اتصل بنا
 

من الحصارِ إلى الحصارِ!

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2021-11-11 الساعة 09:28

نيسان ـ كأنّ العربَ ما برِحوا حيَّ البيّازين الغرناطي، في ثنائيتهِ المُلهبةِ للخيال : حيٌّ يمورُ بالحياةِ المدينيةِ في ميمعةِ القرونِ الوسطى، و أُفول تدريجي لهذه الحياة الصاخبة تحت وقع الهجوم البربري الذي شنّته قشتالةُ لاقتلاع العرب من الاندلس.اذ تتفق كل تدوينات التاريخ على اختلافها، على أن هذه الحياة المدينية التي كانت سائدة في الاندلس، وخصوصا في غرناطة آخر حصون العرب في شبه الجزيرة الايبيرية، كانت انموذحا لذروة التطور الاجتماعي الاقتصادي الذي بلغه العرب، وهو الميزة التي سارعت اوروبا لسحقها ومحوها من على الخريطة، لتبني هي انموذجها الاجتماعي الاقتصادي فيكون لها السبق تاريخيا في اجتراح التقدم الحضاري. فما ينقل عن صخب حياة المدن الاندلسية العربية يؤكد ان حياة العرب اتسمت بالمدينية وما فيها من تحضر معيشي ساد في المفاهيم الناظمة للحياة وممارستها. وهذا يعني شعبا عاش تطورا اجترحه بفعل الحاجة لتصنيع مستلزماته من الغذاء والكساء والحرب والثقافة . فشوارع المدن تنسب للمهن التي اختص بها اهل الكار دون سواهم، وهو ما يعرف بالتخصص . شوارع للنحاسين والحدادين والوراقين، وبقية المهن التي تقوم عليها حياة مجتمع المدينة.
السؤال المقلق كان دائما: كيف ينهزم انموذج حضاري متقدم أمام آخر متخلف؟!
فالعملية الاقتصادية التي كانت سائدة في اندلس العرب كانت تتجه الى تشكل نواة مجتمع رأسمالي منتج، وهو بالضرورة كان يغادر مفاهيم المجتمع الاقطاعي العبودي الذي كان سائدا في اوروبا.
مكتبات ودور علم وبحث وزراعة وصناعات متعددة ومطبخ ثري التكوين، وموسيقى وغناء واذن تستوعب هذه العذوبة في القول والاداء وتؤكد المراجع التاريخية أن نحو 200 صناعة عربية كانت في غرناطة عند اسقاطها على يد قشتالة، وهو ما كان فارقا في عالم القرون الوسطى التي اتسمت بالحلكة والظلامية والعبودية وطغيان النص المقدس على العقل الجمعي والمشهد السياسي، ومحاربة اي محاولة لعقلنة سلطة الاستبداد الكهنوتي المهيمن على اوروبا إذذاك.
لم يعرف العرب الحقيقة الصادمة أن بعض ارضهم وقومهم في الاندلس كانوا يذرعون طرق التقدم الحضاري بخطى واثقة بالقدرة على احداث تحولات عميقة تنقل الامة جميعها الى فضاءات جديدة من التقدم . كما لم يدركوا ان سقوط مملكة غرناطة العربية كان ايذانا بانهزام المشروع العربي الحضاري، ذلك ان هذه المملكة كانت ارضا ومجتمعا لصراعين : الاول ان غرناطة كانت مرشحة كما يبدو لانبثاق قوى اجتماعية اقتصادية تقود عملية تحويل الدولة ذاتها الدولة الراسمالية بكل شروطها، فيما الثاني كان خطيرا في ان الصراع ضد قشتالة اللاهوتية سيفضي الى خنق تلك المملكة وتجربتها المستندة الى ارث تطور العرب في الاندلس.
لذلك،كان اسقاط غرناطة والاجهاز عليها، لحظة نصر الاوتوقراطية الاوروبية التي لم تستطع بدورها ان تصمد طويلا امام تطور العلاقات الاقتصادية الداخلية وصراعاتها التي افضت بعد قرن ونصف القرن من سقوط غرناطة الى انبثاق الدولة الامة الاوروبية التي ما تزال تفرض على العالم هويتها ومفاهيمها.
كان حصار ضاحية البيازين في غرناطة الذي ضربته قشتالة بما هي رأس حربة سلطة اللاهوت الاووبي المغرق في تخلفه، معادلا موضوعيا في التاريخ لخذلان العرب في اماراتهم وممالكهم المتداعية في افريقيا والشرق العربي. اذ هما فعلان اديا الى الهدف ذاته: اسقاط لحظة الذروة في تقدم عربي كان يمكن ان يغير مجرى التاريخ رأسا على عقب. هذا ما فهمته دور العلم في اوروبا حين ادركت المغزى العميق للفهم الرشدي والخلدوني للتطور الاجتماعي، وكذا انبثاق اسس البحث العلمي التاريخي والاجتماعي والاقتصادي.اذ ليس عبثا أن قال عقل اوروبا بعد اسقاط غرناطة: ما إن لفظنا العرب ودحرناهم جنوبا ليعودوا الى نشأتهم الاولى، حتى بات المنهج الرشدي والخلدوني عندنا هو الموجه لعقل افضى الى البحث العلمي الذي رفضه العرب واجترحنا به اسطورتنا الغربية التي ما تزال تمسك بتلابيب العالم.
حصار البيازين في وحشيته ما يزال يرسم سياسة الغرب تجاه العرب، الذين لم يعوا بدورهم انهم ما زالوا يشاركون الغرب في دحر العقل العربي وتضييق الخناق عليه، لئلا يعود ابن خلدون وابن رشد الى موطنهما بمنهجيهما اللذين يقودان الى تحولات كبرى هم بأمس الحاجة اليها اليوم، وكل حين!

نيسان ـ نشر في 2021-11-11 الساعة 09:28


رأي: سليمان قبيلات كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً