اتصل بنا
 

تركيا وايران ، من يخدع من ؟ دروس للمحيط الملتهب

نيسان ـ نشر في 2021-03-09 الساعة 20:04

نيسان ـ طبعا ، هذا سؤال غير دقيق . لأن العلاقات بين الدول لا تقيّم بهذا الشكل الحاد والمباشر ، حيث ان كل من الطرفين يتعاملان ضمن نطاق مصالحهما الحيوية كشعوب ودول مع مراعاة معادلة دقيقة جدا ، لذلك دعونا نسبر اغوار هذه العلاقة لندقق تفاصيلها ونرى امكانية الاستفادة من هذا الاستعراض المختصر .
من الناحية التاريخية فإن التنافس المستمر والتناحر هو ما ميّز هذه العلاقة عبر التاريخ من قبل الممالك والإمبراطوريات التي حكمت اراضي هذين الجارين ، وتجاورهما طالما كان ملتهبا ومليئا بالدم حتى عام ١٥١٤ عندما أبرم بين العثمانيين والصفويين معاهدة قصر شيرين بعد معركة جالديران بعد احتلال السلطان سليم الاول تبريز عاصمة الصفويين آنذاك ، ومن يومها حتى الآن تعتبر الحدود بين البلدين من الحدود الأكثر ثباتا بين الدول .
وفي العصر الحديث إتسمت العلاقة ما بين إيران الشاه وتركيا أتاتورك بالسلمية بل بالاعجاب بسبب تطبيق العلمانية وبدا ذلك جليا بالزيارة التاريخية التي قام بها رضا بهلوي عام ١٩٣٤ واستمر ذلك على عهد الابن شاه ايران محد رضا بهلوي رغم بعض التوترات التي كان البلدان سرعان ما يسويانها لتعود المياه والشراكة التجارية الرئيسية بينهما الى مجاريها دوما ، وبقي الموقف على حاله حتى بعد اندلاع الثورة الاسلامية في ايران منهية عهد الشاه .
ومع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان فإن البلدين إستمرا بالتعامل الايجابي مع بعضهما البعض وأثبتا بأن البلدين يحظيان بأكثر من مجرد تجاور جغرافي وصولا الى الكثير من المشتركات الثقافية والسياسية والاقتصادية عبر التاريخ والحاضر على حد سواء .
وحتى نكون أكثر تحديداً دعونا نستعرض كيفية تعامل البلدين مع بعضهما وكيف حافظا على التوازن بينهما في عدد من القضايا التوافقية والمتعارضة بشكل مثير للإعجاب .
أولاً: البرنامج النووي الايراني ، وهو يأتي في اولوية القضايا ذات الاهتمام المشترك فبينما تعتبر ايران ان حصولها على السلاح النووي ضرورة استراتيجية في مواجهة الولايات المتحدة من ناحية ، خاصة بعد الاحتلال الامريكي لكل من افغانستان والعراق جاري ايران اللدودين ووضوح تفوق الولايات المتحدة في اي صراع تقليدي في المنطقة ، ومن ناحية اخرى رغبة ايران على التفوق على الدول المنافسة الاخرى في المحيط الاقليمي والمحلي خصوصا المملكة السعودية واسرائيل التي لا تتوقف كلاهما عن التصريح بعدائهما لإيران ورغبتهما في ايقافها عند حدودها ونزع مخالبها وسلاحها النووي . أما تركيا فلا تخفي انها ضد هذا السلاح والحصول على القنبلة النووية بما يحمل ذلك من تهديدات وسباق للتسلح اكبر في هذه المنطقة الملتهبة اصلا ، الا انها ايضا ضد العمل على اضعاف النظام الحاكم في ايران بما سيسبب بالنسبة لتركيا كارثة جيوسياسية تضاف الى الكوارث المتلاحقة بعد اسقاط نظام صدام حسين من قبل الولايات المتحدة في العراق وطالبان في افغانستان وتداعيات الثورة السورية وبقية القلاقل في انحاء العالم العربي والاسلامي ، لذلك لعبت تركيا دورا كبيرا في ابرام الاتفاق النووي ٥+١ وقامت بالوساطة بين اطرافه على عهد الرئيس اوباما ، حتى ان تركيا عارضت العقوبات الامريكية ضد ايران في مجلس الامن قبل ذلك وحصلت على اعفاءات من تطبيق وتشديد العقوبات اثناء فترة الرئيس ترامب رغم الانتقادات الكبيرة التي وجهت لتركيا والرئيس اردوغان بسبب هذه القرارات الاستراتيجية التي يساندها اغلبية الشعب التركي حسب استطلاع للرأي اجراه معهد رند انذاك .
ومع ذلك وفي خطوة متوازنة فقد سمحت تركيا لحلف الناتو بنصب درع صاروخي ونظام رادار لتعقب الصواريخ التي تنطلق من ايران على الحدود مع ايران مما اغضب ايران كثيرا . وجعل كثير من مسؤوليها كاللواء رحيم صفوي يصرح " بأن تركيا تتصرف نحو ايران بما يتماشى مع الاهداف الامريكية والاسرائيلية " .
ثانيا : الربيع العربي ، مع قدوم موجة الربيع العربي الأولى اصبح واضحا عمق الخلاف والتنافس الايراني التركي في المنطقة ، وقيّمت كل منهما التغيير الكبير الذي اجتاح الشرق الاوسط نهاية ٢٠١٠-٢٠١١ لصالحها فقد اعتبرت ايران ما حصل خصوصا صعود التيار السياسي الاسلامي على انه صحوة اسلامية مستلهمة من الثورة الاسلامية الايرانية خصوصا بتونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن بينما اعتبرت تركيا ما حدث ثورة شعبية عامة وعارمة احتجاجا من الشعوب العربية على الفساد والقمع وللمطالبة بمزيد من الديمقراطية والشفافية ولكن ما ان وصلت الثورة لسوريا حليف ايران التاريخي حتى تنكرت ايران للثورة والثوار وسارعت الى دعم نظام الحكم السوري المتشدد بكل ما تملك من قوة ونفوذ وصولا لارسال قوات وميليشيات مسلحة تقاتل الى جانب القوات الحكومية التي تطلق الرصاص على المظاهرات السلمية في سوريا ، ثم صرح الامام خامنئي منتقدا الدعم التركي لانتفاضة السوريين وسواهم " بأن تركيا تعزز العلمانية في العالم العربي " . بينما اتهمت تركيا ايران بمساعدة النظام السوري على ابادة شعبه وتهجيره واللعب معه على التغيير الديمغرافي لسوريا وتأجيج الخلافات الطائفية والعرقية في سوريا ولبنان والعراق والبحرين وصولا لليمن عندما تضارب الرئيس اردوغان مع وزير الخارجية الايراني ظريف حين طلب اردوغان منه " انسحاب ايران وجماعاتها من اليمن " فرد عليه ظريف بأن " تركيا ترتكب اخطاء استراتيجية متتالية بدعم الجماعات السنية والحركات المعارضة في كل من اليمن وسوريا ولبنان والعراق " ولم يُحل الخلاف الظاهر بينهما إلا بزيارة اردوغان لطهران واجتماعه مع الامام خامنئي عام ٢٠١٧ . ثم تكرر الموقف نفسه في العراق ولبنان ابان الإحتجاجات الشعبية هناك في خريف ٢٠١٩ ، ومع ذلك ورغم الشد والاخذ الشديدين بينهما في العراق وسوريا كما مؤخرا في العراق عندما ضربت تركيا جبل سنجار مقر منظمة بي كي كي في العراق ولم تأبه بالاعتراضات الايرانية !! ولا تهديدات ميلشيات عراقية تدعمها ايران وتنسق مع الاكراد الانفصاليين في تلك المنطقة وتهدد معهم بالتصدي للأتراك ، ومع ذلك فإن الدولتان تركيا وايران سرعان ما نسقتا مع بعضهما واحتويتا المسألة الطارئة هناك كما كانتا تنسقان بينهما دوما منذ اكثر من عقد من الزمن عبر اكثر من منصة سواء منصة استانا او سواها ولا تتركان للأوضاع ان تتفاقم الى نقطة اللاعودة بينهما .
مما يقودنا للنقطة الثالثة وهي الموضوع الكردي ، فرغم ان هناك تقاربا واضحا بين مصالح كلا البلدين فيما يتصل بالمسألة الكردية لأن كلا البلدين يضمان اقلية كردية كبيرة على اراضيهما ولا ترغبان بظهور دولة كردية مستقلة وكلاهما عانتا من تمرد كردي على اراضيهما ، إلا ان الموقف من سوريا والعراق قد عقّد الموقف بينهما في هذا الملف وانتقلا من تبادل المعلومات الاستخبارية والتنسيق بينهما للحد من نشاطات وهجمات كلا من حزب الحياة الكردستاني في ايران والمنبثق عن حزب العمال الكردستاني الذي ينشط في تركيا في الاعوام ٢٠١٠ وما قبلها ، الى التواجه وحتى الدعم الايراني لنشاطات حزب العمال الكردستاني في تركيا كما حدث بكثير من الهجمات التي شنتها ال بي كي كي على الاراضي التركية في شمدينلي بهككاري وغازي عنتاب وغيرها وتضمن بعضها نقل اسلحة ثقيلة عبر الحدود مع ايران ، ثم إشارة المتحدث بإسم لجنة الشؤون البرلمانية في ايران حسين نقوي بعد تلك الهجمات بإن " على تركيا عدم التدخل في سوريا اذا كانت غير قادرة على التعامل مع مشاكلها في الداخل " مما اعتبرته انقرة حينها تهديدا مستترا لمزاعم تدخلها بدعم المعارضة