اتصل بنا
 

عن حكاية المليارات الثلاثة

نيسان ـ نشر في 2020-05-15 الساعة 04:06

نيسان ـ أشاع مؤخراً عدد من "معارضي الخارج" أن ثلاثة مليارات دولار من المساعدات الخارجية للأردن خلال فترة عشر سنوات قد تم تهريبها إلى حسابات مصرفية في الخارج، استناداً إلى تقرير للبنك الدولي صدر في شباط 2020 بعنوان " Elite Capture of Foreign Aideاستيلاء النخب على المساعدات الخارجية" وسرعان ما تم تداول "الخبر" من قبل أوساط محلية متعددة من خلال مواقع التواصل الإجتماعي وبعض المواقع الإلكترونية، حتى وصل الأمر إلى قيام أحد أعضاء مجلس النواب بتوجيه سؤال إلى الحكومة عن تفاصيل وملابسات الموضوع.
على الرغم من معرفتي السابقة بأساليب وإجراءات صرف المساعدات الخارجية من خلال عملي في وزارة التخطيط والتعاون الدولي سابقاً فقد كنت المسؤول المباشر خلال الفترة (1998-2003) عن تنفيذ برنامج تنموي بقيمة حوالي (100) مليون دينار معظمها منح وقروض خارجية منها (30) مليون دولار من البنك الدولي نفسه، وبالرغم من المغالطات الكثيرة التي تضمنها الخبر، فقد ترددت كثيراً قبل الكتابة في هذا الموضوع لحساسيته الشديدة أولاً وحتى لا أصنف ضمن المدافعين عن الفساد او المطبلين له ثانياً، إلا أن الأمانة الموضوعية والشعور بالمسؤولية في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها الوطن، قد حتما عَلَيَّ أن أعرض وجهة نظري في الموضوع لا أبتغي من وراء ذلك رضا" من زيد ولا أخشى أي سخطٍ أو ردة فعل من عمرو.
جاءت فكرة دراسة البنك الدولي من الرغبة في التعرف على كفاءة وفاعلية المساعدات التي يقدمها البنك للدول النامية في مجال تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية للدول المستفيدة، حيث تنخفض هذه الكفاءة وتلك الفاعلية في حال "تسرب" جزء من هذه المساعدات إلى أغراض ومقاصد لا علاقة لها بالأهداف التي قدمت هذه المساعدات لتحقيقها. لذا وفي ضوء عدم الرضا عن مستويات التنمية المتحققة في كثير من الدول المتلقية لهذه المساعدات، فقد أجريت دراسة لعينة رئيسية من هذه الدول يبلغ عددها (22) دولة -ليس من بينها الأردن- وهي الدول الأكثر اعتماداً على المساعدات الخارجية "نسبة التحويلات المالية السنوية من البنك لأي من هذه الدول لا تقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي"، وقد وجدت الدراسة أن الفترات التي تتم فيها تحويلات مالية من البنك لهذه الدول تشهد زيادة في أرصدة الودائع المصرفية القادمة من هذه الدول في البنوك الأجنبية سواء البنوك المصنفة بالملاذات الآمنة وهي التي تتمتع بقدر كبير من السرية والحماية أو البنوك والمصارف العادية، وقد استنتجت الدراسة بأن قيام البنك بتحويل مبلغ لهذه الدول يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة ثلاثة شهور يؤدي إلى زيادة الودائع القادمة من تلك الدول في بنوك الملاذات الآمنة بمقدار 3.4% وبنسبة 1.5% في البنوك العادية وخلصت في النهاية إلى أن نسبة التسرب من هذه المساعدات وللدول التي شملتها العينة الرئيسية للدراسة والتي لا تشمل الأردن كما أسلفنا تبلغ حوالي (7.5%).
