الاغتسال قبل الاصطفاف
وائل قنديل
كاتب مصري
نيسان ـ نشر في 2015-08-09 الساعة 14:53
لم يبق من معالم ثورة الخامس والعشرين من يناير حياً، سوى رئيس منتخب، بملابس الإعدام الحمراء، في عتمة السجن، ومشاريع شهداء، ستقرأ أخبار تصفيتهم تباعا، ممن لا يزالون يخرجون في مسيرات وتظاهرات منددة بقمع وإرهاب وإجرام دولة الدجل والخرافة، وبقايا ثوار يمضغون حوارات خافتة عن الاصطفاف وضروراته، أو يلوكون خطاباً دعوياً تلفزيونيا منفراً، يود عبد الفتاح السيسي، لو قبل رؤوسهم وبوس لحاهم عليه. محمد مرسي يُقتٓل ببطء الآن، مرافعته أمس تقول إن الإسهاب في نشر أخبار عن وفاة معتقلين داخل أماكن الاحتجاز، في الفترة الماضية، كان تدريبا للأذن على الاعتياد على مثل هذه النوعية من الأخبار، تبدأ الحكاية بمعتقل مجهول، وتتدرج للمعروفين ثم المشهورين، وصولا إلى الهدف الأكبر للسلطات.
منذ بدايات الانقلاب، وسيناريو التخلص من الرئيس محمد مرسي داخل محبسه وارد، إن بشكل فج وصريح، من خلال افتعال أحداث فوضى وعنف بالزنازين، أو بالقتل البطئ، تسميما بأطعمة فاسدة، ولم لا والبلاد في حالة رقص هستيري، على إيقاعات حلقات "الزار" المنصوبة، لمناسبة افتتاح التفريعة.
هذا التخوف من إزالة الدكتور مرسي، عبرت عنه، بعد أربعة أسابيع من وقوع الانقلاب عليه، بالقول "إن مصر تعيش الآن مرحلة يمكن أن نطلق عليها إزالة آثار ثورة يناير 2011" بالتخلص من كل ما يعبر عنها، أو يجسد شيئا من معالمها ومكتسباتها، باستبدال انقلاب 30 يونيو بها، وتثبيته قسراً وعنوة فى الذاكرة المصرية، باعتباره ثورة تجب ما قبلها، أي تلغى ثورة يناير" كان ذلك في يوم 27 من يوليو/ تموز 2013، حيث الميادين تمتلئ بمعتصمين يدافعون عن الرئيس المخطوف، ودوائر السياسة العالمية تمور بحديث عمّا جرى في مصر، بوصفه انقلابا على التجربة الديمقراطية، ومن ثم كانت الظروف، داخليا وخارجيا، ضاغطة على السلطة الجديدة، بما لا يسمح لها بتنفيذ ذلك السيناريو بسهولة.. أما الآن فتبدو المعطيات المحلية والإقليمية والدولية مواتية تماما لكي ترتكب السلطة جريمة، وتجد من يغطيها، أو يوفر لها مخرجا آمنا، خصوصا وهي خارجة للتو من احتفالية مبتذلة، بتفريعتها الجديدة، مثل الحضور الدولي فيه مكافأة لمن انقلبوا وقتلوا وسفكوا الدماء، بحجة الحاجة لهم في مشروع "الحرب على الإرهاب".
ولا يقل مساعدة للنظام الفاشي عن أطراف دولية تحتفي بالقتلة، محسوبون على معارضة الانقلاب، يأتون بكل ما يصرف الأنظار عن الموضوع الأساس، إلى سفاسف وتفاهات وترهات وخطاب منفر ومخيف لكل من يفكر في الانضمام لفكرة النضال ضد سلطةٍ، تمضي بالبلاد بالسرعة القصوى إلى قاع الجحيم. دعك من هؤلاء الذين هبطوا بفكرة الاصطفاف إلى حالة من التسلية اليومية، والاستهلاك الإعلامي، وإنما أولئك الذين لا يألون جهداً في تعلية الجدران العازلة بين "الثورة" من جانب، و"الشرعية" من جانب آخر، كأن تسمع خطابا من أحد المشايخ التلفزيونيين، يتحدث فيه عن "معسكر الشرعية" باعتبار "جيتو" أو شعباً مغايرا لبقية الشعب، فيشن هجوما كاسحا على القنوات التي تستعين بالعنصر النسائي في العمل الإعلامي، تقليداً لقناة الجزيرة، بل ويصف ذلك صراحة بأنه "قلة أدب"، قبل أن يتساءل في أسى "إيه الفرق بيننا وبينهم".
أزعم أن هذا الخطاب، فضلاً عن أنه عنصري، ويمارس تمييزا مهيناً ضد المرأة، فإنه لا يخدم إلا المعسكر المضاد للثورة، ذلك أن من يسمعه، ويعده تعبيراً عن المعسكر الداعي إلى التوحد والاصطفاف، لن يقترب خطوة من فكرة استعادة معادلة ثورة يناير"المعادلة التي أوصى الرئيس مرسي بالتمسك بها في خطابه الأخير قبل الأسر"، ويوفر حججاً إضافية لمن يلتفون على دعوات الثورة، ويقاومون أي محاولة للتجمع والتوحد مجددا.
ناهيك عن أن هذا الخطاب، على عنصريته وانعزاليته، فإنه مجاف لواقع يقول إن من المذيعات، وتحديدا من "الجزيرة"، من قدمت أداء أكثر قوة واستقامة، أخلاقيا وإنسانيا وسياسيا، بمواجهة جرائم الانقلاب، ضد الإنسانية، من محسوبين على معسكر الرجال والثورة والشرعية. وما تقدمه خديجة بن قنة أو غادة عويس، مثلا، لا حصرا، لا ينتمي إلى "قلة الأدب" من قريب أو من بعيد، بل هو الاحترام بعينه، وكما ينبغي. الأهم، قبل الحديث عن الاصطفاف، هو حديث الاعتراف، من كل الأطراف، بالخطأ في حق هذه الثورة، والاعتذار لها عما فعلناه جميعا ضدها، ثم الاغتسال من ذنوبنا وخطايانا الثورية.
استقيموا واعتدلوا، قبل أن تصلوا من أجل ثورتكم.