أَحْمَدُ عَبْدِ العَزِيزِ عَمْرٍو يكتب: في رثاء المناضل العروبي ضافي الجمعاني
نيسان ـ نشر في 2020-05-18 الساعة 03:02
نيسان ـ أرْبَعُونَ ضَافِي الجَمْعَانِيِّ .
أَحْمَدُ عَبْدِ العَزِيزِ عَمْرٍو
فِلَادِلْفْيَا / پِنْسِلْڤيٰنْيَا
بِغُرُوبِ شَمْسِ هَٰذَا النَّهارِ ، يَكُونُ قَدْ مَرَّ
أرْبَعُونَ يَوْماً عَلَىٰ وَفاةِ فَقِيدٍ كَرِيمٍ ، مَاتَ فِي صَمْتِ نازِلَةِ كُوٰرُوٰنا ، وَحَجْرِهَا وَانْقِطَاعِهَا ، فَكَانَ ذَٰلِكَ مَيْلاً ءاخَرَ ، مَالَ بِهِ نَكَدُ الزَّمَانِ عَلَىٰ قِيمَةِ هَٰذَا الرَّجُلِ العَزِيزِ وَكِفَاحِهِ ، وَعَلَىٰ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِوَدَاعِهِ ، فَشُيِّعَ فِي جِنَازَةٍ مُخْتَصَرَةٍ ، غَابَ عَنْهَا لِذَٰلِكَ أكْثَرُ أُولِي القُرْبَىٰ وَمُحِبُّوهُ .
• إنَّهُ المُنَاضِلُ ضَافِي الجَمْعَانِيُّ ، الَّذِي تَتَنَازَعُهُ الأُرْدُنُّ وفِلِسْطِينُ ؛ كلٌّ يَقُولُ إنَّهُ ابْنِي ، وَهُمَا صَادِقانِ جَمِيعاً ، كَمَا يَصْدُقُ الزَّوْجَانُ إذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَّنْ أنْجَبَا " هَٰذَا ابْنِي " ، وَكَانَ هَٰذَا ظَاهِراً جَلِيّاً فِي كِتَابَةِ التَّرْحِيبِ بِهِ فِي مَادَبَا يَوْمَ خُرُوجِهِ ، إذْ كَتَبُوا عَلَىٰ المَدْخَلِ ( مَادَبَا تَفْتَحُ ذِرَاعَيْهَا للْمُنَاضِلِ البَطَلِ ابْنِ الأرْدُنِّ وَفِلِسْطِينَ .. ) .
فَقَدْ وُلِدَ لِقَبِيلَةٍ كَرِيمَةٍ فِي شَرْقِ الأُرْدُنِّ ، وَشَبَّ عَنِ الطَّوْقِ فِيهِ ، وَاشْتَدَّ عُودُهُ فِي جَيْشِهِ ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ أشُدَّهُ ، وَقَدَّرَ اللهُ لهُ ذَٰلِكَ القِسْطَ الرَّاجِحَ منَ الشَّجاعَةِ والتَّوَقُّدِ الوَطَنِيِّ ، وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إلَىٰ أنْ يَرَاهَا أُمَّةً عَرَبِيَّةً وَاحِدَةً ، انْتَظَمَ فِي حِزْبِ البَعْثِ ، فَأَخْلَصَ ، وَصَابَرَ ، وَرَابَطَ ، وَسُجِنَ سِتَّ سِنِينَ ، وأُخْرِجَ مِنَ الجَيشِ ، ورَهَنَ نفْسَهُ لِفِلِسطينَ الَّتِي مَلَكَتْ عَلَيْهِ عَقْلَهُ ، حَتّىٰ صَارَ قَائداً لِمُنَظَّمَةٍ كَانَتْ قَبْلَ أنْ تَعْدُوَ عَلَيْهَا الغَوَائلُ ، وَتَتَقَسَّمَهَا الأَهْوَاءُ مِنْ بَعْدِهِ ، ذَاتَ تَأثِيرٍ بَالِغٍ وجَبَرُوتٍ ، في العَمَلِ الفِدَائيِّ الفِلِسْطِينِيِّ ، هِيَ طَلَائعُ حَرْبِ التَّحْرِيرِ الشَّعْبِيَّةُ / قُوَّاتُ الصَّاعِقَةِ .
فَكَانَ ضَافٍ بِهَٰذَا شَاهِداً ءاخَرَ - مَعَ نَايِفِ حَوَاتِمَةَ - عَلَىٰ أنَّ فِلِسْطِينَ وَالأُرْدُنَّ صَارَا جِسْماً وَاحِداً ؛ يَكُونُ فِيهِ الرَّجُلُ مِنْ شَرْقِ الأرْدُنِّ ، وَيَقُودُ تَنْظِيماً فِلِسْطِينِيّاً مُسَلَّحاً ! فِي بَلَاغٍ مُبِينٍ عَنْ لَحْمٍ لَا يُفَارِقُ العَظْمَ ، وَعَنْ فَرِيقَيْنِ شَرْقِيَّ النَّهْرِ وغَرْبِيَّهُ ، صَارَا فَرِيقاً وَاحِداً .
• وَلَٰكِنَّهُ مَيَّزَ سِيرَتَهُ النِّضَالِيَّةَ جَانِبٌ ءَاخَرُ ، كَانَ مُؤْسِفاً جِدّاً هَٰذِهِ المَرَّةَ ؛ فَقَدْ دَخَلَ السِّجْنَ رَبِيعَ سَنَةِ ١٩٧١ م ، بِذَنْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ حَيَاتَهُ كُلَّهَا حَتَّىٰ مَاتَ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَٰلِكَ سِجْناً " إسْرَائيلِيّاً " يَدْخُلُهُ المُنَاضِلُونَ الفِلِسْطِينِيُّونَ عَادَةً ، فَلَكَانَ إذَنْ قَدَراً مَفْهُوماً ، وَلَسَألَهُ المُحَقِّقُونَ هُنَاكَ : مَا اسْمُكَ ؟ وَلَاتَّهَمُوهُ شَيْئاً ، وَلَكَانَ لَهُ مُحَامٍ ، ثُمَّ لَقَضَوْا عَلَيْهِ بِسَجْنٍ إلَىٰ أجَلٍ مُسَمًّى يَعْلَمُهُ ! وَلَٰكِنْ - لِفَرْطِ الأَسَىٰ وَاسْتِيلَاءِ الخَيْبَةِ - لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْئٌ مِنْ ذَٰلِكَ بَتَّةً .
فَقَدْ كَانَ فِي غَيَابَةِ سِجْنِ دَوْلَةٍ عَرَبِيَّةٍ ، مَهْمَا يَقُلِ المَرْءُ عَنْ وَطَنِيَّةِ قَادَتِهَا ، وَحِفَاظِهِمْ ، وَقِيَامِهِمْ بِأمْرِ بِلَادٍ " يُحِيطُ بِهَا الأعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ " ، وَثَبَاتِهِمُ المَاضِي لِجَرَائمِ المَاكِرِينَ الغَرْبِيِّينَ ، وَقِتَالِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ فِي حُرُوبٍ لَا فُرَصَ بَيْنَهَا ، وَثَبَاتِهِمْ هَٰذَا فِي وَجْهِ الجَرِيمَةِ الدَّوْلِيَّةِ ، الَّتِي تَدُورُ رَحَاهَا الآنَ فِي بِلَادِهِمْ مُنْذُ تِسْعِ سِنِينَ ، وَسِيلَةً لِأمْنِ " إسْرَائيلَ " ، وَلِفَائدَةِ أولَٰئِكَ النَّهَّابِينَ ، مُتَرَبِّصِي الدَّوَائرِ .. وَتَدُورُ بِإنْفَاقِ مَالِ رِكَازِ أرْضِ العَرَبِ ، الَّذِي بَدَّدَهُ السُّفَهَاءُ المَقْبُوحُونَ خَوْفاً وَطَمَعاً ، فَانْحَدَرَ بِهِمْ إلَىٰ وَشْكِ الإفْلَاسِ ، وَكَأنْ قَدْ ، وَلِإهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فِي ذَٰلِكَ الْبَلَدِ الْعَزِيزِ ، بِأَيْدِي الْغَوْغَاءِ الْأخْسَرِ أَعْمَالاً ، مُحَرِّفِ كَلَامِ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ، الْمُتَجَهِّزِ بِجَهَازِ الْكَذِبِ ، أَجِيرِ دَوْلَةِ الِاحْتِلَالِ " الْمَوْضُوعِيِّ " لِيُقَاتِلَ عَنْهَا بِغَيْرِ أجْرٍ مِنْهَا وَلَا مَؤونَةٍ ، كَمَا يُمْتَهَنُ الحِمَارُ الْمُسْتَعَارُ .
نَقُولُ : مَهْمَا يَجِدِ المَرْءُ مِنَ قَادَةِ تِلْكَ البِلَادِ وَقِيامِهِمُ الثَّابِتِ لِلْمِحَنِ الْوَطَنِيَّةِ وَصِيَانَتِهِم ، إنَّ ذَٰلِكَ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ أنَّ اعْتِقَالَ ضافٍ وَصَحْبِهِ ، كَانَ خَطِيئَةً وَطَنِيَّةً فَادِحَةً ، وَجُرْحاً غَائراً فِي جِسْمِ النِّضَالِ الفِلِسْطِينِيِّ كُلِّهِ ، بِسَجْنِهِ هَٰكَذَا وَتَجْرِيدِهِ ، وَإحْلَالِ الفِيلْدْ مَارْشَالَ ، أتْفَهِ خَلْقِ اللهِ ، زُهَيْرِ مُحْسِنٍ مَكانَهُ ، فِي عُصْبَةٍ خَاسِرَةٍ مِنْ عَبِيدِ " أمْرُكَ سَيِّدِي " الأذَلِّينَ !