بالرغم من أن محور الدراسة وموضوعها وكافة الإستنتاجات الواردة فيها تركز على الدول الإثنتين والعشرين الاكثر إعتمادا على المساعدات الخارجية، إلا أن الدراسة قد تضمنت في صفحتها الأربعين جدولاً يتعلق بعينة ثانوية تضم (24) دولة من بينها الأردن وهي دول تعتمد بدرجة أقل على المساعدات الخارجية، حيث ورد في الجدول أن مقدار الودائع الأردنية في البنوك الخارجية يبلغ حوالي (3.0) مليار دولار بواقع (2.0) مليار دولار في بنوك الملاذات الآمنة و (1.0) مليار دولار في بنوك ومصارف عادية، وأن نسبة زيادة الودائع في بنوك الملاذات الآمنة قد بلغت (1.4%)، أما الزيادة في ودائع البنوك العادية فهي قيمة متدنية جداً وتعادل (0.1%) فقط، مما يعني حسب منطق الدراسة بأن المبالغ "المتسربة" من المساعدات الخارجية كانت تودع فقط في بنوك الملاذات الآمنة والتي يبلغ إجمالي أرصدتها (2.0) مليار دولار، وهذا يعني أن مبلغ (1.0) مليار المودع في البنوك والمصارف العادية لا علاقة له بموضوع إساءة استعمال المساعدات الخارجية، وهنا نقول أن كافة من تناولوا هذا الموضوع وعلقوا عليه سواء في المواقع الإلكترونية او وسائل التواصل الإجتماعي لم يقرأ التقرير موضوع البحث بدليل أن الدراسة تتناول فترة زمنية مقدارها 20 سنة (1990-2010) وليس (10) سنوات كما ذكروا، هذا أولاً أما ثانياً فالمبالغ التي وردت في تقرير البنك الدولي لا تمثل قيم المبالغ "المتسربة" من المساعدات الخارجية كما زعم المُرَوِجون وإنما أرصدة الحسابات التي "تضخمت" حسب الدراسة بالتزامن مع تحويل المساعدات الخارجية للدول المعنية.
هذا من حيث تحليل الأرقام الواردة في الدراسة، أما ما وراء ذلك فأمر غريب ويطرح أسئلة لا تنتهي عن الهدف من هذه الدراسة وتوقيتها، فكل من عمل في مشاريع ممولة من البنك الدولي يعلم تمام العلم صرامة إجراءات الصرف والتدقيق التي يمارسها البنك الدولي على المشاريع التي يمولها، فقيم القروض والمنح التي يقدمها البنك لا يتم تحويلها ضمن حقائب ملأى بالنقود، وإنما دفعات على حساب مطالبات لمقاولين أو موردين أو استشاريين يتم التعاقد معهم وفق منهجيات وإجراءات البنك، ولا يتم المضي قدماً في أي إجراء قبل الحصول على عدم ممانعة البنك الدولي "no objection" ناهيك عن البعثات والوفود المتتالية التي تحضر إلى البلد المستفيد وتقوم بتدقيق كل صغيرة وكبيرة، ما فائدة تعليمات ومنهجيات البنك في المراقبة والتدقيق والشفافية والحوكمة والمتابعة والتقييم، إذا كنا لا نستطيع الحكم على ضمان استخدام أموال البنك المقدمة لدولة ما في الأغراض المتفق عليها إلا من خلال مراقبة الحسابات الخارجية لرعايا هذه الدولة ....؟؟؟!!!! من يدين هذا التقرير في حال افترضنا صحته .... هل هم النخبة أصحاب القرار في الدول المستفيدة .... أم مسؤولو البنك الذين هم مهملون متقاعسون إذا افترضنا حسن النية أو شركاء متواطؤون في إذا افترضنا سوءها ....
ختاماً نقول ما ورد في تقرير البنك الدولي هي استنتاجات فريق العمل الذي أجرى الدراسة والتي حاول أن يثبت صحة وسلامة النهج الذي اتبعه في الدراسة، وهي استنتاجات غير قطعية بدليل أن الفريق قد حرص على حفظ خط الرجعة في موضعين على الأقل من التقرير في حال ثبت بطلان استنتاجاته بالقول "التفسيرات / الشروحات الأخرى ممكنة other interpretations-explanations are possible " .

نيسان ـ نشر في 2020-05-15 الساعة 04:06


رأي: المهندس عادل بصبوص

الكلمات الأكثر بحثاً