اتصل بنا
 

الصدمة والذهول في وفاة الدكتور عصام دربالة

كاتب مصري

نيسان ـ نشر في 2015-08-09 الساعة 21:29

نيسان ـ

كان الخبر مفزعا للغاية لي عندما أبلغني به زميل صحفي في الصباح الباكر ، وفاة الدكتور عصام دربالة ، رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية ، في سجن العقرب بعد تدهور صحته لمنع الدواء عنه ورفض الداخلية نقله إلى المستشفى.
كنت أعرف الدكتور عصام ، وأعرف مكانته ، وأعرف رمزيته في الحركة الإسلامية ، وبين أبناء الجماعة الإسلامية بالذات ، كان عصام رمزا للاعتدال والحكمة والدعوة إلى السلمية والاعتصام بالنضال السلمي مهما كانت الظروف ، وهو أحد مؤلفي كتب مراجعات الجماعة الإسلامية ، التي كانت السبب الأهم والجوهري في إنهاء مسلسل العنف الدموي في التسعينات الماضية.
وهو المسلسل الذي راح ضحيته مئات القتلى من ضباط الشرطة وجنودها بما فيهم قيادات أمنية رفيعة وكذلك المئات من شباب الجماعة الإسلامية والعشرات من السياح ، وهي الأزمة التي زلزلت حكم مبارك عدة سنوات ، حتى وضع دربالة وناجح إبراهيم وآخرون عدة كتب تدعو الشباب إلى إنهاء العنف والاعتصام بالسلمية والابتعاد عن فتاوى التفكير .
وكانت وزارة الداخلية تشرف بنفسها على طباعة هذه الكتب وتوزعها على المعتقلين والمسجونين من الشباب الإسلامي ، إدراكا من الجهاز الأمني لأهمية أفكارها وتأثيرها الحاسم على الشباب ومدى المصداقية التي يتمتع بها درباله ومن معه ، كما كانت الداخلية تعقد الندوات داخل السجون التي يشارك فيها عصام دربالة من أجل مناصحة الشباب وإقناعهم بالابتعاد عن فتاوى التفكير وحمل السلاح ، وتحملهم الشرطة من سجن إلى آخر ليناصحوا الشباب.
وعندما قامت ثورة يناير ، سارع دربالة وصفوت عبد الغني وآخرون بتأسيس حزب سياسي "حزب البناء والتنمية" ، لكي يكون مفتتح حقبة جديدة من العمل السياسي السلمي الذي يحقق "تطبيع" العلاقة بين الإسلاميين والحياة السياسية ، ويطوي أي أفكار للعنف أو الخروج على الدولة ، وساهم الحزب بقوة في مختلف الفعاليات ، من الانتخابات إلى اختيار لجنة تأسيس الدستور إلى غير ذلك.
وكان مضرب الأمثال في تنازله للآخرين عن مقاعده من أجل الصالح العام ، فلم يكونوا حريصين على منصب أو مكانة ، كانوا فرحين بالروح الجديدة في مصر ، ويتطلعون لمستقبل أكثر رشدا وعدلا وكرامة للمواطن ، وحتى عندما وقع التحول الكبير بعد 30 يونيه 2013 ، أعلن دربالة بعدها احترامه لمن يعارضون مرسي والاحتجاجات التي خرجت ضده في ذلك اليوم ، لكنه رفض القبول بما تم إعلانه يوم 3 يوليو بإسقاط شرعية مرسي وتجميد الدستور وحل مجلس الشورى ، وتفاعل مع ما أطلق عليه "التحالف الوطني لدعم الشرعية" ، غير أنه حرص على أن يسافر في مدن الصعيد وقراه ومختلف الأماكن يحذر الشباب من أي دعوة للانجرار للعنف.
كان شعاره الذي حمله في كل مكان يذهب إليه "لا للتكفير .. لا للتفجير" ، ولذلك تغاضت عن نشاطه وتحركاته الأجهزة الأمنية مدة تقترب من العامين ، حتى بدأوا يساومونه على تأييد 3 يوليو وخلع مرسي ، لكنه رفض ، فكان قرار اعتقاله قبل حوالي ثلاثة أشهر في سجن العقرب ، أحد أسوأ السجون المصرية على الإطلاق ، ثم كانت المعاملة بالغة السوء وحرمانه من الأدوية الضرورية ، حيث كان مصابا بالسكر والضغط لسنوات طويلة قضاها في السجون أيام مبارك، وكان طبيعيا أن تتدهور حالته الصحية ليسمع العالم نبأ وفاته صبح اليوم.
بيان الداخلية قال أنهم فوجئوا بتدهور حالته وإصابته بنزيف من الأنف وهبوط الدورة الدموية ، وهو كلام لا يليق ، لأن عصام تتدهور صحته منذ أسابيع ، واستغاثات متتالية للداخلية لإدخال الدواء أو نقله للمستشفى ، ومن البديهي أن مريضا بداء مثل السكري والضغط تمنع عنه الدواء تماما أنك ترسله إلى الموت ببطئ.
وكان المؤسف أكثر ، أن دربالة عرض على النيابة ليلة موته للنظر في تجديد حبسه ، وقد قررت مد حبسه دون عرضه على أي طبيب أو تقديم ما ينقذ حياته أو الأمر بدخول العلاج الضروري له ، رغم أنه كان في حالة انهيار تام بادية للعيان ، رجل على شفا الموت ، وتلك سلوكيات لا تصدق في قسوتها .
عصام دربالة ليس مجرد سجين سياسي ، ولكنه رمز لتوجه واختيار فكري وسياسي ، وبالتالي فقتله بالبطيء بهذه الصورة المستهترة ، أخشى أن تكون رسالة ، كما أخشى أن يقرأ كل طرف هذه الرسالة بطريقته الخاصة ، وإذا كانت أجنحة في الدولة ضاقت ذرعا بطول فترات الاحتجاج في الشوارع على النظام الجديد ، وإذا كان الإحباط يجعل البعض يفكر بطريقة خلط الأمور التي تنتهي إلى جر بعض الأطراف للعنف ، فإنك لا تدري كيف تكون توابع هذه الرسالة لدى شباب من جيل جديد ، يعيش الصدمة والإحباط أيضا ، ويرى أفقا مسدودا ، كما يرى من كانوا يدعونه للسلمية والبعد عن التفجير والتكفير يموتون بهذه الطريقة في السجون.
وهذا الشباب الجديد ، الذي لا تعرفه أجهزة الأمن أساسا ، ولا تعرف خريطته الفكرية والشعبية والتنظيمية ، ينمو في جو من الفوضى وغياب القدوة والانقسام السياسي والشعبي المروع والمترع بالأحقاد والكراهية والرغبة في الثأر والتصفية للمخالف ، وتيارات العنف عادة تكون أشبه بالبكتريا التي تزداد توحشا وخطورة بسوء استخدام المضادات المناسبة لها.
وقد كان العالم فزعا من تنظيم القاعدة ويراه منتهى الشر ، فإذا به الآن ـ بعد ظهور داعش ـ يترحم على تنظيم القاعدة وأيامه وقياداته ، ويعتبر بعض منظماته النشطة الآن في بعض البلدان من التيارات المعتدلة نسبيا !. رحم الله الدكتور عصام دربالة ، صاحب الخلق الرفيع والأدب الجم ، صوت الاعتدال والرشد في أشد أوقات المحنة سوادا ، لم تخسر بفقدانه الجماعة الإسلامية وحدها ، بل أجزم أن مصر الوطن والأمل خسرت أيضا برحيله خسارة كبيرة ، أسأل الله أن يتقبله في الصالحين .

المصريون

نيسان ـ نشر في 2015-08-09 الساعة 21:29

الكلمات الأكثر بحثاً