عن بيان الاصطفاف وقوى اليسار المضادة
خليل العناني
كاتب مصري
نيسان ـ نشر في 2015-07-28 الساعة 13:47
أثار بيان حركة الاشتراكيين الثوريين حول "الإرهاب والاصطفاف الوطني" حالة من الجدل والتدافع الفكري في مصر. وجاء الهجوم الأعنف عليه ممن يفترض أنهم يقفون في معسكر "الاشتراكيين الثوريين" نفسه، وهو معسكر اليسار. البيان، وباختصار شديد، أعاد تعريف أبجديات الصراع وبديهياته التي حاولت الماكينة الإعلامية التابعة للعسكر طمسها وإذابة خطوطها الفاصلة، طوال العامين الماضيين. فهو يقول، بوضوح، إن المعركة الحقيقية والأصيلة يجب أن تكون ضد الديكتاتورية العسكرية الفاسدة، وإن من يرى غير ذلك فهو داعم، ولو بشكل ضمني، هذه الديكتاتورية. وفضح البيان أيضا حالة الميوعة والرمادية التي تسم مواقف قوى سياسية كثيرة، خصوصاً المحسوبة على الثورة، والتي لا تزال تضع رأسها في الرمال، بعد الخراب والدمار الذي أصاب الحياة السياسية، طوال العامين الماضيين، ليس فقط لأنها شريكة فيه، ولكن أيضا نكاية في خصمها اللدود، وهو جماعة الإخوان المسلمين.
وما أن صدر البيان، حتى هوجم من مختلف القوى السياسية، خصوصاً التي تدور في فلك السلطة العسكرية. وإذا كان من الطبيعي مهاجمته من الأذرع الإعلامية التابعة للعسكر، وتكرار الاتهامات المعهودة بوجود تحالف بين "الاشتراكيين الثوريين" وجماعة الإخوان المسلمين، وذلك من أجل استمرار مسلسل التقسيم والتشرذم، وفق قاعدة "فرّق، تسْد" التي يمارسها النظام العسكري منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، فقد كان مفاجئاً أن تهاجم رموز وأصوات يسارية، أو هكذا تدّعي، البيان ومن أصدروه، وتستحضر في ذلك مفردات المكارثية ولغة المزايدات في وصف بيان "الاشتراكيين الثوريين". من هؤلاء أحد شباب ثورة 25 يناير الذي ساهم في تأسيس أحد الأحزاب المحسوبة على اليسار الاجتماعي بعد الثورة، لكنه بات أحد الداعمين الرئيسيين لمسار "30 يونيو"، وما لحقه من كوارث سياسية. وبدلاً من أن يعتذر هذا الشاب عن جريمته وجريمة حزبه في حق الثورة، أو أن يعترف بخطئه في تمهيد الأرض لتثبيت حكم العسكر، فقد خرج مهاجماً بيان "الاشتراكيين الثوريين"، وساخراً من الحركة، وطاعناً في قدرتها على التأثير لقلة حجمها، بلغة تهكمية تثير التقزز والاشمئزاز. وهو الشخص نفسه أيضا الذي لا يملّ، في تعليقاته وكتاباته، معزوفة أن "الإخوان خائنون" و"باعوا الثورة"...إلخ، ليس لشيء سوى تبرير موقفه السياسي المشين.
وباعتقادي أن مشكلة قوى اليسار، أو التي تدّعي تمثيله، وهى في الحقيقة أبعد ما تكون عنه، مع بيان "الاشتراكيين الثوريين"، ليس فقط أنه رفض وضع "الإخوان" في خانة السلطة العسكرية القمعية نفسها. ولكن، لأنه رفع ورقة التوت عن موقف تلك القوى المتهافت، وضبطها في حالة "تلبّس" مع السلطة العسكرية. كما أنه كشف حالة "التحالف المدنّس" بين هذه القوى وقوى الثورة المضادة، فقد تحدث البيان، بلغة صريحة، عن أولئك النفر الذي يقف في "منتصف الطريق. يرفض الثورة المضادة بنفس درجة رفضه للإخوان. أي يعتبر أننا أمام فصيلين من الثورة المضادة. فصيل عسكري مباركي مرفوض، وفصيل إخواني إسلامي مرفوض. ويحاول هؤلاء أن يبقوا على مسافة واحدة من الفصيلين المتحاربين، متصورين أن بإمكانهم تجاهل كل هذه المعارك، والعمل على بناء بديل ثالث، يعارض بنفس الدرجة قمع وسياسات النظام العسكري".
ذكاء بيان "الاشتراكيين الثوريين" وقوته، أيضاً، أنه سحب تلك القوى التي تدّعي اليسار والثورية خارج منطقة الراحة comfort zone التي استرخوا و"ناموا" فيها طوال العامين الماضيين، حمّلوا خلالها "الإخوان" كل أوزار تلك الفترة من دون توجيه اللوم، ولو على استحياء، للسلطة العسكرية أصل البلاء. وكشف البيان أيضا حالة التناقض والازدواجية التي تعيشها بعض رموز وقوى اليسار الجديد في مصر، ووصلت إلى درجة رثّة وبائسة من التهافت وانعدام الوزن وافتقاد الحكمة. كما عرّى أطروحتهم المتهافتة والساذجة التي برروا بها المشاركة في مسار الانقلاب، وتدّعي القدرة على التخلص من حكم العسكر، مثلما تم التخلص من حكم "الإخوان". أو وجهها الآخر الذي يوفر لها مقعداً مريحاً في صفوف المتفرجين على الصراع الدائر الآن بين الطرفين، لأنه، كما يأملون، سوف يدفع بهم إلى الواجهة، بعد أن يستنزف كلا الطرفين.
أما أذكى ما في البيان، فهو رفع الغطاء عن تلك المعادلة الخبيثة، "القمع مقابل الاستقرار"، التي يستخدمها النظام الحالي في مواجهته مع قوى التطرف والإرهاب. فالبيان يقول، بلغة صريحة لا تقبل التأويل، إن "الإرهاب الأقوى والأخطر هو إرهاب الديكتاتورية العسكرية. بل إن الديكتاتورية هذه هي المسبب الحقيقي لكافة أشكال الإرهاب"، قبل أن يقدم الحل المنطقي للخروج من الأزمة الحالية، حين يقول إن "الطريق الثوري الوحيد هو إعادة إحياء أسلحة النضال الجماهيري من اعتصامات ومظاهرات وإضرابات، في مواجهة ديكتاتورية عسكرية فاسدة، لم نر منها سوى مزيد من الفقر والقهر والعنف والإرهاب".
وبعد الجدل الذي أثاره البيان والهجوم الحاد عليه، خصوصاً من بعض من يدّعون الثورية، أصدرت حركة الاشتراكيين الثوريين بياناً توضيحياً رد فيه على مهاجميه، ورفض فيه وصف "الإخوان" بأنها "حركة فاشية"، مثلما يقول بعضهم، معتبراً إياها حركة إصلاحية وليست ثورية. وعلى الرغم من أن البيان التوضيحي رفض فكرة التحالف مع الإخوان، واتهمهم بخيانة الثورة بتحالفهم مع المجلس العسكري قبل انقلاب 3 يوليو، إلا أنه لم يستسلم للابتزاز والمزايدات التي تعرّض لها ممن هاجموه، وأعاد التأكيد على ما جاء في بيانه الأول أن المعركة الحقيقية هي مع الديكتاتورية العسكرية.
يؤكد بيانا "الاشتراكيين الثوريين" أن الانحياز للقيم والمبادئ يجب أن يكون هو الحد الفاصل بين الثورة والثورة المضادة، وأن الخلاف الإيديولوجي والسياسي لا يجب أن يطمس حقيقة وأصل الصراع الدائر في مصر بين سلطة عسكرية متغلّبة ومجتمع يحاول التحرر منها. كما أنهما يلقيان بحجر في مياه السياسة الراكدة في مصر، وأكدا أنه على الرغم من حملات التخوين والتخويف والمكارثية التي تمارسها السلطة العسكرية، فإن ثمة بقية من عقلٍ لا تزال موجودة، وأن في وسع مجموعة، ولو صغيرة عدداً، أن تكون حاضرة ومؤثرة بقوة موقفها وجلاء بصيرتها.