التيارات اليسارية بين (الاستعطاء السياسي) و(الاستعصاء الديمقراطي).. من أي رحم سيخرج التيار الثالث؟!
محمد قبيلات
كاتب أردني
نيسان ـ نشر في 2021-07-21 الساعة 17:23
نيسان ـ محمد قبيلات
يغيب عن تنظيرات اليساريين العرب، في هذه المرحلة، كما سابقاتها، التحليل المادي (الماركسي)، ليحل عوضا عنه تحليل سياسي متعجل، لا يرتكز لتفكيك البنى الاجتماعية وعلاقات الإنتاج السائدة في هذه المرحلة، وبالتالي لا يخلص إلى توصيف دقيق للتشكيلة الاجتماعية الراهنة، وعلى ضوء ذلك تتعاطى قوى اليسار بإيجابية، مع الطروحات الرسمية، وعلى رأسها "الازدحام الذي يعوق الحركة"، والرغبة العلية بأن يكون هناك ثلاثة أحزاب فقط، وكأن من السهل حشر الناس في حدود ثلاثة قطعان سياسية محسوبة المقاسات سلفا.
وإمعانا في هذا التعاطي، يذهب الكتّاب، في العادة، إلى دراسة علاقة الأحزاب والتشكيلات اليسارية بالسلطة، وأحيانا يتوسعون في حديث سياسي عن العلاقة بالأحزاب الأخرى، والمؤامرات الكونية، متناسين البحث في علاقات ونمط الانتاج السائد، مع أن رؤيتهم للحزب ترتكز إلى أنه المدافع عن الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين وصغار الكسَبة، لكنهم لا يُجهدون أنفسهم بالبحث عن هذه الطبقات، ولا يسألون أنفسهم اذا ما كانت العملية الانتاجية قد تطورت بشكلها الطبيعي لتؤدي للفرز الطبقي المبرر لتَكوُّن الأحزاب، مالكين مستغلِين وأُجَراء مستغلَّين، وما يؤسس لعملية الصراع بين الطبقات أن غياب هذا الأساس المادي، أي الفرز المؤدي للتناقض الواضح بين الطبقات، أدى بالضرورة إلى هذه السيولة السياسية التي نعيشها اليوم، وهو ما أنتج أحزابا يسارية لا ترقى حتى إلى مستوى نوادي الهواة الفكرية، وقد انشغلت طوال العقود الماضية بالنقاشات البيزنطية، والتعيّش بالتبعية للأحزاب البرجوازية، سواء محلية أو إقليمية ودُولية، أو بالتذلل للسلطات لتحصيل القليل من المكاسب والمناصب والتنفيعات الفردية، وحقا إنها لتيارات مُدَّعِية، فكيف ستذهب إلى التغيير من دون أن تمتلك التفسير؟!
طبعا هذه المقدمة المتشائمة يجب أن لا تجعلنا نغفل عن بعض الطروحات الجادة، ومنها، على سبيل المثال، ما قدمه مهدي عامل في مقدماته النظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني 1980، حيث وصف الاقتصادات السائدة في الوطن العربي بأنها نمط انتاج كولونيالي، وقد ذهب في ذلك النحت، على غرار شكل نمط الانتاج الآسيوي، من حيث الخصوصية، مع الفوارق البنيوية، وقد اعتبر بالتالي أن البنية الاجتماعية بنية تبعية، حيث الطبقات البرجوازية وسيطة، نشأت في ظل العلاقات الاقتصادية ملتحقة بالدول المستعمرة التي تخلت شكليا عن مستعمراتها.
أي أن طبيعة التطور لم تُفسح المجال لإنضاج تناقض داخلي، يؤدي في نهاية المطاف لانتفاء التشكيلة الاجتماعية القائمة، لتحل محلها تشكيلة اجتماعية أكثر تطورًا، بل أصبح التناقض خارجيًا، تناقضًا صامتًا، مع المستعمر بشكله الجديد، الذي فرض نمط الانتاج التبعي الكولونيالي، بمعنى أن تصبح هذه البلدان: مجرد مَصدَر للموارد الخام الطبيعية، طرق وممرات بحرية وجوية آمنة، أسواق مستهلكة لمنتجات الصناعات في الدول الرأسمالية.
اللحظة الفارقة في التأريخ الأردني تعود إلى مئة عام، لحظة التحول الأردني الكبير، عند بدء تَشكُّل الدولة الأردنية الحديثة، حين بدأ الاقتصاد الأردني يتحول من اقتصاد رعوي زراعي بسيط ذي تنظيم ذاتي، بغياب تام للحكم المركزي، إلى اقتصاد موجه ومدار من قبل الدولة، وبطبيعة الحال هذه المرحلة الانتقالية لم تهبط في ليلة واحدة، بل إنها امتدت عشرات السنين، حيث شهدت البلاد تحولات متتابعة لم تتجذر إلا بعد العقد السادس من القرن الماضي، ليسود منذ مطلع السبعينيات نمط العيش الاستهلاكي المدعوم من الدولة الرعوية لا التنموية، وذلك مع تدفق السيولة من دول الخليج العربي، سواء بشكل استثمارات أو هبات.
منذ العشرينيات من القرن الماضي وحتى خمسينياته، جرت عملية صراعية كبرى، أدارتها القوى الاستعمارية، تعمدت خلالها طمس هُوية الشعب الأردني، في ظل سيطرة كاملة للقوى الامبريالية، وبالنتيجة أرست خلال هذه الفترة الزمنية، نمط تطور اقتصادي كولونيالي، ينسجم مع الأهداف الكلية للاستعمار في المنطقة، وإقامة دولة الاحتلال الصهيوني، وتهجير الشعب الفلسطيني.
أدت هذه المقدمات إلى تشوهات واختلالات اقتصادية واجتماعية كبرى، ولعل أبرز نتائجها اليوم، الاعتماد على القروض والمنح، تخريب علاقات الانتاج الزراعي، التي ظلت لمئات السنين تحقق الاكتفاء الذاتي للمجتمع الأردني وتفيض، استشراء الفساد، تضخم حجم الإدارة، انخراط معظم القوى العاملة في قطاع الخدمات، حيث أن أكثر من 40 % من القوى العاملة تعمل في الدولة، وهذه النسبة لا تزيد عادة عن 10 % في الدول المتقدمة، وأكثر من ثلث هؤلاء الموظفين إشرافيون، بمعنى أنهم مدراء ورؤساء أقسام وهذا تشوه آخر يُشكل أضعاف النسب الطبيعية.
المسألة ليست رغبة، بالعودة إلى موضوع استنهاض قوى اليسار، أو خلق تيار ثالث، "طرحه عريب الرنتاوي" خلال مقاله المنشور في موقع قناة الحرة قبل يومين، نجد أن القصة ليست وصفية، أو رغبة، بل إنها أصعب وأدق من ذلك كثيرًا، خصوصا إذا ما تمّ التدقيق في التشوهات الواسعة في البنية الاجتماعية والاقتصادية والإدارية الماثلة أمامنا اليوم، والتي ربطت مصالح فئات واسعة من الناس مباشرة بالسلطة، أدت إلى وضعهم تحت موازنات مرعبة ( ترهيبية) بدول الجوار الفاشلة، فالعاملون في قطاعات الدولة المختلفة والمتقاعدون، جميعهم تحت رحمة صمود الدينار، وتذبذبات القوة الشرائية، فليس من مجال أو ترف أمام هذه الفئات الاجتماعية للمخاطرة بالمكاسب القليلة المتاحة، وهم تحت الضغط النفسي الناجم عن متابعة أخبار انهيار العملات والاقتصادات في دول الجوار.
بهذا المعنى، لا يمكن تصنيف أجهزة الدولة العميقة، أو العشائر الأردنية، وصفا سياسيا بحتا، فالحديث الجهوي السطحي، المغلف بخطاب يساري، ينطوي على دمامل إذا ما انفجرت ستؤذي الكل، والمناطق البدوية كانت قبل تأسيس الدولة تحت شكل التنظيم الذاتي لإدارة اقتصاداتها الرعوية الرثة، وعند تشكل الدولة، تم تشكيل أجهزة الدولة العميقة من أبنائها، لأنهم في الأساس مقاتلون، وأسهمت هذه الأجهزة، منذ بدايات تأسيسها، وعلى رأسها الجيش، في الدفاع عن المصالح القومية في الحروب مع الكيان الصهيوني المحتل، وليست هي اليمين الذي يتطلب إنشاء تيارٍ وسطيٍ نظيرٍ لها، لأن وظيفتها كأجهزة تبقى حماية الدولة ومؤسساتها، بكل أشكالها وتغيراتها وتحولاتها.
الخطاب والتحليل الماركسي بمحتواه تقدمي، ولا يمكن توظيفه لخدمة فكرة رجعية، سواء كانت توطينية أو جهوية، أو لخدمة نظام رجعي معين، إذ لا يمكن لهذا التحليل إلا أن يخدم التوجهات التقدمية، المنحازة للمضطهدين، وقضاياهم العادلة، أما أولئك المتشدقون بالمصطلحات اليسارية، فلن يفيدهم تمويههم هذا كثيرا، لأن الخطاب الماركسي يتناقض مع طروحات تيارات المجتمع المدني، الممهدة لأفكار التوطين.
يبقى أن نذكر المتباكين على اليسار اليوم، بأن المسألة، تصنيفيا، نسبية، نعم، فالحزب الأقرب إلى تحسس هموم الناس وفتح الآفاق للحرية والعدالة الاجتماعية، هو الحزب اليساري في حالة غياب الحزب الجذري (عن الوعي)، وليس شرطا أن يكون الحزب اليساري المنشود اليوم على هيئته الكلاسيكية، فالجمهوريون في أمريكا يتهمون الديمقراطيين بأنهم يساريون واشتراكيون، ويخونون قيم الرأسمالية وقواعد ومُثل السوق الحر، وكذلك فإن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا تقدم أرقى صيغ العدالة الاجتماعية، لكنها أحزاب تعرف إلى أية طبقات تنتسب، وليست أحزابا مجهولة النسب الطبقي، ولم يضف إليها قطب ثالث لإحداث حالة من التوازن، لأن التوازنات والتسويات الكبرى تحدث بين قطبين أساسيين لا ثالث لهما؛ من يملكون ومن لا يملكون .
يغيب عن تنظيرات اليساريين العرب، في هذه المرحلة، كما سابقاتها، التحليل المادي (الماركسي)، ليحل عوضا عنه تحليل سياسي متعجل، لا يرتكز لتفكيك البنى الاجتماعية وعلاقات الإنتاج السائدة في هذه المرحلة، وبالتالي لا يخلص إلى توصيف دقيق للتشكيلة الاجتماعية الراهنة، وعلى ضوء ذلك تتعاطى قوى اليسار بإيجابية، مع الطروحات الرسمية، وعلى رأسها "الازدحام الذي يعوق الحركة"، والرغبة العلية بأن يكون هناك ثلاثة أحزاب فقط، وكأن من السهل حشر الناس في حدود ثلاثة قطعان سياسية محسوبة المقاسات سلفا.
وإمعانا في هذا التعاطي، يذهب الكتّاب، في العادة، إلى دراسة علاقة الأحزاب والتشكيلات اليسارية بالسلطة، وأحيانا يتوسعون في حديث سياسي عن العلاقة بالأحزاب الأخرى، والمؤامرات الكونية، متناسين البحث في علاقات ونمط الانتاج السائد، مع أن رؤيتهم للحزب ترتكز إلى أنه المدافع عن الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين وصغار الكسَبة، لكنهم لا يُجهدون أنفسهم بالبحث عن هذه الطبقات، ولا يسألون أنفسهم اذا ما كانت العملية الانتاجية قد تطورت بشكلها الطبيعي لتؤدي للفرز الطبقي المبرر لتَكوُّن الأحزاب، مالكين مستغلِين وأُجَراء مستغلَّين، وما يؤسس لعملية الصراع بين الطبقات أن غياب هذا الأساس المادي، أي الفرز المؤدي للتناقض الواضح بين الطبقات، أدى بالضرورة إلى هذه السيولة السياسية التي نعيشها اليوم، وهو ما أنتج أحزابا يسارية لا ترقى حتى إلى مستوى نوادي الهواة الفكرية، وقد انشغلت طوال العقود الماضية بالنقاشات البيزنطية، والتعيّش بالتبعية للأحزاب البرجوازية، سواء محلية أو إقليمية ودُولية، أو بالتذلل للسلطات لتحصيل القليل من المكاسب والمناصب والتنفيعات الفردية، وحقا إنها لتيارات مُدَّعِية، فكيف ستذهب إلى التغيير من دون أن تمتلك التفسير؟!
طبعا هذه المقدمة المتشائمة يجب أن لا تجعلنا نغفل عن بعض الطروحات الجادة، ومنها، على سبيل المثال، ما قدمه مهدي عامل في مقدماته النظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني 1980، حيث وصف الاقتصادات السائدة في الوطن العربي بأنها نمط انتاج كولونيالي، وقد ذهب في ذلك النحت، على غرار شكل نمط الانتاج الآسيوي، من حيث الخصوصية، مع الفوارق البنيوية، وقد اعتبر بالتالي أن البنية الاجتماعية بنية تبعية، حيث الطبقات البرجوازية وسيطة، نشأت في ظل العلاقات الاقتصادية ملتحقة بالدول المستعمرة التي تخلت شكليا عن مستعمراتها.
أي أن طبيعة التطور لم تُفسح المجال لإنضاج تناقض داخلي، يؤدي في نهاية المطاف لانتفاء التشكيلة الاجتماعية القائمة، لتحل محلها تشكيلة اجتماعية أكثر تطورًا، بل أصبح التناقض خارجيًا، تناقضًا صامتًا، مع المستعمر بشكله الجديد، الذي فرض نمط الانتاج التبعي الكولونيالي، بمعنى أن تصبح هذه البلدان: مجرد مَصدَر للموارد الخام الطبيعية، طرق وممرات بحرية وجوية آمنة، أسواق مستهلكة لمنتجات الصناعات في الدول الرأسمالية.
اللحظة الفارقة في التأريخ الأردني تعود إلى مئة عام، لحظة التحول الأردني الكبير، عند بدء تَشكُّل الدولة الأردنية الحديثة، حين بدأ الاقتصاد الأردني يتحول من اقتصاد رعوي زراعي بسيط ذي تنظيم ذاتي، بغياب تام للحكم المركزي، إلى اقتصاد موجه ومدار من قبل الدولة، وبطبيعة الحال هذه المرحلة الانتقالية لم تهبط في ليلة واحدة، بل إنها امتدت عشرات السنين، حيث شهدت البلاد تحولات متتابعة لم تتجذر إلا بعد العقد السادس من القرن الماضي، ليسود منذ مطلع السبعينيات نمط العيش الاستهلاكي المدعوم من الدولة الرعوية لا التنموية، وذلك مع تدفق السيولة من دول الخليج العربي، سواء بشكل استثمارات أو هبات.
منذ العشرينيات من القرن الماضي وحتى خمسينياته، جرت عملية صراعية كبرى، أدارتها القوى الاستعمارية، تعمدت خلالها طمس هُوية الشعب الأردني، في ظل سيطرة كاملة للقوى الامبريالية، وبالنتيجة أرست خلال هذه الفترة الزمنية، نمط تطور اقتصادي كولونيالي، ينسجم مع الأهداف الكلية للاستعمار في المنطقة، وإقامة دولة الاحتلال الصهيوني، وتهجير الشعب الفلسطيني.
أدت هذه المقدمات إلى تشوهات واختلالات اقتصادية واجتماعية كبرى، ولعل أبرز نتائجها اليوم، الاعتماد على القروض والمنح، تخريب علاقات الانتاج الزراعي، التي ظلت لمئات السنين تحقق الاكتفاء الذاتي للمجتمع الأردني وتفيض، استشراء الفساد، تضخم حجم الإدارة، انخراط معظم القوى العاملة في قطاع الخدمات، حيث أن أكثر من 40 % من القوى العاملة تعمل في الدولة، وهذه النسبة لا تزيد عادة عن 10 % في الدول المتقدمة، وأكثر من ثلث هؤلاء الموظفين إشرافيون، بمعنى أنهم مدراء ورؤساء أقسام وهذا تشوه آخر يُشكل أضعاف النسب الطبيعية.
