مئوية الدولة الأردنية.. عقود من الصبر والإنجاز
عمر الرداد
كاتب وخبير أمني
نيسان ـ نشر في 2021-02-23 الساعة 15:40
نيسان ـ يستذكر الأردنيون اليوم، وهم يحتفلون بمئوية الدولة، 10 عقود من العمل والبناء والتضحيات، رغم قساوة الظروف التي فرضت العيش والتعايش مع مخاضات وتحديات كانت تنتقل المملكة معها من الصعب إلى الأصعب، حتى أصبحت اليوم مثار إعجاب ونموذجاً يتطلع إليه كثيرون وسط محيطه المتلاطم.
الدولة الأردنية بتلك الجغرافيا التي كانت وما زالت نقطة قوة وضعف في آنٍ واحد معاً عبر تاريخها، مع شحّ في الموارد ومؤامرات ما انفكّت يُخطط لها في غرف مغلقة، بمشاركة الأجنبي مرة، و"الشقيق" حيناً، وثالثة مع "الصديق"، إلّا أنه، وفي كلّ مرّة بقيادتها الهاشمية ومعها الشعب الأردني من كافة الأصول والمنابت، تمكّنت من الصمود وإسقاط كل ذلك تباعاً، عبر صبر استراتيجي عميق، وشبكة علاقات دولية تمكّنت الدولة خلالها من أن تقنع كل الأضداد بمشروعيتها قيادة وشعباً، وها هم الأردنيون بعد 100 عام يقفون اليوم ليستذكروا كل هذا التاريخ الحافل.
يستذكر الأردنيون مع الاحتفال بمئوية الدولة 10 عقود من العمل والبناء والتضحيات
ليس الهدف من هذه المقالة أن تكون بحثاً تاريخياً في الدولة الأردنية، لكنّ ثمة محطات حافلة بتاريخ الدولة تفرض التوقف عندها، بدءاً من إقامة إمارة شرق الأردن، وإعلان المملكة العام 1946، ثم الدخول في حرب عام 1948، ورفض العرب قرار التقسيم الذي منح ما نسبته "65%" من أراضي فلسطين للدولة العبرية، ثم حرب العام 1967، التي لم يكن الأردن مستعداً لها، فخسر مرغماً الضفة الغربية، مع ضياع صحراء سيناء من مصر، والجولان السوري.
رغم هذه التضحية ظلت تيارات عربية مصرّة على التمسك بالخطاب الاتهامي للمملكة، لتبرير فشلها وعدم قدرتها على بناء تقديرات موقف منطقية، فوجد الأردن نفسه عام 1970 مرغماً على دخول مواجهة مع الفصائل الفلسطينية المسلحة على أرضه، التي رأى بعض قادتها أنّ تحرير فلسطين يبدأ بـ "تحرير" الأردن، في الوقت الذي كان يفترض فيه ألّا يُستعمل السلاح العربي، كلّ السلاح، إلّا على أرض فلسطين ومن أجل تحريرها.
لطالما قابل الأردن الخطاب الاتهامي من تيارات عربية بالصبر والحِلم
رغم هذه المحنة الصعبة ظلت الدولة الأردنية مؤمنة بانتمائها لأمتها العربية وقضيتها الأولى فلسطين، فشارك الجيش الأردني مدفوعاً بهذه العقيدة في حرب عام 1973 جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري في الجولان، وظهيراً للجيش المصري في سيناء.
مضى الأردن بعدها لاستعادة لُحمته الوطنية وتضميد جراحه، فشرع في عملية واسعة لإعادة البناء، وكانت قد توافرت فرص اقتصادية في دول الخليج العربية مخرجاً للأردن لتحقيق التعافي والتنمية عبر المغتربين الأردنيين، والمساعدات التي قدمتها دول الخليج للخزينة لأعوام لاحقة.
إلّا أنّ العام 1989 كان محطة مفصلية في تاريخه بعد انكشافه اقتصادياً وهبوط عملته الوطنية إثر أحداث نيسان (إبريل)، والإعلان عن تحولات ديمقراطية عميقة استؤنفت على إثرها الانتخابات النيابية التي توقفت منذ احتلال الضفة الغربية، ثم جاءت المحطة المفصلية الثانية لتعمّق أزمات الأردن، بعد الاحتلال العراقي للكويت العام 1990، وموقف الأردن منها، الذي رفض الاحتلال ورفض المشاركة في الحرب ضد العراق، التي كان يدرك عواقبها، فوقعت المحطة الثالثة في العام التالي بعقد مؤتمر مدريد للسلام، الذي كان المغفور له الملك الحسين بن طلال يدرك أنّ العرب سيشاركون في هذا المؤتمر بموقف أكثر ضعفاً.
ظلت الدولة الأردنية مؤمنة بانتمائها لأمتها العربية وقضيتها الأولى فلسطين
ورغم أنّ توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، بعد توقيع الجانب الفلسطيني اتفاقية مماثلة، واقتراب توصل سوريا لاتفاقية، كانت نتيجة معروفة ستعقب مدريد، إلّا أنّ العام 1999 كان محطة فاصلة في تاريخ الدولة الأردنية، إثر الإعلان عن وفاة المغفور له الملك الحسين بن طلال، إلّا أنّ تماسك القيادة الشابة الجديدة والشعب الأردني، مكّنت الأردن من استعادة دوره الدولي، فكانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001، بعد تسلّم الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية، فرصة تاريخية ليلعب الأردن حتى اليوم دوراً محورياً في مكافحة الإرهاب، وفي تصدير خطاب عالمي متوازن في المحافل الإقليمية والدولية، جوهره الإيمان بالسلام والتنمية ومناهضة أسباب التطرّف والإرهاب، وهو خطاب يلامس لغة وقيم الإسلام السمحة ومفهوم الحداثة التي يصغي إليها الغرب.
ومع انطلاقة "الربيع العربي" في عدد من الدول العربية، يسجل للأردن أنه، رغم الحراك الحزبي والجماهيري الذي شهدته كثير من مناطق المملكة بشعارات مكافحة الفساد وعدالة التنمية، لم تُرَق فيه قطرة دم، بل تمّ إجراء تعديلات دستورية منحت البرلمان أفقاً جديداً، وقد أصدر الملك عبد الله الثاني رسائل نقاشية تتضمّن مقاربات لما يمكن أن تكون عليه الحياة في الدولة الأردنية، وعلى كافة المستويات، وجميعها تجيب عن أسئلة مضامين الإصلاح المنشود.
وبالتزامن مع نجاحات تسطّرها الدولة الأردنية في التعامل مع جائحة كورونا اليوم، رغم بعض الإخفاقات هنا وهناك، إلّا أنّ قضايا عديدة ما زالت مطروحة حول الدور الإقليمي للأردن، الذي تدلّ مؤشرات عديدة أنه قادم، تتزامن مع إصلاحات داخلية واسعة تمّ إنجاز بعضها، تتعلق بقانون الانتخاب لمجلس النواب والأحزاب، وإعادة هيكلة مؤسسات سيادية، من بينها جهاز المخابرات العامّة.
الدولة الأردنية بتلك الجغرافيا التي كانت وما زالت نقطة قوة وضعف في آنٍ واحد معاً عبر تاريخها، مع شحّ في الموارد ومؤامرات ما انفكّت يُخطط لها في غرف مغلقة، بمشاركة الأجنبي مرة، و"الشقيق" حيناً، وثالثة مع "الصديق"، إلّا أنه، وفي كلّ مرّة بقيادتها الهاشمية ومعها الشعب الأردني من كافة الأصول والمنابت، تمكّنت من الصمود وإسقاط كل ذلك تباعاً، عبر صبر استراتيجي عميق، وشبكة علاقات دولية تمكّنت الدولة خلالها من أن تقنع كل الأضداد بمشروعيتها قيادة وشعباً، وها هم الأردنيون بعد 100 عام يقفون اليوم ليستذكروا كل هذا التاريخ الحافل.
يستذكر الأردنيون مع الاحتفال بمئوية الدولة 10 عقود من العمل والبناء والتضحيات
ليس الهدف من هذه المقالة أن تكون بحثاً تاريخياً في الدولة الأردنية، لكنّ ثمة محطات حافلة بتاريخ الدولة تفرض التوقف عندها، بدءاً من إقامة إمارة شرق الأردن، وإعلان المملكة العام 1946، ثم الدخول في حرب عام 1948، ورفض العرب قرار التقسيم الذي منح ما نسبته "65%" من أراضي فلسطين للدولة العبرية، ثم حرب العام 1967، التي لم يكن الأردن مستعداً لها، فخسر مرغماً الضفة الغربية، مع ضياع صحراء سيناء من مصر، والجولان السوري.
رغم هذه التضحية ظلت تيارات عربية مصرّة على التمسك بالخطاب الاتهامي للمملكة، لتبرير فشلها وعدم قدرتها على بناء تقديرات موقف منطقية، فوجد الأردن نفسه عام 1970 مرغماً على دخول مواجهة مع الفصائل الفلسطينية المسلحة على أرضه، التي رأى بعض قادتها أنّ تحرير فلسطين يبدأ بـ "تحرير" الأردن، في الوقت الذي كان يفترض فيه ألّا يُستعمل السلاح العربي، كلّ السلاح، إلّا على أرض فلسطين ومن أجل تحريرها.
لطالما قابل الأردن الخطاب الاتهامي من تيارات عربية بالصبر والحِلم
رغم هذه المحنة الصعبة ظلت الدولة الأردنية مؤمنة بانتمائها لأمتها العربية وقضيتها الأولى فلسطين، فشارك الجيش الأردني مدفوعاً بهذه العقيدة في حرب عام 1973 جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري في الجولان، وظهيراً للجيش المصري في سيناء.
مضى الأردن بعدها لاستعادة لُحمته الوطنية وتضميد جراحه، فشرع في عملية واسعة لإعادة البناء، وكانت قد توافرت فرص اقتصادية في دول الخليج العربية مخرجاً للأردن لتحقيق التعافي والتنمية عبر المغتربين الأردنيين، والمساعدات التي قدمتها دول الخليج للخزينة لأعوام لاحقة.
إلّا أنّ العام 1989 كان محطة مفصلية في تاريخه بعد انكشافه اقتصادياً وهبوط عملته الوطنية إثر أحداث نيسان (إبريل)، والإعلان عن تحولات ديمقراطية عميقة استؤنفت على إثرها الانتخابات النيابية التي توقفت منذ احتلال الضفة الغربية، ثم جاءت المحطة المفصلية الثانية لتعمّق أزمات الأردن، بعد الاحتلال العراقي للكويت العام 1990، وموقف الأردن منها، الذي رفض الاحتلال ورفض المشاركة في الحرب ضد العراق، التي كان يدرك عواقبها، فوقعت المحطة الثالثة في العام التالي بعقد مؤتمر مدريد للسلام، الذي كان المغفور له الملك الحسين بن طلال يدرك أنّ العرب سيشاركون في هذا المؤتمر بموقف أكثر ضعفاً.
ظلت الدولة الأردنية مؤمنة بانتمائها لأمتها العربية وقضيتها الأولى فلسطين
ورغم أنّ توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، بعد توقيع الجانب الفلسطيني اتفاقية مماثلة، واقتراب توصل سوريا لاتفاقية، كانت نتيجة معروفة ستعقب مدريد، إلّا أنّ العام 1999 كان محطة فاصلة في تاريخ الدولة الأردنية، إثر الإعلان عن وفاة المغفور له الملك الحسين بن طلال، إلّا أنّ تماسك القيادة الشابة الجديدة والشعب الأردني، مكّنت الأردن من استعادة دوره الدولي، فكانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001، بعد تسلّم الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية، فرصة تاريخية ليلعب الأردن حتى اليوم دوراً محورياً في مكافحة الإرهاب، وفي تصدير خطاب عالمي متوازن في المحافل الإقليمية والدولية، جوهره الإيمان بالسلام والتنمية ومناهضة أسباب التطرّف والإرهاب، وهو خطاب يلامس لغة وقيم الإسلام السمحة ومفهوم الحداثة التي يصغي إليها الغرب.
ومع انطلاقة "الربيع العربي" في عدد من الدول العربية، يسجل للأردن أنه، رغم الحراك الحزبي والجماهيري الذي شهدته كثير من مناطق المملكة بشعارات مكافحة الفساد وعدالة التنمية، لم تُرَق فيه قطرة دم، بل تمّ إجراء تعديلات دستورية منحت البرلمان أفقاً جديداً، وقد أصدر الملك عبد الله الثاني رسائل نقاشية تتضمّن مقاربات لما يمكن أن تكون عليه الحياة في الدولة الأردنية، وعلى كافة المستويات، وجميعها تجيب عن أسئلة مضامين الإصلاح المنشود.
وبالتزامن مع نجاحات تسطّرها الدولة الأردنية في التعامل مع جائحة كورونا اليوم، رغم بعض الإخفاقات هنا وهناك، إلّا أنّ قضايا عديدة ما زالت مطروحة حول الدور الإقليمي للأردن، الذي تدلّ مؤشرات عديدة أنه قادم، تتزامن مع إصلاحات داخلية واسعة تمّ إنجاز بعضها، تتعلق بقانون الانتخاب لمجلس النواب والأحزاب، وإعادة هيكلة مؤسسات سيادية، من بينها جهاز المخابرات العامّة.
نيسان ـ نشر في 2021-02-23 الساعة 15:40
رأي: عمر الرداد كاتب وخبير أمني