اتصل بنا
 

بوح

نيسان ـ نشر في 2015-08-15 الساعة 12:50

x
نيسان ـ

كتب محمد قبيلات

كان يفرُّ الى التلال المحاذية لقريته، يقرأ الشموخ الذي تحكيه قممها، واختلاقها المنحدرات محاباة للوديان، يتأمل قطعان الماعز وهي تستغل ذات المنحدرات بالتسلق في رحلة بحثها الحثيث عن الكلأ من الأعشاب المتشبثة بقيعان الصخور.

يراقب السفوح وهي تحكي قصة التدحرج، ثم تهدلها على الوديان بما يشبه الهضاب او انحناءات أطراف ثوب جميل، وطالما استوقفه ذلك القطع المفاجئ للربوات عند حواف السيول، وقد تكشفت طبقاتها عما يشبه لوحات زيتية رُسمت بعناية فائقة.

كان ينهي تأملاته عادة بالوديان، وما ترسب على جنبات مجاريها من بقايا نباتات وحصوات حفّتها الماء بجريها، فأبرزت مكنوناتها التي تفيض نعومة وبياضا.

منذ لحظة المواجهة الأولى للمشهد، يلقي بأحزانه من علها وعليلها، للتتدحرج بعيدا عن روحه، فيتخلص قلبه من ثقل وطأتها، يرقبها وهي تغرق في الأغوار فتبدو صغيرة ثم أصغر ثم أصغر حتى تتلاشي، لتبدأ رحلته في مشاغلة روحه بالطبيعة واللغة والجمال.

اليوم تساءل عن رابعة النهار، وفتح الباب مواربا للتشككِ بأن يكون للنهار رابعة، فمثلا، هنا الشمس تبزغ من مكان محدد صريحة دون مواربة، فتدور حول هذا الوادي من أطرافه الجنوبية، لتكون في كل لحظة رابعة لانحناءة ما أوهضبة أو وادي، حتى تختفي خلف الجبال الغربية، مفسحة لسكون الليل وسحره، فيهبط بسلام على التلال، مسدلا ستائره الأمينة، فتتمدد الأسرار لتستعيد خلسة ما سلب منها النهار.

هنا لا ضرر ولا ضرار، هنا تمشي الأمور بسلام منذ الأزل، فيعود الدحنون ليتفتح من جديد في كل عام، ولا يغيب، هنا لا ضجيج، ولا بشر.

وهنا أيضا، لا مجال لأن يضنّ بأحزانه ويحتفظ بها، بل يطلقها بعيدا لتكون أختا للريح فتغادره الى غير رجعة.

وهنا فهم الأن لماذا صوت الربابة يشبه النشيج، ولماذا الناي حزين، لقد احتاج الى اربعين عاما من التيه ليفهم لماذا كان رجل بدوي يبكي هنا.

خطر بباله أن هذا الوادي مقدس وما هو الا كرسي أو بهو للاعتراف.

ما جعله يواجه الذات بصراحة لم يعهدها، وخطر بباله أنه ربما عاش هنا منذ زمن غابر، حيث كانت الحياة أقل "مدنية"، وربما كان يعايش أناس يعرفون معان وأشكال أخرى للحب.

لم يسبق أن عاد الى هنا بنشوة نصر، فهو لا يأتي الى هذه الوهاد إلا جاراً أذيال خيبات من وراءه، فيمارس معاناته، ويجلد ذاته بالندم على كل ما لم يفعله، وحدث أن أطلق العنان لمواويل كانت نهايتها أن أجهش بالبكاء، وأطلق حشرجات طالما كبلت روحه، فأخذ قسطه وجرعته من الراحة، ليعود مسرعا ليس الى دأبه وسيرته الأولى، بل الى إنسان جديد لا يقارع الغثاء بالغثاء ولا يجزئ الحرية خدمة للدكتاتور.

نيسان ـ نشر في 2015-08-15 الساعة 12:50

الكلمات الأكثر بحثاً