السورية وتحركاتها . لذلك اصبح في حكم المعروف والمؤكد ان كلا من ايران والنظام السوري والنظام الحالي في بغداد يستخدمان الورقة الكردية للضغط على تركيا للمساومة واضعاف موقفها في المنطقة المحيطة بحدودها ، مما اضطر تركيا في النهاية للتدخل الفعلي في سوريا لإحباط المخطط الغربي الايراني معا لإقامة كيان كردي مستقل في شمال سوريا ، وكما بينت سابقا اضطرت تركيا للضرب مؤخرا بقوة في جبل سنجار شمال العراق حيث تتجاور مقرات كلا من قسد المنظمة العاملة في شمال سوريا وحزب العمال الكردستاني التركي وعصائب الحق وحركة النجباء العراقيتين المدعومتين مباشرة من ايران لما يمثله الموضوع الكردي من مركزية في المحافظة على الامن والاستقرار الوطني التركي.
رابعا : التعاون الاقتصادي ، تمكنت كلا الدولتين بشكل ناجح ومثير للإعجاب على فصل علاقاتهما الاقتصادية عن خصوماتهما الاقليمية وساهم التعاون الاقتصادي بينهما على الانضباط الجيوسياسي بهدف حماية مصالحهما الاقتصادية المشتركة فسعتا من خلال المنصات المتعددة والحوارات متعددة الاطراف والمنظمات الاقليمية على ادارة النزاع بينهما بإقتدار ، فقد عارضت ايران بشدة المحاولة الانقلابية في العام ٢٠١٦ ، كما عارضت تركيا الاحتجاجات في طهران ٢٠١٨ وفي العراق ٢٠١٩ ، لأن تركيا تدرك تأثيرات الاضطرابات في ايران واهتزاز الامن هناك على الامن الاقليمي والتركي بشكل خاص ، ثم ان ايران هي احد المزودين الاساسيين لتركيا بالنفط والغاز ، بينما تشكل تركيا بصادراتها الغير نفطية لإيران قناة اقتصادية حيوية لا يغلق بابها رغم تشديد العقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة اثناء عهد ترامب .
ورغم انخفاض حجم التبادل التجاري بينهما في نهاية العام ٢٠١٩ ، إلا ان نفس العام ونفس الفترة شهد ارتفاعا كبيرا في النشاط الايراني داخل تركيا بما في ذلك شراء عقارات وتأسيس شركات وأصبح الإيرانيون بالمرتبة الثانية بعد العراقيين وذلك طبعا بعد تشديد الامارات على التجار الايرانيين بسبب العقوبات الامريكية هناك ، وهناك ادعاءات متفرقة عن دور تركيا الحيوي في مساعدة ايران على التهرب من العقوبات من خلال خطة كبرى اشتملت تسديد ثمن النفط والغاز الايراني بواسطة الذهب .
فالايرانيون ينظرون الى تركيا كبلد جار ويتمتع بمناخ اقتصادي مستقر ومنفتح اجتماعيا ، ثم انهم يستطيعون استخدام نظام مصرفي غير تقليدي ( مكاتب الصرافة ) لتجنب العقوبات الامريكية الى حد كبير . ومع ذلك فإن تركيا ولعوامل خاصة بعدم الاستقرار الايراني وتأثير العقوبات القوي قد بدأت بتخفيض نسبة اعتمادها على الغاز المسال والنفط من ايران في مقابل عمليات المقايضة الكبرى مع السلع التركية غير النفطية في الاتفاقية الكبرى بينهما والتي ستنتهي في العام ٢٠٢٦ . وهناك تكهنات بأن هذا الانخفاض وتآكل العلاقات الاقتصادية بينهما قد يؤثر الخصومة والتنافس المحسوب بينهما .
اما فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية واسرائيل ودول الخليج والمشكلة القطرية وحتى القوقاز فقد ادارت كلا الدولتين الملف بذكاء وسجلت نقاطا اضافية لصالحها خصوصا في ظل ضعف الموقف العربي وهشاشته وتخلخله لصالح جيرانه الاقوياء الطامحين .
اخيرا فإن أهم ما رغبت الاشارة اليه هو قدرة هاتين الدولتين على التعامل معا بشكل محترف وان يرسما خطوط تعاونهما رغم خلافهما وخلافاتهما بشكل استراتيجي عابر للزمن والحكومات والتقلبات الاقليمية والدولية مما يكسبهما قوة الى قوتهما ومجالاً للمناورة في ظل نظام دولي عاتي الاطماع والقوة ، وهو مما نحتاج الى دراسته ووعيه من قبل دولنا العربية وحكوماتنا التي لا تني تكيد لبعضها البعض وتضعف بعضها البعض دونما توقف .

نيسان ـ نشر في 2021-03-09 الساعة 20:04


رأي: د. اسامة المجالي

الكلمات الأكثر بحثاً