5 حزيران العربي-العربي للمرة الثالثة... فما الجديد؟
علي أحمد الرحامنة
كاتب صحافي وأكاديمي في جامعة الشرق الأوسط
نيسان ـ نشر في 2020-06-05 الساعة 20:37
نيسان ـ اعتاد المواطن العربي أن يستقبل شهر يونيو/حزيران وذكرياته بكثير من مشاعر الألم والقهر. ففي الخامس منه عام 1967 كانت النكسة أمام إسرائيل واحتلالها ما تبقى من فلسطين وسيناء والجولان، وفي السادس منه عام 1982 كان غزوها للبنان، وفي السابع منه عام 1981 كان هجومها على المفاعل النووي العراقي وتدميره. وعاد علينا يونيو/حزيران مجددا، في الخامس منه عام 2017، بحصار أربع دول عربية "هذه المرة" لدولة قطر. فقد قطعت السعودية ودولة الإمارات والبحرين ومصر في 5 يونيو/حزيران 2017 علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع قطر بذريعة "دعم قطر للإرهاب"، بينما أكد مكتب الاتصال الحكومي القطري أن حملة المعلومات المضللة التي مهدت للحصار (المقاطعة في قاموس الدول الأربع) الذي فرضته الدول الأربع، والتي انطلقت أواخر مايو/أيار 2017 كانت منسقة وغير مسبوقة. وفي 22 يونيو/حزيران 2017، قدمت الدول الأربع إلى قطر، عبر الكويت، قائمة تضم 13 مطلبا لإعادة العلاقات مع الدوحة، وكانت كلها مطالب تمس سيادة قطر واستقلالها.
وأيا كانت مبررات أطراف الحصار، وهي مبررات عامة غير محددة وملتبسة على كل حال، فإن اللجوء إلى الحصار فورا، وبتقديم قائمة مطالب، هي شروط في الواقع، تمسّ مباشرة السيادة القطرية والكرامة الوطنية، أمر لا يمكن للمراقب المحايد إلا أن يستهجنه. بل إن بعض الخلافات في المواقف داخل الدولة الواحدة، مثل الإمارات، العراب النشط في توليفة الحصار، تتجاوز في بعض الأحيان حدود الخلافات بين الدول الأربع ودولة قطر، إذا نُزعت القشور عن عبارات الاتهام الكبيرة المثيرة الجاهزة والمعدّة سلفا. وكان من الطبيعي والأجدى اللجوء إلى القنوات المتعارف عليها في التقاليد الديبلوماسية بين الدول في حلّ الخلافات والنزاعات، وكان يجب أيضا، ومن باب أولى، اللجوء إليها في حل أي خلاف بين الأشقاء العرب.
وترى وجهة النظر القطرية أن المقاطعة والحصار إجراءات عدائية وعقابية ردعية في مرتبة العمل الحربي، بل وعدّت قطر مطالب دول الحصار لها مسّا بسيادتها، وتدخلا فجا في شؤونها الداخلية. ولمّا كانت السيادة من العناصر الأساسية المميزة للدولة بصفتها شخصا قانونيا دوليا، ومن مظاهرها استقلال الدولة في ممارسة شؤونها الداخلية والخارجية، وعدم جواز تدخل الآخرين في ممارستها، فإن المطالب تجاوزت في الواقع حدود ما يمكن مجرد الخوض فيه.
وفي محاولة لتفهّم خلفية المشهد الذي مهّد للحصار، يبدو أن المبادرة والتزكية الخاصة من الإمارات كانت محورا مركزيا، ترافقت حركته مع القبول ثم الاشتراك السعودي النشط، ناهيك عن "تحصيل الحاصل السعودي" في الموقف البحريني، و"الاندراج" المصري "المفهوم وغير المفهوم" في رباعية الحصار. وتبيّن على أرض الواقع أن الورقة الاقتصادية كانت مركز رهان الدول الأربع على "انصياع قطري سريع للشروط"، وهو أمر ليس فقط لم يتحقق، ونحن في أيام الذكرى الثالثة للحصار، بل انقلب رأسا على عقب، بعدما ظنت دول الحصار أن الضغط الاقتصادي في صوره المختلفة هو المدخل لمصادرة الإرادة السياسية المستقلة لدولة قطر.
وسياسيا، وبعد هذه التجربة، أصبحت المنعة الاقتصادية رافعة للقرار السياسي والسيادي المستقل. وقد تعززت هذه المنعة بسلسلة من الإجراءات والخيارات المرحلية والاستراتيجية التي تثبت الوقائع والحقائق جدواها وفاعليتها. صحيح أن قطر واجهت عددا من الصعوبات بفعل الحصار، وهذا طبيعي، ولكن الصحيح أيضا أنها تجاوزتها، بل وحققت مكاسب تتحدث عنها الأرقام والوقائع قبل غيرها.
