اتصل بنا
 

التعديلات الدستورية المتداولة بين قواعد القانون والمراسيم السياسية

نيسان ـ نشر في 2022-01-11 الساعة 09:46

نيسان ـ قوبلت التعديلات الدستورية التي أقرها مجلس النواب التاسع عشر قبل أيام قليلة بموجة عارمة من النقد الشديد والرفض من قبل الغالبية العظمى من المجتمع الأردني، لاسيما في أوساط النخب والأحزاب وقوى سياسية ووطنية، من مشارب فكرية مختلفة ومن سياسيين مخضرمين وحقوقيين مرموقين، بحيث يمكن الجزم أن هناك ما يقارب الاجماع الشعبي الرافض لهذه التعديلات .
وانصبت أكثرية هذه الانتقادات والاعتراضات على التعديلين اللذين طالا كلاً من المادة السادسة من الدستور والمادة الجديدة المتعلقة بإنشاء هيئة دستورية جديدة بمسمى 'مجلس الأمن القومي' .
وبينما تركزت الانتقادات الموجهة الى التعديل المقترح المادة السادسة من الدستور بإضافة عبارة "الأردنيات" لهذه المادة على التبعات الديموغرافية التي ستطال الهويتين : الفلسطينية والأردنية معا مهددة كما يراها كثيرون بشكل جوهري وصارخ الحقوق الوطنية الفلسطينية في حال التزمت الحكومة بتفعيل هذا النص والتفسير الذي تتبناه الفاضلات الأردنيات المتزوجات من غير أردنيين بمنح ابنائهن الجنسية الأردنية الى جانب تبعاته الاجتماعية والثقافية لاسيما حصانة مفهوم الأسرة في الشريعة الاسلامية واستقرار الحياة الأسرية، وتبعات ذلك على قواعد الشرع ومجمل التشريعات المتعلقة بالأحوال الشخصية ناهيك عن التحذيرات التي عبر عنها معارضو هذه الإضافة من وجود أجندة سياسية ترعاها جهات خارجية أيضاً، مؤكدين انهم ليسوا ضد تمكين المرأة الاردنية وما يعزز حقوقها المدنية والسياسية .
بالمقابل تركزت انتقادات التعديل المقترح بإنشاء مجلس أمن قومي كهيئة دستورية على تبعاته السلبية الجوهرية على عدد من الأسس والمنطلقات التي يقوم عليها الدستور الأردني حالياً لا سيما المبادئ الديموقراطية والعلاقة بين السلطات الثلاث والتوازن بين قاعدتي الحكم في الأردن "النيابي والملكي"ومبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات.
وأجمعت هذه الانتقادات والاعتراضات ان التعديل الجديد في حال اجتيازه مراحل التشريع كاملة بحلته الحالية يعني تركيز السلطة والقرار الإستراتيجي والسياسي بيد الملك شخصياً وإن كان سيمارسه فعلياً من خلال هيئة دستورية جديدة أقرب ما تكون الى سلطة رابعة فوق السلطات الثلاث الاعتيادية يتولى هو منفرداً تعيين رئيسها وأعضائها، ما يعني اطلاق رصاصة الرحمة على مفهوم الملكية المقيدة، التي يقوم عليها النظام السياسي في البلاد وإلغاء المبدأ الذي ينص على ان نظام الحكم في الأردن " نيابي ملكي " من الناحية العملية . وكان هذا النظام يئن ويترنح أصلاً تحت وطأة السيطرة التامة للقطب الملكي على القطبالنيابي وفراغ مبدأ "ان الشعب هو مصدر السلطات" من مضمونة. وليس بمقدور أي مراقب محايد وموضوعي أن يجادل بمصداقية هذه الاعتراضات او ينكر جديتها او ينصح بتجاهلها والقفز عنها .غير ان الإشكالية في التعديل الخاص بإنشاء مجلس امن قومي لا يقتصر على تلك التحذيرات والمخاوف التي اطلقها الكثيرون معبرين بذلك عما يدور في أوساط المجتمع عموماً بشأن هذا التعديل الجديد . فهناك أمر آخر في غاية الأهمية والحساسية يتمثل بضعف السند الدستوري الذي يستند إليه هذا التعديل مما يجعل هذا التعديل والهيئة الجديدة في خانة الشبهة المستحكمة من حيث المشروعية والشرعية في آن واحد ،ويعود ذلك الى سبب جوهري في رايي وهو غياب الشرط اللازم لقوة الإلزام التي يجب ان يتصف بها النص القانوني عادة . فالقاعدة التشريعية الأساسية المتمثلة بأن" إرادة الجماعة" هي مصدر القوة الإلزامية لقواعد القانون والنصوص القانونية غائبة تماماً في حال هذا التشريع وغيره من القوانين التي سنها ويسنها مجلس النواب التاسع عشر.فهذا المجلس -- كما هي حال معظم المجالس النيابية السابقة --لم يأتي عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة حيث غاب عن عملية الإنتخاب التي اتت بهذا المجلس العتيد مراعاة المعايير والقواعد العالمية التي تحكم الانتخابات العامة في الدول ولو بالحد الأدنى، وبالتالي لايمكن الادعاء بأن هذا المجلس يمثل ارادة الجماعه وإن اي قول بذلك سيكون ادعاءاً فجاً تفضحه الحقائق التي يعرفها ويرددها ليس فقط المطّلعون والعارفون ببواطن الامور بل وحتى المواطن العادي . فالمجتمع الاردني يعي تماما ويدرك ويعرف ويشهد ايضا بان غالبية اعضاء هذا المجلس تحديدا قد وصلوا القبة من خلال انتخابات ادارتها ونفذتها واشرفت على سيرها من الفها الى يائيها اذرع السلطة التنفيذية واجهزة الدولة العميقة بداية بتحديد قوائم المرشحين في الدوائر وسير الحملات الانتخابية مرورا بتسهيل و/او التغاضي عن شراء الاصوات من قبل كثير من المرشحين بشكل شبه مفتوح وعلني وبعلم الجهات المعنية والمخالفات الجسيمة الاخرى بما في ذلك تشكيل قوائم المترشحين للدوائر الانتخابية في عموم انحاء المملكة، وبالتالي التأثير الجدي والفعال على نتائج الإنتخابات من قبل ارادة اخرى -- غير ارادة الناخب الاردني --حددت هي من فاز بالمقعد النيابي في معظم الدوائر الانتخابية في انتخابات المجلس النيابي التاسع عشر . والنتيجة الحتمية والمنطقية لهذا الخلل الجوهري في عملية انتخاب المجلس النيابي التاسع عشر ان السمة او الصفه التمثيلية للمجلس النيابي لارادة الجماعة سيصعب قبولها في اي عملية تقويم نزيهة للواقع البرلماني في الاردن ،ما يشي بأن هذه الصفة الجوهرية لهذا المجلس قد أصبحت منعدمة بسبب الخلل الجوهري الذي طال الإرادة الحرة للناخب الأردني في ايصال مثليه الى القبة ، وقد يستتبع ذلك ان الإرادة الحرة للنائب ذاته في حالات كثيرة ستصبح في دائرة الشك المشروع دون الطعن في مصداقية وحصانة السادة النواب واستقلاليتهم على الصعيد الشخصي ودون اغفال او انكار مشروعية التشاور والإقناع المتبادل في تحديد المواقف والتوجهات للنائب تحت القبة.يضاف الى ما سبق من خلل جسيم طال إرادة الناخب الأردني ان نسبة من وصلت أصواتهم الى الصناديق لم تبلغ 30% كن مجموع الهيئة الانتخابية حسب الأرقام الرسمية ، كما لا يمكن اغفال التغاضي من الجهات المسؤلة عن الانتهاكات الواسعة والشكاوى الفردية بشأن هذه الإنتهاكات والتي وثقت عدد كبير منها الهيئة المستقلة للإنتخاب . ومن يريد المزيد في هذا الشأن لا يحتاط ان يذهب بعيدا بل ينظر الى موقف الرأي العام ونظرة الجمهور ومستوى الثقة الشعبية في المجلس العتيد. ويفيد ايضا ما ما جاء على لسان معالي رئيس المجلس بشأن المجالس النيابية السابقة والتي لم يختلف هذا المجلس عنها من حيث درجة التزام العملية الانتخابية بمعايير النزاهة والشفافية و صون الارادة الحرة للناخب الاردني من الإجهاض على يد ارادة اخرى ،ولا يمكن نسيان او تناسى عبارة "الالو"ً ذائعة الصيت في تحديد المواقف والتي لاينكرها السادة النواب انفسهم في تحديد المواقف في المجالس النيابية الاردنية جميعها.