المسألة ليست رغبة، بالعودة إلى موضوع استنهاض قوى اليسار، أو خلق تيار ثالث، "طرحه عريب الرنتاوي" خلال مقاله المنشور في موقع قناة الحرة قبل يومين، نجد أن القصة ليست وصفية، أو رغبة، بل إنها أصعب وأدق من ذلك كثيرًا، خصوصا إذا ما تمّ التدقيق في التشوهات الواسعة في البنية الاجتماعية والاقتصادية والإدارية الماثلة أمامنا اليوم، والتي ربطت مصالح فئات واسعة من الناس مباشرة بالسلطة، أدت إلى وضعهم تحت موازنات مرعبة ( ترهيبية) بدول الجوار الفاشلة، فالعاملون في قطاعات الدولة المختلفة والمتقاعدون، جميعهم تحت رحمة صمود الدينار، وتذبذبات القوة الشرائية، فليس من مجال أو ترف أمام هذه الفئات الاجتماعية للمخاطرة بالمكاسب القليلة المتاحة، وهم تحت الضغط النفسي الناجم عن متابعة أخبار انهيار العملات والاقتصادات في دول الجوار.
بهذا المعنى، لا يمكن تصنيف أجهزة الدولة العميقة، أو العشائر الأردنية، وصفا سياسيا بحتا، فالحديث الجهوي السطحي، المغلف بخطاب يساري، ينطوي على دمامل إذا ما انفجرت ستؤذي الكل، والمناطق البدوية كانت قبل تأسيس الدولة تحت شكل التنظيم الذاتي لإدارة اقتصاداتها الرعوية الرثة، وعند تشكل الدولة، تم تشكيل أجهزة الدولة العميقة من أبنائها، لأنهم في الأساس مقاتلون، وأسهمت هذه الأجهزة، منذ بدايات تأسيسها، وعلى رأسها الجيش، في الدفاع عن المصالح القومية في الحروب مع الكيان الصهيوني المحتل، وليست هي اليمين الذي يتطلب إنشاء تيارٍ وسطيٍ نظيرٍ لها، لأن وظيفتها كأجهزة تبقى حماية الدولة ومؤسساتها، بكل أشكالها وتغيراتها وتحولاتها.
الخطاب والتحليل الماركسي بمحتواه تقدمي، ولا يمكن توظيفه لخدمة فكرة رجعية، سواء كانت توطينية أو جهوية، أو لخدمة نظام رجعي معين، إذ لا يمكن لهذا التحليل إلا أن يخدم التوجهات التقدمية، المنحازة للمضطهدين، وقضاياهم العادلة، أما أولئك المتشدقون بالمصطلحات اليسارية، فلن يفيدهم تمويههم هذا كثيرا، لأن الخطاب الماركسي يتناقض مع طروحات تيارات المجتمع المدني، الممهدة لأفكار التوطين.
يبقى أن نذكر المتباكين على اليسار اليوم، بأن المسألة، تصنيفيا، نسبية، نعم، فالحزب الأقرب إلى تحسس هموم الناس وفتح الآفاق للحرية والعدالة الاجتماعية، هو الحزب اليساري في حالة غياب الحزب الجذري (عن الوعي)، وليس شرطا أن يكون الحزب اليساري المنشود اليوم على هيئته الكلاسيكية، فالجمهوريون في أمريكا يتهمون الديمقراطيين بأنهم يساريون واشتراكيون، ويخونون قيم الرأسمالية وقواعد ومُثل السوق الحر، وكذلك فإن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا تقدم أرقى صيغ العدالة الاجتماعية، لكنها أحزاب تعرف إلى أية طبقات تنتسب، وليست أحزابا مجهولة النسب الطبقي، ولم يضف إليها قطب ثالث لإحداث حالة من التوازن، لأن التوازنات والتسويات الكبرى تحدث بين قطبين أساسيين لا ثالث لهما؛ من يملكون ومن لا يملكون .