• ثُمَّ بَدَا لَهُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَأرْبَعَةِ أشْهُرٍ ، وَأرْبَعَةِ أَيَّامٍ أنْ يُخْرِجُوهُ مِنَ السِّجْنِ ، لِسَبَبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ أيْضاً ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَئسُوا مِنْ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ يَسْتَعْطِفُهُمْ بِهَا ، وَسَئمُوا تَمَاسُكَهُ وَمُرُوءَتَهُ ، وَعُنْفُوَانَ اعْتِزَازِهِ ، فَلَمْ يُطِيقُوا عَلَيْهَا مَزِيداً ، فَأطْلَقُوهُ ، فَمَا بَدَّلَ تَبْدِيلاً بَعْدَ خُرُوجِهِ ، وَلَا جَرَّ إلَيْهِ " دَهْرُ " السِّجْنِ إلَّا وُثُوقاً بِمَا ءامَنَ بهِ ، وَثَبَاتاً عَلَىٰ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ ، وَنَذَرَ نَفْسَهُ .
وَحِينَ زُرْنَاهُ بُعَيْدَ خُرُوجِهِ ، كُنْتُ فِي " بَحْرِ " القَائمِينَ فِي صَفِّ الانْتِظَارِ أُرَدِّدُ إليْهِ النَّظَرَ ، فَعَجِبْتُ - وَلَمْ تَكُنْ بَيْنَنَا مَعْرِفَةٌ مِنْ قَبْلُ - أنْ رأيتُ رَجُلاً أَمْيَلَ إلَىٰ الطُّولِ ، مُنْتَصِبَ القَامَةِ كَتِمْثَالٍ ؛ فَلَا بَطْنَ وَلَا انْحِنَاءَ ، وَذَا وَجْهٍ وَضِيئٍ ، كَأنَّمَا سَابَقَتْ إلَيْهِ نَضَارَةُ الشَّبَابِ ، فَلَا رَهَلَ وَلَا غُضُونَ ، تُلَازِمُهُ ابْتِسَامَةُ التَّرْحِيبِ بِالنَّاسِ ، وُحُضُورُ بَدِيهَةٍ فَائقٌ فِي مُجَامَلَتِهِم ، قَائماً عَلَىٰ سَاقَيْهِ لِأَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ مِنْ ذَٰلِكَ المَسَاءِ ، فِي هَيْأةٍ لَا تُنْبِئُ أنَّ الرَّجُلَ عَلَىٰ عَتَبَةِ السَّبْعِينَ ، أوْ أنَّهُ خَرَجَ لتَوِّهِ مِنْ سِجْنٍ امْتَدَّ فِيهِ بَلاؤهُ ذَٰلِكَ الامْتِدَادَ ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ قُلْتُ لَهُ : لَا أجِدُ مَا أعَزِّيكَ بِهِ عَنْ مُصِيبَتِكَ الَّتِي ءَالَمَتْنَا جَمِيعاً ، أفْضَلَ مِنْ أَنْ أقُولَ : إنِّي أرَاكَ فِي عَافِيَةٍ يَحْسُدُكَ عَلَيْهَا ( فُلَانٌ ) وسَمَّيْتُ لَهُ رَئيسَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ ، الَّذِي كَانَ ظَاهِرَ الضَّعْفِ وَالِانْهِدَادِ ، فضَحِكَ حَتَّىٰ رَأيْتُ نَوَاجِذَهُ ، وَانْفَتَلَ إلَىٰ ابْنِهِ فَسَأَلَهُ : مَنْ هَٰذَا الشَّابُّ يَا مُوسَىٰ ؟ فَعَرَّفَهُ .
• كَتَبْنَا قَبْلَ هَٰذَا أنَّ حَيَاةَ المَرْءِ رُبَّمَا يَخْتَصِرُهَا مَوْقِفٌ وَاحِدٌ تُعْرَفُ بِهِ مَعَادِنُ الرِّجَالِ وَأوْزَانُهُمْ ، وَأمَّا ضَافٍ فَقَدْ كَانَتْ حَيَاتُهُ كُلُّهَا مَوَاقِفَ إخْلَاصٍ وَطَنِيٍّ ، ءَاخِذاً بَعْضُهَا بِرِقَابِ بَعْضٍ ، مِنْ الِاغْتِمَامِ لِفِلسْطِينَ ، وَشَغْلِ النَّفْسِ بِهَا ، وَمِنَ الفَضَائلِ ، والمُرُوءَاتِ ، والجُودِ بالنَّفْسِ ، وَالْإقْدَامِ ، والثَّباتِ ، وَكَظْمِ الغَيْظِ ، والصَّبْرِ الجَمِيلِ ، والنَّقَاءِ الّذِي لَا تُدَاخِلُهُ رَغْبَةٌ فِي زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ، والإصْرَارِ النَّادِرِ عَلَىٰ نَظَافَةِ اليَدِ واللِّسَانِ ، والِارْتِفَاعِ عَنِ التَّذَلُّلِ ، وَعَنْ " عَوَائدِ " الِانْقِيَادِ والتَّسْلِيمِ ، والرِّضَىٰ بِالدَّنِيَّةِ .
ذَٰلِكَ غَيْضٌ اخْتُصِرَ فِي هَٰذَا المَقَامِ مِنْ فَيْضِ مَنَاقِبِهِ الغَامِرِ ؛ فَإنَّهَا لَا يَكَادُ يَعُدُّهَا الإحْصَاءُ ، وَإنِّي وَإيَّاهُ فِي هَٰذَا كَمَا قَالَ زِيَادٌ فِي الْمُغِيرَةِ :
مَا قُلْتُ فِيكَ فَأنْتَ أَهْلُ مَقَالَتِي
ولَقَدْ يُقَصِّرُ عَنْكَ مَدْحُ المَادِحِ • فَيَا أيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي طَابَ عِرْقُهُ ، وَصَلَحَ عَمَلُهُ ، أَتَسُوؤكَ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ بِالمَوْتِ ؟ أفَلَا يَسُرُّكَ أنَّكَ فَارَقْتَ الدُّنْيَا فِي هَٰذَا الزَّمَانِ الصُّهْيُونِيِّ ، الَّذِي يَكَادُ يَكُونُ تَامّاً فِي أُمَّتِنَا العَرَبِيَّةِ ؟ أَوَلَمْ تَتَمَنَّ المَوْتَ وَأنْتَ تَرَىٰ رَايَاتِ " إسْرَائيلَ " تَخْفِقُ فِي سَمَاءِ الأُمَّةِ " ذَاتِ الرِّسَالَةِ الخَالِدَةِ " ، الَّتِي أَنَفَقْتَ عُمُرَكَ لِوَحْدَتِهَا وَانْدِمَاجِهَا ؟ أوَلَمْ تَنْقَطِعْ نِيَاطُ قَلْبِكَ لِمَا رَأيْتَ مِنَ التَّنْسِيقاتِ الأمْنِيَّةِ ، وَانْقِلَابِ الْحَالِ ؟ وَوُفُودِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ تَغْدُو وَتَرُوحُ ، وَمَذَابِحِ اليَمَنِ ( قُتِلَ بِغَارَةٍ سُعُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَىٰ مُنْتَدَى عَزَاءِ عَلِيٍّ الرُّوَيْشَانِ ، فِي صَنْعَاءَ ٢٤٠ ، وَجُرِحَ ٤٥٠ ) ، وَسُؤالِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَىٰ النِّفَاقِ ، وَالْمُرْجِفِينَ فِي المَدِينَةِ " إسْرَائيلَ " سَنَةَ ٢٠٠٦ م ، ألَّا تَكُفَّ أيْدِيَهَا عَنْ لُبْنَانَ ، الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ مِنْ خَسِيسَةِ هَٰذِهِ الْأُمَّةِ ، وَيَدْفَعُ عَنْ بَقِيَّةِ حَيَائهَا فِي قَعْرِ الإنَاءِ ، وَأنْ تُوالِيَ ذَبْحَ الفُقَرَاءِ المَحْصُورِينَ المُعْدِمِينَ ، كُلَّ مَرَّةٍ هُوجِمَتْ فِيهَا غّزَّةُ ؟ أَثُمَّ لَمْ تَرَ كَيْفَ قَطَعَ أُوگوٰ تشَابِسُ عَلَاقَاتِ ڤِنِزْوِيٰلَا مَعَ دَوْلَةِ الِاحْتِلَالِ سَنَة ٢٠٠٩ م ، لِهَوْلِ مَا رَأىٰ مِنْ مَذَابِحِهِمْ فِي غَزَّةَ ( قُتِلَ مِنْ أُسْرَةِ السَّلَمُونِيِّ فِي " الزَّيْتُونِ " ٤٨ قَتِيلاً ، بِقَذِيفَةِ مِدْفَعٍ واحِدَةٍ ، فِيهِمْ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ طِفْلاً وَصَبِيّاً ، إخْوَةٌ وَأُولُو قُرْبَىٰ ) فَقَطَعَتْ حُكُومَةُ أمِيرِ المُؤمِنِينَ فِي المَغْرِبِ عَلَاقَتَهَا بِڤِنِزْوِيٰلَا بَعْدَ ٤٨ سَاعَةً ؟ ثُمَّ تَطْمَعُ أنْ تَمْتَدَّ بِكَ الحَيَاةُ وَتَزْدَادَ ! لِتَرَىٰ مَاذَا يَا أبَا مُوسَىٰ ؟ وَلِتَسْمَعَ مَاذَا ؟
أَثُمَّ لَا يُرْضِيكَ أَنَّكَ الآنَ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ، يَجْزِي النَّاسَ بِأعْمَالِهِمْ ، فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ، فَمَا يُقْلِقُكَ وَأنْتَ الصَّالِحُ المُحْسِنُ الكَرِيمُ ؟ قَدْ " شَبِعْتَ " ظُلْماً فِي حَيَاتِكَ الدُّنْيَا يَا ضَافِي ، وَجَاءَكَ الآنَ أَنْ تَرْقُدَ قَرِيرَ العَيْنِ ، فَلَا ظُلْمَ الآنَ ، وَطُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ البَيْضَاءُ ، وَجَفَّتْ أقْلَامُهَا ، وَرُجِعْتَ إلىٰ رَبِّكَ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَلَا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ ، الَّذِينَ كُتِبَ اسْمُكَ بِحُرُوفٍ مِنَ النُّورِ فِيهِمْ ، وَفِي الَّذِينَ يُذِيبُونَ أنْفُسَهُمْ إخْلَاصاً لِلْقَضِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ ، وَفِي الطَّبَقَةِ العُلْيَا الَّتِي رُفِعَتْ لِشُرَفَائهِمُ الخَالِدِينَ .
