اتصل بنا
 

طبقات الارتزاق السياسي

نيسان ـ نشر في 2021-08-25 الساعة 17:04

x
نيسان ـ محمد قبيلات
أسوأ ما يمكن أن تُنتجه ممارسات الأنظمة السياسية المختلطة، هو تعميق التشوهات في البُنى السياسية والاجتماعية، وما يتبع ذلك بالضرورة من تغييب لعمليات التطور الطبيعية، الناتجة عن تطور الانتاج، وبالتالي تمييع الفرز والتخصص وتقسيم العمل، وينسحب ذلك على النسب العالية من القوى العاملة التي انخرطت في قطاع الخدمات، وتضخم القيادات الادارية على حساب الهرمية الطبيعية في الادارة.
وذلك ما يُحدِث اختلالات كبرى في البنى الاجتماعية والاقتصادية، ونشوء آليات مؤقتة تختلق الطبقة السياسية السائدة، وهي طبقة مُصنَّعة، تختلف جذريا عما يمكن أن يُنتَج وفق آليات التدرج والتصعيد والانتخاب السياسي الطبيعية.
لذلك، تصبح الآليات البديلة، مثل آليات التقريب والإبعاد بناء على معادلة الولاء والتابعية، هي الآلية السائدة، من أجل كسب ولاءات فئات اجتماعية متضررة من التوزيع غير العادل للثروة والتنمية، وثنيها عن المطالبة بأي حقوق فقدتها، وإيهامها بالمشاركة بالحكم والسلطة.
هذا التشويه الجذري يُنتِج طبقات وفئات وظيفية، طُفَيْلية، متعددة ومتدرجة في الرتب والوظائف، تتمدد إلى البنى السياسية والاجتماعية كافة، سواء الموالية أو المعارضة أو تلك التي تدَّعي الولاء أو المعارضة، ليصبح ديدنها جميعا البحث واللهاث وراء الفُتات.
لِمَ حصرنا هذه السلوكات بالأنظمة المختلطة؟ لأن هذه المنظومة، في الأصل، تفتقد للكتلة العريضة الحاسمة، سواء كانت برجوازية أو غيرها، فتنتَج القرارات ليس بقوة القانون الذي تفرضه القوة السائدة المؤهلة ماديا لتتبوأ هذا الموقع، بل بالمحاباة والتزييف والتزوير والابتزاز الذي تفرضه الطبقة الطفيلية.
نعم، كل هذا يحدث في مجتمعاتنا، لغياب الكتلة القادرة على إنفاذ مشروع واضح المعالم، والتي (من المُفترض) يتوفر لديها القدرة على قيادة التشكيلة الاجتماعية، فكريا وسياسيا، بناء على صيغة سياسية أو تسوية تقبلها الأطراف الأخرى المَهيضة أجنحتها إلى حين.
بناء على ذلك، يمكننا توصيف الحالة بعملية اختطاف لقيادة المجتمع، تكون أداتها الأساسية القهر الاجتماعي، والاستعانة بأدوات رخيصة تُغْري، بداية، الفئات الضعيفة ببعض الامتيازات والمناصب، ومن ثم تتم شرعنة هذا النمط من التعامل ليشمل كل القوى التي تحاول أن تتحصل على بعض حقوقها، بحيث يتم شراء ذمم أفرادها وعناصرها، لتسود حالة من الارتزاق تتوسع رويدا رويدا حتى تغطي، في نهاية الأمر، مساحات واسعة من الدوائر الاجتماعية المختلفة.
المثال الصارخ على هذه الفرضية، ماثل أمامنا الآن بكل وضوح، في اللجان الاصلاحية التي يتم تشكيلها، لشراء الوقت والمماطلة والتسويف، حيث تبقى القوى السياسية المعارضة المشاركة بها، أسيرة لتصوراتها غير الواقعية من جانب، ومن الجانب الآخر أسيرة التصورات المسبقة عنها لدى الآخر، فتنعدم قدرتها تماما في التأثير، بينما الكتلة الأكبر ( الوطنية) مطعونة بأمراض الارتزاق والوصولية والانتهازية، والتنافس بين اعضائها لخطب ود المسؤولين على أمل الحصول على المناصب في التشكيلات الادارية المقبلة، أو أي امتيازات يمكن أن يمنحها السيد لعبيده.
الفكرة التي أود توصيلها من هذا الحديث، الغامض نوعا ما، أننا لا نمتلك ترف تبديد الوقت، وعلى الجميع، رازقين ومترزقين، أن يسمعوا ويعوا المخاطر الكبيرة التي تتهددنا جميعا، فلم تعد لدينا من هوامش كثيرة متاحة، لتمديد عملية اللعب في العقول والتسويف.
باختصار شديد؛ الأزمة التي تعيشها البلاد اليوم، أعمق من أزمة أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ففي تلك الحقبة، أي قبل أكثر من ثلاثين عاما، كنا نمتلك الكثير من الاحتياطات والامكانات لحل الأزمة، سياسيا واقتصاديا، بمعنى أن حدوث الانفراجة السياسية حينها خففت الاحتقان في تلك الأزمة، فلم تكن كل هذه الضرائب مفروضة بعد، ومؤسسات القطاع لم تُبَع بعد، كما أن هامش المديونية كان ما زال مفتوحا، والمساعدات الخارجية ما زالت متاحة، أما اليوم، فما الذي بقي من كل ذلك ليحدث الانفراج السياسي الموعود ويُخرج البلاد من حالة الانسداد التي نعيشها؟! .. لا شيء.
لقد شكلت مجمل الظروف التي مررنا بها واقعا سياسيا جديدا، قائمًا على تزييف الوعي، وتزييف التمثيل، والإدارة بأسلوب التنفيع والمخادعة وشراء الوقت، والمقامرة إلى آخر لحظة انتظارًا لضربة حظ قد تأتي من ظهر الغيب، برغم أن البلد أصبحت على الحديدة، كما يقولون، وأصبحت ظهورنا مستندة إلى الحائط الأخير، الذي ربما بات آيلا للسقوط، في أية لحظة.

نيسان ـ نشر في 2021-08-25 الساعة 17:04

الكلمات الأكثر بحثاً