في غياهب النسيان
خليل العناني
كاتب مصري
نيسان ـ نشر في 2015-07-31 الساعة 16:40
لا تذكر كتب التاريخ اسماً واحداً من حوالي مليون عامل مصري حفروا قناة السويس، قبل قرن ونصف، ولا توجد كتب توثّق ما حدث لما يقرب من حوالى 120 ألفاً من العمال والفلاحين المصريين، قيل إنهم ماتوا في أثناء قيامهم بعملية الحفر، وكانوا يعاملون بطريقة السُخرة. ولكن، ما يذكره التاريخ، وتفيض فيه كتب المؤرخين، هو ذلك الحفل المهيب الذي جرى خلال افتتاح القناة، والذي تقول كتب التاريخ إن الخديوي إسماعيل سافر إلى أوروبا، من أجل دعوة الملوك والأمراء والفنانين والأدباء ورجال السياسة، من أجل حضور الحفل. وإنه تم استخدام ما يقرب من 500 طاهٍ وألف من الخدم، ليكونوا في خدمة الحضور. كما تسهب كتب التاريخ فى وصف يوم الافتتاح الأسطوري الذي وافق 16 نوفمبر/تشرين ثاني 1869.
وإذا كانت كتب التاريخ قد وثقّت حجم الأموال التي تم صرفها على حفر القناة، وبلغت، بحسب معظم المصادر، حوالى 370 مليون فرنك فرنسي (كل جنيه 5 فرنكات وقتها)، وعن كيفية الحصول على هذه الأموال، سواء من خلال الاكتتاب الداخلي أو الاقتراض الخارجي، فإنها لم تخبرنا عن العوائد المالية للقناة، وكيف تم توزيعها وإنفاقها. ولكن، ما نعرفه يقيناً أن هذه الأموال ذهبت في جيوب الخديوي وحاشيته، وامتلأت بها "كروش" الباشوات والبكوات والإقطاعيين أصحاب المصالح والمرتبطين بالسلطة، ولم ينل الشعب منها سوى "الفرجة" والتفاخر بحفل الافتتاح. بل الأنكى، كما هو معروف، أنه تم منح الشركة الفرنسية التي أشرفت على عملية الحفر حق امتياز استغلال القناة لحوالى 99 عاماً تبدأ فى 1869 وتنتهي في 1968، والتي حاولت الشركة لاحقاً مدها 40 عاماً إضافية، كي تنتهي عام 2008، قبل أن يؤممها جمال عبد الناصر في يوليو/تموز عام 1956.
ما سبق يؤكد الحقيقة التاريخية الثابتة، وهي أنه متى حضرت السلطة، غاب الشعب. فقد كان المواطن المصري، ولا يزال، الغائب الحاضر في جميع المشاريع القومية الكبرى، وذلك لحساب السلطة التي لم تحتكر فقط مداخيل هذه المشاريع وتبتلعها، وإنما احتكرت أيضا كتابة التاريخ وصناعة سرديته من وجهة نظرها، وليس من وجهة نظر من صنع هذه المشاريع وأنتجها وأنجزها وجعلها حقيقة. والبطل دائماً هو الزعيم أو القائد الذي يقص شريط الافتتاح، وليس العامل أو الفلاح الذي دفع حياته ثمناً لهذه اللحظة.
وكأن الزمن يعيد نفسه، فبعد أيام قليلة، سوف يتم افتتاح التفريعة الجديدة لقناة السويس، وهو مشروع ظل مؤجلاً عقوداً، إما بسبب البيروقراطية المصرية، أو بسبب رفض المؤسسة العسكرية القيام بالأمر، لأسباب كان بعضهم يقول إنها تتعلق بالأمن القومي، لكنها فجأة، وبعد وصولها إلى السلطة بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، قررت تنفيذ المشروع، من أجل دعم شرعيتها وصورتها. وفمثلما كانت الحال أيام الخديوي سعيد الذي أطلق شرارة حفر القناة، لا توجد لدينا الآن أية معلومات عن العمال المصريين الذي ساهموا في حفر التفريعة الجديدة، ولا نعرف ما إذا كان قد سقط منهم أحد، أو دفع حياته ثمناً لها، وكيف. كذلك لا نعرف أسماء من تم تهجيرهم وترحيلهم من قراهم وبلدانهم، من أجل إتمام المشروع. فهؤلاء جميعاً مجرد أرقام صغيرة، لا يجب التركيز عليها حتى لا يتم إفساد صورة الإنجاز "الكبير".
ستحتفل السلطة وسيرقص شعبها، وستنطلق المدافع والزغاريد تهليلاً بالإنجاز الأسطوري. ولكن، بعد ساعات قليلة، ينفض الجميع من دون أن يسألوا عن العوائد، أو كيف سيتم إنفاقها، أو توزيعها، وسوف يسجّل المؤرخون الحدث بأنه "لحظة تاريخية" فارقة، متغافلين عمن حققه، لكي يسقط فى غياهب النسيان، مثلما سقط أجداده من قبل.
العربي الجديد