أشار تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية إلى أنه "على الرغم من الصدمة الأولى بعد اندلاع الأزمة فإن اقتصاد قطر أثبت أنه أكثر مرونة من منافسيه الخليجيين، مع توقع صندوق النقد الدولي أن تكون الإمارة الخليجية واحدة من الدول القليلة في العالم التي ستحقق فائضا في الميزانية في عام 2020". كما حققت قطر بفعل الأزمة مستويات متقدمة من الاكتفاء الذاتي في عدد من الميادين، منها الزراعية والصناعية، شاملة بعض الصناعة العسكرية، بل إن قطر احتلت المركز الأول من ناحية الأمن الغذائي في الشرق الأوسط، والمركز الثالث عشر عالميا في آخر تصنيف لمؤشر الأمن الغذائي العالمي. ونجحت قطر خلال السنوات اللاحقة للحصار، في تحقيق تطور ملحوظ فيما يخص الأمن الغذائي، وكذلك بقطاعي الزراعة والصناعة، ما ساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي في كثير من السلع والمنتجات. وبلغ عدد المنشآت الصناعية المسجلة في البلاد بحلول نهاية 2019، نحو 1464 بمختلف القطاعات، مقارنة بنحو 1171 بنهاية عام 2016، ما يعني تأسيس 293 مصنعا جديدا. كما تأسست أكثر من 47 ألف شركة جديدة خلال أعوام الحصار، وشهدت فترة الحصار جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد.
ولكن، وبالرغم من المرارة، جدّدت قطر مؤخرا دعوتها لإنهاء "الحصار الجائر وغير القانوني" عليها، كما أكدت في رسالة لمجلس الأمن استعدادها لتسوية الأزمة "عبر الحوار"، ثم حذرت من أن الحصار يهدد أمن المنطقة واستقرارها. كما دعت قطر مؤخرا إلى استثمار جائحة فيروس "كورونا" المستجد، لتحقيق تقارب يُفضي إلى حل للأزمة الخليجية. ففي التحليل الأخير، الخسارة خسارة للجميع، من منظور المزيد من تفكك الساحة العربية الذي طاف وبلغت سيله الزّبى.
يبدو أن مصير تحالف الحصار لن يكون أفضل حالا من مصير "التحالف العربي" - تحالف "عاصفة الحزم" في اليمن، الذي بدأ عام 2015، وها هو العام 2020 يشهد على خيباته وما سببه من مآس، جعلت من السعودية والإمارات عضوين تائهين وحيدين في هذا التحالف، ناهيك عن التحالف الإسلامي (2017) الذي يصعب أن يتذكره أحد. ولكن للصراع وجوها تشهد بعض ملامحه الهامة ساحات أفريقيا، العربية وغير العربية...
وبالنسبة لأي عربيّ محايد موضوعي حريص على أي تقارب بين أبناء العروبة، وكاتب هذه المقالة يزعم أنه أحدهم، يعزّ علينا أن يشعر أهلنا في قطر بأنهم محاصرون من أشقاء لهم... محاصرون بعد الحصار الحصار، بالذباب الإلكتروني، والتواصل "القاطع" في منصات التواصل الاجتماعي، وصولا حتى إلى ميادين الرياضة والفن والأدب. أفلا تكفي دروب الآلام التي تتواصل في فلسطين، وفي اليمن وسورية وليبيا والعراق، وغيرها من دول هذا الوطن العربي الكبير إلى "وقفة مع الذات"؟ ألا يقول "كورونا" شيئا؟
وأيا كانت مبررات أطراف الحصار، وهي مبررات عامة غير محددة وملتبسة على كل حال، فإن اللجوء إلى الحصار فورا، وبتقديم قائمة مطالب، هي شروط في الواقع، تمسّ مباشرة السيادة القطرية والكرامة الوطنية، أمر لا يمكن للمراقب المحايد إلا أن يستهجنه. بل إن بعض الخلافات في المواقف داخل الدولة الواحدة، مثل الإمارات، العراب النشط في توليفة الحصار، تتجاوز في بعض الأحيان حدود الخلافات بين الدول الأربع ودولة قطر، إذا نُزعت القشور عن عبارات الاتهام الكبيرة المثيرة الجاهزة والمعدّة سلفا. وكان من الطبيعي والأجدى اللجوء إلى القنوات المتعارف عليها في التقاليد الديبلوماسية بين الدول في حلّ الخلافات والنزاعات، وكان يجب أيضا، ومن باب أولى، اللجوء إليها في حل أي خلاف بين الأشقاء العرب.
وترى وجهة النظر القطرية أن المقاطعة والحصار إجراءات عدائية وعقابية ردعية في مرتبة العمل الحربي، بل وعدّت قطر مطالب دول الحصار لها مسّا بسيادتها، وتدخلا فجا في شؤونها الداخلية. ولمّا كانت السيادة من العناصر الأساسية المميزة للدولة بصفتها شخصا قانونيا دوليا، ومن مظاهرها استقلال الدولة في ممارسة شؤونها الداخلية والخارجية، وعدم جواز تدخل الآخرين في ممارستها، فإن المطالب تجاوزت في الواقع حدود ما يمكن مجرد الخوض فيه.