. أَحْمَدُ عَبْدِ العَزِيزِ عَمْرٍو
فِلَادِلْفْيَا / پِنْسِلْڤيٰنْيَا
( ١٤ مِنْ أيَّارَ ٢٠٢٠ م )
أَحْمَدُ عَبْدِ العَزِيزِ عَمْرٍو
فِلَادِلْفْيَا / پِنْسِلْڤيٰنْيَا
بِغُرُوبِ شَمْسِ هَٰذَا النَّهارِ ، يَكُونُ قَدْ مَرَّ
أرْبَعُونَ يَوْماً عَلَىٰ وَفاةِ فَقِيدٍ كَرِيمٍ ، مَاتَ فِي صَمْتِ نازِلَةِ كُوٰرُوٰنا ، وَحَجْرِهَا وَانْقِطَاعِهَا ، فَكَانَ ذَٰلِكَ مَيْلاً ءاخَرَ ، مَالَ بِهِ نَكَدُ الزَّمَانِ عَلَىٰ قِيمَةِ هَٰذَا الرَّجُلِ العَزِيزِ وَكِفَاحِهِ ، وَعَلَىٰ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِوَدَاعِهِ ، فَشُيِّعَ فِي جِنَازَةٍ مُخْتَصَرَةٍ ، غَابَ عَنْهَا لِذَٰلِكَ أكْثَرُ أُولِي القُرْبَىٰ وَمُحِبُّوهُ .
• إنَّهُ المُنَاضِلُ ضَافِي الجَمْعَانِيُّ ، الَّذِي تَتَنَازَعُهُ الأُرْدُنُّ وفِلِسْطِينُ ؛ كلٌّ يَقُولُ إنَّهُ ابْنِي ، وَهُمَا صَادِقانِ جَمِيعاً ، كَمَا يَصْدُقُ الزَّوْجَانُ إذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَّنْ أنْجَبَا " هَٰذَا ابْنِي " ، وَكَانَ هَٰذَا ظَاهِراً جَلِيّاً فِي كِتَابَةِ التَّرْحِيبِ بِهِ فِي مَادَبَا يَوْمَ خُرُوجِهِ ، إذْ كَتَبُوا عَلَىٰ المَدْخَلِ ( مَادَبَا تَفْتَحُ ذِرَاعَيْهَا للْمُنَاضِلِ البَطَلِ ابْنِ الأرْدُنِّ وَفِلِسْطِينَ .. ) .
فَقَدْ وُلِدَ لِقَبِيلَةٍ كَرِيمَةٍ فِي شَرْقِ الأُرْدُنِّ ، وَشَبَّ عَنِ الطَّوْقِ فِيهِ ، وَاشْتَدَّ عُودُهُ فِي جَيْشِهِ ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ أشُدَّهُ ، وَقَدَّرَ اللهُ لهُ ذَٰلِكَ القِسْطَ الرَّاجِحَ منَ الشَّجاعَةِ والتَّوَقُّدِ الوَطَنِيِّ ، وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إلَىٰ أنْ يَرَاهَا أُمَّةً عَرَبِيَّةً وَاحِدَةً ، انْتَظَمَ فِي حِزْبِ البَعْثِ ، فَأَخْلَصَ ، وَصَابَرَ ، وَرَابَطَ ، وَسُجِنَ سِتَّ سِنِينَ ، وأُخْرِجَ مِنَ الجَيشِ ، ورَهَنَ نفْسَهُ لِفِلِسطينَ الَّتِي مَلَكَتْ عَلَيْهِ عَقْلَهُ ، حَتّىٰ صَارَ قَائداً لِمُنَظَّمَةٍ كَانَتْ قَبْلَ أنْ تَعْدُوَ عَلَيْهَا الغَوَائلُ ، وَتَتَقَسَّمَهَا الأَهْوَاءُ مِنْ بَعْدِهِ ، ذَاتَ تَأثِيرٍ بَالِغٍ وجَبَرُوتٍ ، في العَمَلِ الفِدَائيِّ الفِلِسْطِينِيِّ ، هِيَ طَلَائعُ حَرْبِ التَّحْرِيرِ الشَّعْبِيَّةُ / قُوَّاتُ الصَّاعِقَةِ .
فَكَانَ ضَافٍ بِهَٰذَا شَاهِداً ءاخَرَ - مَعَ نَايِفِ حَوَاتِمَةَ - عَلَىٰ أنَّ فِلِسْطِينَ وَالأُرْدُنَّ صَارَا جِسْماً وَاحِداً ؛ يَكُونُ فِيهِ الرَّجُلُ مِنْ شَرْقِ الأرْدُنِّ ، وَيَقُودُ تَنْظِيماً فِلِسْطِينِيّاً مُسَلَّحاً ! فِي بَلَاغٍ مُبِينٍ عَنْ لَحْمٍ لَا يُفَارِقُ العَظْمَ ، وَعَنْ فَرِيقَيْنِ شَرْقِيَّ النَّهْرِ وغَرْبِيَّهُ ، صَارَا فَرِيقاً وَاحِداً .
