اتصل بنا
 

في رثاء رحيلة

قاص واعلامي اردني

نيسان ـ نشر في 2020-03-20 الساعة 15:12

نيسان ـ اسمها رحيلة، لأنها، رحمها الله، ولدت عام النكبة، عام رحيلنا الموجع القاسي الممتد عن بلادنا فلسطين، مودّعين قريتنا الصغيرة بير ماعين قضاء الرملة، ربما إلى غير عودة، وربما إلى عودة يصنعها جيلٌ ما من أجيال النكبة التي ما تزال تتوالى وتكبر وتعرف، المهم أن تظل تعرف، أن لها بلد غير الذي تقيم فيه، بلد اسمها فلسطين، بلد سيظل اسمها فلسطين.
تزوجتْ في العام 1962، ولم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها. ولادتي حرضتْ روح الخصب في أعماقها، فلم يمض 43 يوماً على ولادتي (15/2/1964) حتى أنجبتْ آمال بكر بناتها وأولادها (4/4/1964)، الذين توالوا بعد ذلك، ووصلوا إلى ستة: ثلات بنات وثلاثة أولاد.
شاركت أمي رحمها الله، في ثلاث ولادات، ظروف النفاس وتفاصيل أول الحليب ووعود الِّلبا: ولادة العام 1964، ولادة العام 1966 وولادة العام 1972. وهي ولادات شملتني وشقيقي محمود وشقيقتي إيمان بما يخص خصب أمي، وشملت آمال وخالد ومحمد بما يخص خصب رحيلة.
ظروف وتفاصيل كثيرة جعلتها، ليس بعد رحيل أمي فقط، ولكن منذ أزمان بعيدة، أمّاً ثانية لنا. وأنا شخصياً تعاملتُ مع هذه الحقيقة بما يشبه المكر أحياناً، فحين يحتار أمري حول مسألة ما، أشاور أمي، ثم ومن دون أن أعلم الغالية والدتي رحمها الله، أذهب لمشاورة رحيلة رحمها الله وأكرم نزلها في دار الحق، ثم أرجح بين الرأيين، وأفاضل وأحسب وأتحسب. وعندما كانت تزعل أمي من رحيلة (ومااااا أندر المرّات التي حدث فيها ذلك)، كنت أزور شقيقتي بوصفي من عمر أولادها تقريباً، دون أن أخبر أمي الأولى.
لم أرَ، والله على ما أقول شهيد، أكثر منها صبرا، ولا أرجح منها عقلا، ولا أوسع منها صدرا.
ورغم حظها القليل من العلم، فقد عوّضت ذلك بأولادها الذين نالوا أعلى الدرجات: من البكالوريوس وصولاً للدكتوراه.
تملك خاصية استيعاب الآخرين، وتمثل لهجتهم وعاداتهم وخصوصياتهم إلى الحد الذي يجعلهم يتعاملون معها بوصفها واحدة منهم. وهو ما ظهر جلياً يوم رحيلها، فأنسباؤها تعامل كل طرف منهم مع الأمر كما لو أنه حزنه وحده، لدرجة أن نسايبنا آل أبو جاموس عرضوا دفنها في مقبرة عائلتهم، لم يكن عرضاً مجاملاً ولا استئثارياً ولا أنانياً، لا والله، بل يعكس بصدق وعمق كم تكوّن على مدار السنين بينها وبين نسايبنا الكرام من تفاعل وتعالق وتحابب وتواصل أصيل كريم.
جميلة المحيّا، عفيفة الخلق، كريمة النفس، ربة بيت من الطراز العريق القديم المثابر، مدبّرة من جيل الريفيات صانعات المستحيل، شقيقتي.. شقيقة القلب والروح والوجدان.. أمّي الثانية.. الوحيدة التي انحنيت لتقبيل يدها بعد رحيل لبيبة رحمهن الله وأكرم نزلهن.. جليسة ماكينة الخياطة من نوع سنجر.. صانعة نار البقاء من حطب الدروب الطويلة.. ساقية العابرين.. حاملة الأمانة.. راعية الشتات.. أبرع من خلطت الرز بالحليب.. وأطيب من وسّعت حوش الدار.. وأحنّ من تذكّرت المحرومين.. وأندى من حدبت على المحتاجين.. سميرة الليالي البعيدات.. ناسجة النور من عين النجوم.. شقيقتي.. شقية الروح والقلب والوجدان.. أمّي الثانية.. الوحيدة التي ملأت قلوبنا طمأنينة أنه لن يتفرق شملنا بعد رحيل والدتنا.. يا بعد قلبي يا شقيقتي.. من ستحمل الراية بعدك؟ من ستبقي هذا الحشد الكبير من الأسر والعوائل التي يجمع بينها النسب وتقرّبها النساء، على مسافة معقولة من الود والتواصل وتأدية الواجب؟
بأمان الله يا سيدة الواجب.. بأمان الله ورعايته وحدبه الكبير.. ولا أريد أن أوصيك بالسلام على الغوالي.. فأنت ولا مرّة احتجت لمن يوصّيك أو يذكرك.. أنت وصيتنا وحاضنتنا وذكرانا التي لن تموت.. إنا لله وإنا إليه راجعون.

نيسان ـ نشر في 2020-03-20 الساعة 15:12


رأي: محمد جميل خضر قاص واعلامي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً