اتصل بنا
 

صحافة الجائعين!

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2020-09-19 الساعة 21:04

نيسان ـ تحتفظ اعلانات الوفاة لنفسها بفضيلة تحديد وقت مغادرة الراحل المأسوف عليه. يعلن الحداد ويبدأ معه التعايش مع مرحلة ما بعد الرحيل بكل ما فيها من مشقّة. لكن حالة الموت التي نحن بصددها بدأت بلا اعلان، وهي تتواصل منذ سنوات طويلة بلا أي افق لاعلان رسمي للوفاة يضع حدا لمتاعب الأهل المنكوبين. موت المؤسسات هو الاقسى على الاطلاق.
فيه تتكثف فكرة اعدام الاحياء ليكونوا شهودا على موتهم البطيء. يظل الناس متمسكين بالاقامة في برزخ ما يمكن ان يكون نجاة من القادم المجهول. اهل الميت هم الصحفيون العاملون في الصحف الورقية الاردنية وبعض العربية، التي دخلت في نفق الموت البطيء. موت من نوع جديد. اقصد الموات حتى تحين ساعة الحقيقة التي يصبح قدومها مطلبا واملا للخلاص من الوضع القائم. لا رواتب ولا أي نوع من انواع الدخل، فيما تحرص الجريدة على اشغال حيزها اليومي في قوائم المطبوعات التي قد ينتظرها القراء على قلتهم. لا احد يشعر أو يحس بوقع المأساة كصاحبها، فالذي تحت «الضرب» ليس كمن يعد العصي. باختصار شديد؛ هذا هو حال عشرات الزملاء الصحفيين في «مؤسسات» أو «شركات» قيد التداعي المميت. يتجمل هؤلاء الزملاء بالصبر ويربطون المعدة لئلا يجوع صغارهم وابناؤهم وبناتهم. هناك ما هو فوق الاحتمال. الأسى شامل، كليل يلف الارجاء بسواده. احد الزملاء المنكوبين لخص الحال بقوله: حتى لو صدرت شهادة الطب الشرعي بالوفاة فانها لا تعني الا مزيدا من المعاناة التي خبرنا فصولها وطقوسها منذ سنوات. الانكى كما يقول هذا الزميل: انني صحفي مع وقف التنفيذ الذي يعني الحياة. استدين لكل شيء. حتى اجرتي في المواصلات العامة لأصل مكان العمل الذي امضيت فيه 15 عاما. وها انا اصطدم بالجدار انتظارا لمراسم الدفن.
كل يوم نموت ألف مرة. الاخبار هي والتفاصيل هي هي. الجدران هي هي وعامل البوفيه اصبح جزءا من الحالة. اقصد حالة الموت. يأتينا بكل ما نطلب وهو يوقن ان لا سداد الا ما رحم ربي. احسده على قوة احتماله وشكيمته التي لا تلين في هذه الظروف الاستثنائية. على انه مهما كانت الاحوال فهو يعيش افضل منا جميعا. كأنما اصبح لدينا فهم ضمني يلزمه الجميع: مستحقات عامل البوفيه مقدمة على ما سواها. كثيرون منا يستدينون ليسددوا ما يطلب عامل البوفيه الذي يسامح كثيرين من مبالغ يقصرون في توفيرها. لكن الوصال مستمر بيننا وبينه. هو رجل كريم لا يقطع للود وصلا. لكن الحياة قاسية حين تلقي بأثقالها على الإنسان دفعة واحدة.
ثمة ما يجب الاعتراف به، وهو أن أزمة الصحف لا تنحصر فقط في مشكلة مالية على خطورتها القاتلة بعد عجز بعضها عن الوفاء بدفع رواتب موظفيها وصحفييها. يجب الاعتراف علنا بان صحافة اليوم تختلف جذريا عما كانت عليه احوالها قبل عقود. ليس سرا الجهر بان صحفنا عجزت وتعجز اليوم عن مجاراة عالم اليوم ومتغيراته، اقصد اشكال الكتابة الصحفية على اختلافها. تطالعنا الصحف اليوم وهي تجتر الموضوعات ذاتها وفي السياق ذاته. بلا مضامين ولا رشاقة ولا جذب يجبر خواطر القراء الذين تغيرت مستوياتهم بفعل سطوة التقنية الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي. لا تحفل الصحف بتحليلات ومتابعات تغني من جوع وتوسع مدارك طيف القراء الذين تشكل الصحيفة اليومية بالنسبة لهم رفيقا وانيسا اعتاد مجالسته منذ سنوات. غدت صحف اليوم زائرا ثقيل الظل لا يضيف جديدا لمتصفحها. اعرف قارئا ستينيا يحرص على شراء اليوميات الورقية. يؤكد انه يفرد صفحاتها متجاورة فلا يجد ما يميزها سوى بالعناوين التي تتقاطع في مضامينها. على ان هذا الرجل الذي يقيم بعين القارئ المثقف الخبير لا يلقي باللائمة على الصحف وصحفييها أو رؤساء تحريرها. هو يرى ان العقلية التي تمسك بالصفحة اخراجا وتنفيذا وموضوعا لم تعد تشبع نهم القارئ المتابع. هي تجتر مواد مكررة للمرة الالف وفي السياق ذاته، خصوصا في الموضوعات المحلية. اما في الشأن العربي فلا يجد القارئ تحليلا بآفاق متعددة يشبع نهم المعرفة واطلاعه على زوايا ربما لا تكون مضاءة بالنسبة له.
يختتم صاحبنا القارئ الخبير قائلا: صحافة العالم المتقدم تغيرت كثيرا شكلا ومضمونا على الرغم من ان الصحف هناك ذات تاريخ حافل، لكنها وجدت متسعا لتقول لقارئها: انت تغيرت كثيرا ويليق بك تغيير يبقينا طويلا على قائمة خياراتك. اما صحفنا فاننا نقرأ فيها الخبر وما يسمى بالتحليل أو المتابعة باللغة السقيمة ذاتها. انها تراهن على الفشل فكان مصيرها الموت البطيء، وبلا اعلان نعي!

نيسان ـ نشر في 2020-09-19 الساعة 21:04


رأي: سليمان قبيلات كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً