اتصل بنا
 

1948؛ فاصلة منقوطة

كاتب صحافي

نيسان ـ نشر في 2020-05-13 الساعة 21:18

نيسان ـ بدت السماء قريبة مثل أغنية
مثل دبكة يلوح فيها أبو هشام*
مثل نبي مصاب بالحب ومختنق بالبوح
مثل مجنزرة هادرة تقبض على الطرقات
مثلي تماما وأنا أصغي بلذة فتى يحتلم لأول مرة
ثمة دروب لم تعبدها الحجارة، عبدتها الخطى الرائحة والجائية إلى الحواكير والبساتين على السفوح. التين والزيتون واللوز والخوخ والدراق والياسمين، قال كانت تبتسم لنا.
قال؛ ثمة مقام لولي نسميه إبراهيم الخواص، تربض روحه قريبا من السماء، كنا نراه على الأرض، نرى لحيته المخضبة بالحناء تتمسح بالأشجار. الولي مات في مدينة عراقية اسمها الري ودفن فيها، لكن جدك محمد، أصر على أنه دفن في ذكرين، فهز أهل البلد رؤوسهم موافقينه، وزرع دالية قرب قبره، تختبئ في تجويف يشبه المغارة. كان والدك حسن يتسلل إليها حين يغيب عن ناظريّ، فيأتي بقطوف العنب منها، صيفا شتاء. العنب ينضج في الصيف، ولا عنب في الشتاء، لكنها بَركة الخواص.. رحمه الله، جعلتها تثمر في كل الفصول. حتى أن خابية القمح في دار جدك الكبير، لم تفرغ يوما. كنا نغرف منها، وحين نصعد إلى بابها لنرى أين وصل مخزونها، كانت "تطشم" حتى يفيض القمح منها.
الخفير والفقير والعابر والمطارد؛ أكلوا من قمح محمد الذيبة
حراس الندهات البرية
أولاد الليل
المتسللون الى الكبانيات
العفاريت الزرق
ملك الجان الأحمر
كلهم، التموا على مائدة محمد
وتوضأوا من ماء بئره
ومسحوا رؤوسهم بزيته
وملأوا مخاليهم بالزبيب والقطين من خوابيه
وسموا باسم الله على موائده
وهزجوا بأشعارهم في بهو داره الكبيرة
كلهم كانوا يشهقون عندما يروا فرسه الشهباء
ويصلون على النبي
**
لم يدفن الخواص في ذكرين.
يبتسم أحمد، ويصفن طويلا. عادته تلك التي ترهقني حين أطلب منه أن يحكي، أو حين يدعوني لأسمع حكاياته.
كانت ذكرين القرية التي تَفلّع باطن قدميه على صخورها، وارتفعت في جنباتها صرخة أبي الأولى، وتوضأ أجدادي الألف من ماء ينابيعها، تحكي لي عن الخيول والجِمال الرابضة في ركن من حوش الدار الكبيرة، دار العائلة، سليلة أرق مديد من الزرّاع والتجار الصغار والمحاربين الذين نبتوا هنا، صاروا قطعة أزلية مع التراب والجبال والوديان والأشجار المتضاحكة، فعرفتهم الطرقات والندهات بأولاد محمد الذيّبة.
يحكون؛ أن محمدا هذا، قتل أحد الباشوات العثمانيين الذين شتموا الجبال. وظل مطاردا إلى أن عفا عنه باشا آخر، كان يقطن الجبال، وطلب منه أن يعمل لديه دركيا، فأبى: إذا كنت تمن علي بحياتي لأني دافعت عن الجبال من أحد حيواناتكم، فخذ روحي، ولا تشغلني دركيا ألاحق أهلي وربعي.
إصبح باشا بدون رتبة رسمية، كما قال الباشا الرسمي، ومنحه سيفا مقصبا بخيوط الذهب، وأهداه خنجرا من السلطان.
علق السيف في صدر الدار، وبقي الخنجر على خصره.
عندما جاء الإنجليز للبلاد، صادروا السيف والخنجر، وحبسوا جدك التالي محمود بضعة أيام، ثم عفوا عنه، حين وقف لهم بعض شيوخ الجبل، وطلبوا منهم إطلاق سراحه.. الإنجليز يهود التاريخ.. أبغض من اليهود، محتالون، حين أطلقوا سراح محمود، أعطوه تنكة ذهب ليصير زلمتهم، لكنه أرسلها لهم في خرج حمار.
ـــــ
*أحد الاعمام، كان زجالا مشهورا في مخيمي عين السلطان والبقعة.
---
*من كتاب أحمد
غ.ذ

نيسان ـ نشر في 2020-05-13 الساعة 21:18


رأي: غازي الذيبة كاتب صحافي

الكلمات الأكثر بحثاً