فالوجه العام للمدينة لا زال عربياً مسلماً، والصورة الكبرى الأهم للقدس لا تزال تحفل بمشهد المسجد الأقصى المبارك في صدر المدينة بما يغطي مساحتها البصرية العامة.
المسجد الأقصى المبارك يعني الجانب الديني من القضية الفلسطينية، وهذا الجانب يحلو لبعض السياسيين القفز عليه وإغماض عيونهم عنه ليعتبروا أن القضية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، لا يهم... المهم أن ينحوا الجانب الديني بعيداً...! وهذه في الحقيقة كلمة السر لفشل أي مسعى حاضراً أو مستقبلاً للوصول إلى أي حل لهذه القضية كما يحلم السياسيون والمفاوضون من الجانبين.
في ليلة السابع والعشرين من رمضان لهذا العام 2015 فاجأت جموع الشعب الفلسطيني المراقبين بتوافد حوالي ربع مليون إنسان إلى المسجد الأقصى لتقضي هذه الليلة المقدسة، ضاربةً بعرض الحائط جميع إجراءات الاحتلال التي اتخذها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإلغاء "التسهيلات" للفلسطينيين في الضفة الغربية للوصول إلى المسجد الأقصى بعد عمليات الطعن الأخيرة في القدس. فظهر واضحاً أن عناد الفلسطينيين فيما يتعلق بالمقدس الأبرز هو الأمر الذي ينبغي له أن يتعامل معه بجدية، خاصة وأن الفلسطينيين أخذوا هذه المسألة شعاراً لتحدي الاحتلال الإسرائيلي، فإذا بالشباب بالذات يدخلون المسجد بوسائل مختلفة بعد أن مزقوا تصاريح الجيش الإسرائيلي، بل وارتدى بعضهم قمصاناً مكتوب عليها (دخلناها خاوة)، و"خاوة"، لمن لا يعرف اللهجة الفلسطينية، كلمةٌ تعني "رغماً عنهم" أو"بالقوة".
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن العاطفة الدينية الجياشة تجاه هذا المكان المقدس لا تزال كما هي لم تتغير ولم تتبدل، وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في نقل الصورة من الداخل دون تدخل مقص الرقيب العسكري الإسرائيلي أو غيره، لتكشف للعالم كله مدى ما يعانيه المقدسيون في المسجد الأقصى المبارك من تمييز، ومدى قدرة المقدسيين على تحدي هذه الإجراءات الإسرائيلية، وأكبر دليل على ذلك مشهد المرابطات الممنوعات من دخول الأقصى، والذي عمَّ العالم كله ليصبح حديثَ الصورة في كثير من المواقع.
لكني في الحقيقة أشك جداً في أن يلتقط نتنياهو هذه الإشارة المهمة، فقد فشل في التقاط كثير من الإشارات قبلها، وما يزال الاحتقان في مدينة القدس يزداد باطِّرادٍ كبيرٍ مع تصاعد عمليات الطعن، وهو ما يعني أن مدينة القدس على أبواب انفجار وشيك، ولكن هذا الانفجار لن يكون انفجاراً ذا طابع سياسي فيما يبدو، وإنما ذا طابع ديني، ويدعم هذا التحليل موقف المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى المبارك، الذين أصبحوا اليوم حجر الزاوية والعقبة الأبرز في وجه طموحات الجماعات اليهودية المتطرفة باقتطاع أجزاء من المسجد الأقصى المبارك لصالح اليهود.
قبل خمسة عشر عاماً كان المسجد الأقصى المبارك مركز وشرارة انطلاق انتفاضة الأقصى التي غيرت وجه المنطقة وأدت إلى صعود المقاومة الفلسطينية لتسيطر على قطاع غزة وتصبح قوةً يحسب لها الإسرائيليون ألف حساب. واليوم نرى أن الأوضاع في المسجد الأقصى المبارك تكاد تقترب من حافة الانفجار مرة أخرى، ولكن أي انفجار في القدس اليوم سيكون مختلفاً عن سابقه قبل خمسة عشر عاماً، فالأوضاع هذه المرة في الضفة الغربية تختلف عن ما كانت عليه في تلك الفترة، والاحتقان الفلسطيني في الضفة الغربية بلغ أشده أيضاً، ولا أشك لحظةً في أن شرارة الانفجار في القدس ستمتد كلمح البصر لتعم الضفة الغربية التي لن تنفجر في وجه الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل في وجه السلطة الفلسطينية قبله، فلم يمر على الضفة وقتٌ كانت فيه الأوضاع الأمنية أشد حرجاً من هذه الفترة.
نتنياهو يلعب بالنار، وهو لا يدرك ذلك، وربما يقود المجتمع الإسرائيلي بأكمله إلى مواجهةٍ جديدةٍ شاملةٍ في الأراضي الفلسطينية، لكن عليه أن يعلم أن هذه المواجهة ليست كالتي سبقتها، فغزة لم تعد كما هي، والقدس عرفت طريق المقاومة الشعبية غير المنظمة التي لا يمكن توقعها، والضفة الغربية تكاد تنفجر في وجه السلطة وتنهي التنسيق الأمني إلى الأبد، وحتى فلسطينيو مناطق 48 في قلب دولة الاحتلال أصبحوا أكثر قرباً من محيطهم الفلسطيني مما سبق، وأبعد ما يكونون عن ما تسميه إسرائيل "مواطنة".
هافينغتون بوست