• وَلَٰكِنَّهُ مَيَّزَ سِيرَتَهُ النِّضَالِيَّةَ جَانِبٌ ءَاخَرُ ، كَانَ مُؤْسِفاً جِدّاً هَٰذِهِ المَرَّةَ ؛ فَقَدْ دَخَلَ السِّجْنَ رَبِيعَ سَنَةِ ١٩٧١ م ، بِذَنْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ حَيَاتَهُ كُلَّهَا حَتَّىٰ مَاتَ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَٰلِكَ سِجْناً " إسْرَائيلِيّاً " يَدْخُلُهُ المُنَاضِلُونَ الفِلِسْطِينِيُّونَ عَادَةً ، فَلَكَانَ إذَنْ قَدَراً مَفْهُوماً ، وَلَسَألَهُ المُحَقِّقُونَ هُنَاكَ : مَا اسْمُكَ ؟ وَلَاتَّهَمُوهُ شَيْئاً ، وَلَكَانَ لَهُ مُحَامٍ ، ثُمَّ لَقَضَوْا عَلَيْهِ بِسَجْنٍ إلَىٰ أجَلٍ مُسَمًّى يَعْلَمُهُ ! وَلَٰكِنْ - لِفَرْطِ الأَسَىٰ وَاسْتِيلَاءِ الخَيْبَةِ - لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْئٌ مِنْ ذَٰلِكَ بَتَّةً .
فَقَدْ كَانَ فِي غَيَابَةِ سِجْنِ دَوْلَةٍ عَرَبِيَّةٍ ، مَهْمَا يَقُلِ المَرْءُ عَنْ وَطَنِيَّةِ قَادَتِهَا ، وَحِفَاظِهِمْ ، وَقِيَامِهِمْ بِأمْرِ بِلَادٍ " يُحِيطُ بِهَا الأعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ " ، وَثَبَاتِهِمُ المَاضِي لِجَرَائمِ المَاكِرِينَ الغَرْبِيِّينَ ، وَقِتَالِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ فِي حُرُوبٍ لَا فُرَصَ بَيْنَهَا ، وَثَبَاتِهِمْ هَٰذَا فِي وَجْهِ الجَرِيمَةِ الدَّوْلِيَّةِ ، الَّتِي تَدُورُ رَحَاهَا الآنَ فِي بِلَادِهِمْ مُنْذُ تِسْعِ سِنِينَ ، وَسِيلَةً لِأمْنِ " إسْرَائيلَ " ، وَلِفَائدَةِ أولَٰئِكَ النَّهَّابِينَ ، مُتَرَبِّصِي الدَّوَائرِ .. وَتَدُورُ بِإنْفَاقِ مَالِ رِكَازِ أرْضِ العَرَبِ ، الَّذِي بَدَّدَهُ السُّفَهَاءُ المَقْبُوحُونَ خَوْفاً وَطَمَعاً ، فَانْحَدَرَ بِهِمْ إلَىٰ وَشْكِ الإفْلَاسِ ، وَكَأنْ قَدْ ، وَلِإهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فِي ذَٰلِكَ الْبَلَدِ الْعَزِيزِ ، بِأَيْدِي الْغَوْغَاءِ الْأخْسَرِ أَعْمَالاً ، مُحَرِّفِ كَلَامِ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ، الْمُتَجَهِّزِ بِجَهَازِ الْكَذِبِ ، أَجِيرِ دَوْلَةِ الِاحْتِلَالِ " الْمَوْضُوعِيِّ " لِيُقَاتِلَ عَنْهَا بِغَيْرِ أجْرٍ مِنْهَا وَلَا مَؤونَةٍ ، كَمَا يُمْتَهَنُ الحِمَارُ الْمُسْتَعَارُ .
نَقُولُ : مَهْمَا يَجِدِ المَرْءُ مِنَ قَادَةِ تِلْكَ البِلَادِ وَقِيامِهِمُ الثَّابِتِ لِلْمِحَنِ الْوَطَنِيَّةِ وَصِيَانَتِهِم ، إنَّ ذَٰلِكَ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ أنَّ اعْتِقَالَ ضافٍ وَصَحْبِهِ ، كَانَ خَطِيئَةً وَطَنِيَّةً فَادِحَةً ، وَجُرْحاً غَائراً فِي جِسْمِ النِّضَالِ الفِلِسْطِينِيِّ كُلِّهِ ، بِسَجْنِهِ هَٰكَذَا وَتَجْرِيدِهِ ، وَإحْلَالِ الفِيلْدْ مَارْشَالَ ، أتْفَهِ خَلْقِ اللهِ ، زُهَيْرِ مُحْسِنٍ مَكانَهُ ، فِي عُصْبَةٍ خَاسِرَةٍ مِنْ عَبِيدِ " أمْرُكَ سَيِّدِي " الأذَلِّينَ !
• ثُمَّ بَدَا لَهُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَأرْبَعَةِ أشْهُرٍ ، وَأرْبَعَةِ أَيَّامٍ أنْ يُخْرِجُوهُ مِنَ السِّجْنِ ، لِسَبَبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ أيْضاً ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَئسُوا مِنْ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ يَسْتَعْطِفُهُمْ بِهَا ، وَسَئمُوا تَمَاسُكَهُ وَمُرُوءَتَهُ ، وَعُنْفُوَانَ اعْتِزَازِهِ ، فَلَمْ يُطِيقُوا عَلَيْهَا مَزِيداً ، فَأطْلَقُوهُ ، فَمَا بَدَّلَ تَبْدِيلاً بَعْدَ خُرُوجِهِ ، وَلَا جَرَّ إلَيْهِ " دَهْرُ " السِّجْنِ إلَّا وُثُوقاً بِمَا ءامَنَ بهِ ، وَثَبَاتاً عَلَىٰ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ ، وَنَذَرَ نَفْسَهُ .