وفي محاولة لتفهّم خلفية المشهد الذي مهّد للحصار، يبدو أن المبادرة والتزكية الخاصة من الإمارات كانت محورا مركزيا، ترافقت حركته مع القبول ثم الاشتراك السعودي النشط، ناهيك عن "تحصيل الحاصل السعودي" في الموقف البحريني، و"الاندراج" المصري "المفهوم وغير المفهوم" في رباعية الحصار. وتبيّن على أرض الواقع أن الورقة الاقتصادية كانت مركز رهان الدول الأربع على "انصياع قطري سريع للشروط"، وهو أمر ليس فقط لم يتحقق، ونحن في أيام الذكرى الثالثة للحصار، بل انقلب رأسا على عقب، بعدما ظنت دول الحصار أن الضغط الاقتصادي في صوره المختلفة هو المدخل لمصادرة الإرادة السياسية المستقلة لدولة قطر.
وسياسيا، وبعد هذه التجربة، أصبحت المنعة الاقتصادية رافعة للقرار السياسي والسيادي المستقل. وقد تعززت هذه المنعة بسلسلة من الإجراءات والخيارات المرحلية والاستراتيجية التي تثبت الوقائع والحقائق جدواها وفاعليتها. صحيح أن قطر واجهت عددا من الصعوبات بفعل الحصار، وهذا طبيعي، ولكن الصحيح أيضا أنها تجاوزتها، بل وحققت مكاسب تتحدث عنها الأرقام والوقائع قبل غيرها.
أشار تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية إلى أنه "على الرغم من الصدمة الأولى بعد اندلاع الأزمة فإن اقتصاد قطر أثبت أنه أكثر مرونة من منافسيه الخليجيين، مع توقع صندوق النقد الدولي أن تكون الإمارة الخليجية واحدة من الدول القليلة في العالم التي ستحقق فائضا في الميزانية في عام 2020". كما حققت قطر بفعل الأزمة مستويات متقدمة من الاكتفاء الذاتي في عدد من الميادين، منها الزراعية والصناعية، شاملة بعض الصناعة العسكرية، بل إن قطر احتلت المركز الأول من ناحية الأمن الغذائي في الشرق الأوسط، والمركز الثالث عشر عالميا في آخر تصنيف لمؤشر الأمن الغذائي العالمي. ونجحت قطر خلال السنوات اللاحقة للحصار، في تحقيق تطور ملحوظ فيما يخص الأمن الغذائي، وكذلك بقطاعي الزراعة والصناعة، ما ساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي في كثير من السلع والمنتجات. وبلغ عدد المنشآت الصناعية المسجلة في البلاد بحلول نهاية 2019، نحو 1464 بمختلف القطاعات، مقارنة بنحو 1171 بنهاية عام 2016، ما يعني تأسيس 293 مصنعا جديدا. كما تأسست أكثر من 47 ألف شركة جديدة خلال أعوام الحصار، وشهدت فترة الحصار جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد.
ولكن، وبالرغم من المرارة، جدّدت قطر مؤخرا دعوتها لإنهاء "الحصار الجائر وغير القانوني" عليها، كما أكدت في رسالة لمجلس الأمن استعدادها لتسوية الأزمة "عبر الحوار"، ثم حذرت من أن الحصار يهدد أمن المنطقة واستقرارها. كما دعت قطر مؤخرا إلى استثمار جائحة فيروس "كورونا" المستجد، لتحقيق تقارب يُفضي إلى حل للأزمة الخليجية. ففي التحليل الأخير، الخسارة خسارة للجميع، من منظور المزيد من تفكك الساحة العربية الذي طاف وبلغت سيله الزّبى.
يبدو أن مصير تحالف الحصار لن يكون أفضل حالا من مصير "التحالف العربي" - تحالف "عاصفة الحزم" في اليمن، الذي بدأ عام 2015، وها هو العام 2020 يشهد على خيباته وما سببه من مآس، جعلت من السعودية والإمارات عضوين تائهين وحيدين في هذا التحالف، ناهيك عن التحالف الإسلامي (2017) الذي يصعب أن يتذكره أحد. ولكن للصراع وجوها تشهد بعض ملامحه الهامة ساحات أفريقيا، العربية وغير العربية...
وبالنسبة لأي عربيّ محايد موضوعي حريص على أي تقارب بين أبناء العروبة، وكاتب هذه المقالة يزعم أنه أحدهم، يعزّ علينا أن يشعر أهلنا في قطر بأنهم محاصرون من أشقاء لهم... محاصرون بعد الحصار الحصار، بالذباب الإلكتروني، والتواصل "القاطع" في منصات التواصل الاجتماعي، وصولا حتى إلى ميادين الرياضة والفن والأدب. أفلا تكفي دروب الآلام التي تتواصل في فلسطين، وفي اليمن وسورية وليبيا والعراق، وغيرها من دول هذا الوطن العربي الكبير إلى "وقفة مع الذات"؟ ألا يقول "كورونا" شيئا؟
نيسان ـ نشر في 2020-06-05 الساعة 20:37
رأي: علي أحمد الرحامنة كاتب صحافي وأكاديمي في جامعة الشرق الأوسط