وَحِينَ زُرْنَاهُ بُعَيْدَ خُرُوجِهِ ، كُنْتُ فِي " بَحْرِ " القَائمِينَ فِي صَفِّ الانْتِظَارِ أُرَدِّدُ إليْهِ النَّظَرَ ، فَعَجِبْتُ - وَلَمْ تَكُنْ بَيْنَنَا مَعْرِفَةٌ مِنْ قَبْلُ - أنْ رأيتُ رَجُلاً أَمْيَلَ إلَىٰ الطُّولِ ، مُنْتَصِبَ القَامَةِ كَتِمْثَالٍ ؛ فَلَا بَطْنَ وَلَا انْحِنَاءَ ، وَذَا وَجْهٍ وَضِيئٍ ، كَأنَّمَا سَابَقَتْ إلَيْهِ نَضَارَةُ الشَّبَابِ ، فَلَا رَهَلَ وَلَا غُضُونَ ، تُلَازِمُهُ ابْتِسَامَةُ التَّرْحِيبِ بِالنَّاسِ ، وُحُضُورُ بَدِيهَةٍ فَائقٌ فِي مُجَامَلَتِهِم ، قَائماً عَلَىٰ سَاقَيْهِ لِأَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ مِنْ ذَٰلِكَ المَسَاءِ ، فِي هَيْأةٍ لَا تُنْبِئُ أنَّ الرَّجُلَ عَلَىٰ عَتَبَةِ السَّبْعِينَ ، أوْ أنَّهُ خَرَجَ لتَوِّهِ مِنْ سِجْنٍ امْتَدَّ فِيهِ بَلاؤهُ ذَٰلِكَ الامْتِدَادَ ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ قُلْتُ لَهُ : لَا أجِدُ مَا أعَزِّيكَ بِهِ عَنْ مُصِيبَتِكَ الَّتِي ءَالَمَتْنَا جَمِيعاً ، أفْضَلَ مِنْ أَنْ أقُولَ : إنِّي أرَاكَ فِي عَافِيَةٍ يَحْسُدُكَ عَلَيْهَا ( فُلَانٌ ) وسَمَّيْتُ لَهُ رَئيسَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ ، الَّذِي كَانَ ظَاهِرَ الضَّعْفِ وَالِانْهِدَادِ ، فضَحِكَ حَتَّىٰ رَأيْتُ نَوَاجِذَهُ ، وَانْفَتَلَ إلَىٰ ابْنِهِ فَسَأَلَهُ : مَنْ هَٰذَا الشَّابُّ يَا مُوسَىٰ ؟ فَعَرَّفَهُ .
• كَتَبْنَا قَبْلَ هَٰذَا أنَّ حَيَاةَ المَرْءِ رُبَّمَا يَخْتَصِرُهَا مَوْقِفٌ وَاحِدٌ تُعْرَفُ بِهِ مَعَادِنُ الرِّجَالِ وَأوْزَانُهُمْ ، وَأمَّا ضَافٍ فَقَدْ كَانَتْ حَيَاتُهُ كُلُّهَا مَوَاقِفَ إخْلَاصٍ وَطَنِيٍّ ، ءَاخِذاً بَعْضُهَا بِرِقَابِ بَعْضٍ ، مِنْ الِاغْتِمَامِ لِفِلسْطِينَ ، وَشَغْلِ النَّفْسِ بِهَا ، وَمِنَ الفَضَائلِ ، والمُرُوءَاتِ ، والجُودِ بالنَّفْسِ ، وَالْإقْدَامِ ، والثَّباتِ ، وَكَظْمِ الغَيْظِ ، والصَّبْرِ الجَمِيلِ ، والنَّقَاءِ الّذِي لَا تُدَاخِلُهُ رَغْبَةٌ فِي زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ، والإصْرَارِ النَّادِرِ عَلَىٰ نَظَافَةِ اليَدِ واللِّسَانِ ، والِارْتِفَاعِ عَنِ التَّذَلُّلِ ، وَعَنْ " عَوَائدِ " الِانْقِيَادِ والتَّسْلِيمِ ، والرِّضَىٰ بِالدَّنِيَّةِ .
ذَٰلِكَ غَيْضٌ اخْتُصِرَ فِي هَٰذَا المَقَامِ مِنْ فَيْضِ مَنَاقِبِهِ الغَامِرِ ؛ فَإنَّهَا لَا يَكَادُ يَعُدُّهَا الإحْصَاءُ ، وَإنِّي وَإيَّاهُ فِي هَٰذَا كَمَا قَالَ زِيَادٌ فِي الْمُغِيرَةِ :
مَا قُلْتُ فِيكَ فَأنْتَ أَهْلُ مَقَالَتِي
ولَقَدْ يُقَصِّرُ عَنْكَ مَدْحُ المَادِحِ • فَيَا أيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي طَابَ عِرْقُهُ ، وَصَلَحَ عَمَلُهُ ، أَتَسُوؤكَ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ بِالمَوْتِ ؟ أفَلَا يَسُرُّكَ أنَّكَ فَارَقْتَ الدُّنْيَا فِي هَٰذَا الزَّمَانِ الصُّهْيُونِيِّ ، الَّذِي يَكَادُ يَكُونُ تَامّاً فِي أُمَّتِنَا العَرَبِيَّةِ ؟ أَوَلَمْ تَتَمَنَّ المَوْتَ وَأنْتَ تَرَىٰ رَايَاتِ " إسْرَائيلَ " تَخْفِقُ فِي سَمَاءِ الأُمَّةِ " ذَاتِ الرِّسَالَةِ الخَالِدَةِ " ، الَّتِي أَنَفَقْتَ عُمُرَكَ لِوَحْدَتِهَا وَانْدِمَاجِهَا ؟ أوَلَمْ تَنْقَطِعْ نِيَاطُ قَلْبِكَ لِمَا رَأيْتَ مِنَ التَّنْسِيقاتِ الأمْنِيَّةِ ، وَانْقِلَابِ الْحَالِ ؟ وَوُفُودِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ تَغْدُو وَتَرُوحُ ، وَمَذَابِحِ اليَمَنِ ( قُتِلَ بِغَارَةٍ سُعُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَىٰ مُنْتَدَى عَزَاءِ عَلِيٍّ الرُّوَيْشَانِ ، فِي صَنْعَاءَ ٢٤٠ ، وَجُرِحَ ٤٥٠ ) ، وَسُؤالِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَىٰ النِّفَاقِ ، وَالْمُرْجِفِينَ فِي المَدِينَةِ " إسْرَائيلَ " سَنَةَ ٢٠٠٦ م ، ألَّا تَكُفَّ أيْدِيَهَا عَنْ لُبْنَانَ ، الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ مِنْ خَسِيسَةِ هَٰذِهِ الْأُمَّةِ ، وَيَدْفَعُ عَنْ بَقِيَّةِ حَيَائهَا فِي قَعْرِ الإنَاءِ ، وَأنْ تُوالِيَ ذَبْحَ الفُقَرَاءِ المَحْصُورِينَ المُعْدِمِينَ ، كُلَّ مَرَّةٍ هُوجِمَتْ فِيهَا غّزَّةُ ؟ أَثُمَّ لَمْ تَرَ كَيْفَ قَطَعَ أُوگوٰ تشَابِسُ عَلَاقَاتِ ڤِنِزْوِيٰلَا مَعَ دَوْلَةِ الِاحْتِلَالِ سَنَة ٢٠٠٩ م ، لِهَوْلِ مَا رَأىٰ مِنْ مَذَابِحِهِمْ فِي غَزَّةَ ( قُتِلَ مِنْ أُسْرَةِ السَّلَمُونِيِّ فِي " الزَّيْتُونِ " ٤٨ قَتِيلاً ، بِقَذِيفَةِ مِدْفَعٍ واحِدَةٍ ، فِيهِمْ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ طِفْلاً وَصَبِيّاً ، إخْوَةٌ وَأُولُو قُرْبَىٰ ) فَقَطَعَتْ حُكُومَةُ أمِيرِ المُؤمِنِينَ فِي المَغْرِبِ عَلَاقَتَهَا بِڤِنِزْوِيٰلَا بَعْدَ ٤٨ سَاعَةً ؟ ثُمَّ تَطْمَعُ أنْ تَمْتَدَّ بِكَ الحَيَاةُ وَتَزْدَادَ ! لِتَرَىٰ مَاذَا يَا أبَا مُوسَىٰ ؟ وَلِتَسْمَعَ مَاذَا ؟
أَثُمَّ لَا يُرْضِيكَ أَنَّكَ الآنَ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ، يَجْزِي النَّاسَ بِأعْمَالِهِمْ ، فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ، فَمَا يُقْلِقُكَ وَأنْتَ الصَّالِحُ المُحْسِنُ الكَرِيمُ ؟ قَدْ " شَبِعْتَ " ظُلْماً فِي حَيَاتِكَ الدُّنْيَا يَا ضَافِي ، وَجَاءَكَ الآنَ أَنْ تَرْقُدَ قَرِيرَ العَيْنِ ، فَلَا ظُلْمَ الآنَ ، وَطُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ البَيْضَاءُ ، وَجَفَّتْ أقْلَامُهَا ، وَرُجِعْتَ إلىٰ رَبِّكَ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَلَا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ ، الَّذِينَ كُتِبَ اسْمُكَ بِحُرُوفٍ مِنَ النُّورِ فِيهِمْ ، وَفِي الَّذِينَ يُذِيبُونَ أنْفُسَهُمْ إخْلَاصاً لِلْقَضِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ ، وَفِي الطَّبَقَةِ العُلْيَا الَّتِي رُفِعَتْ لِشُرَفَائهِمُ الخَالِدِينَ .
. أَحْمَدُ عَبْدِ العَزِيزِ عَمْرٍو
فِلَادِلْفْيَا / پِنْسِلْڤيٰنْيَا
( ١٤ مِنْ أيَّارَ ٢٠٢٠ م )