ماذا يعني ما سبق بيانه؟أن النتيجة الوحيدة لما سلف ذكره ان مجلس النواب التاسع عشر يعاني من خلل جوهري في موضوع تمثيله للارادة الجماعية وان الادعاء بأنه يمكن ان يمثل هذه الإرادة الجماعية سيواجه عقبة كأداء تتمثل بالعجز الفاضح في مسألة الصفة او الصبغة التمثيلية لهذا المجلس ،.وإذا اسلمنا كما هو واضح ان المجلس النيابي صاحب التشريع موضوع البحث في المرحلة الأولى من عملية سن القوانين في الاردن لا يمثل إرادة الهيئة الانتخابية العامة في البلاد ما يعني حكماً انعدام صبغة تمثيله للشعب وبالتالي عدم توفر الإرادة الجماعية التي يجب ان تقف خلف أي تشريع ليمتلك صفة او قوة الإلزام .فما فسد أصله بطل اثره وبهُت فرعه.لذلك ستبقى الصفة الإلزامية للتشريع الصادر عن هذا المجلس النيابي معلقة وفي رسم البطلان وبالتالي غياب الشرعية والمشروعية من هذا التشريع ومن كان مثله من تشريعات اخرى.الجزء الثانيان أي تشريع جديد وبشكل خاص اذا كان من مستوى النص الدستوري لابد ان يحظى بدرجة من القبول على صعيد المجتمع اوالقاعدة المجتمعية التي يخاطبها ويقتضي ذلك قيام عملية تشاور وحوار بشأنه بين الحكومة والجمهور غير أن حكومة الدكتور بشر الخصاونة لم ترى ان مثل هذه الخطوة واجبة التنفيذ فقامت باستقبال توصيات اللجنة الملكية للإصلاح التي قوبلت بدورها بانتقادات واسعة ومعارضة قوية من سواء من حيث طريقة تشكيل هذه اللجنة وآلية عملها او ما تمخض عنها من توصيات لاسيما في مجال ما عرف بالهوية الجامعة وغيرها .وبدوره تجاهلت اللجنة القانونية في المجلس الموقر والمجلس كاملا مواقف وتوجهات الفئات التي تم التقائها من قبل اللجنة القانونية والتي عارض اغلبها التشريعات المقترحة الخلافية حسبما جاء على لسان أعضاء من المجلس ذاته.وعلى صعيد هام اخر لايجوز لأي تشريع مهما كانت مرتبته ان ينال من الحقوق والحريات الأساسية للأشخاص وإلا فإن مثل هذا التشريع يفقد في هذه الحالة صفة أو سمة الدستورية. فمن المتعارف عليه لدى الأمم والشعوب المتحضرة أن أي دستور يمس حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لايجوز ولا يمكن أن يحظى بسمة " دستور " لأن تعبير دستور ودستوري مرادف لما هو ديمقراطي وتمثيلي ( بمعنى ممثلا للشعب أو لارادة الجماعة التي ينظم شوؤنها وينطق باسمها ) وبهذه الصفة لايمكن للدستور الا ان يكون ضامناً وكافلاً لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.والتشريع المتعلق بإنشاء مجلس أمن وباتفاق اغلبية المحللين يهدد مبدأ ديمقراطيا راسخا وهو ان الشعب مصدر السلطات ويهدم أبرز ضمانات الحريات العامة لحقوق الإنسان . ولما كانت إرادة الشعب هي أعلى إرادة لهذه الدولة ولايجوز ولا يمكن أن تسمو عليها إرادة أخرى تحت أي مسمى ولأي اعتبار فإن أي تشريع يجحف أو يهدد هذه الإرادة الشعبية هو غير دستوري ولا يحظى بدعم الإرادة الجماعية وبالتالي منعدم المشروعية.الجزء الثالث:ان الدولة القانونية ( التي تحترم سيادة القانون من جانبها وعلى أراضيها ) لابد ان تمتثل للقاعدة التي تقتضي بخضوعها للقانون ويعني ذلك ان لا تخل تشريعاتها وقوانينها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها واحترامها متطلباً او شرطا او امراً مفروغا منه لقيام الدولة القانونية ، لكن التشريع الخاص بتشكيل المجلس القومي للأمن في الأردن ليس فقط يجحف ويلغي من الناحية الفعلية المبدأ القانوني الراسخ وهو أن الشعب مصدر السلطات بل يهدد ايضاً ضمانات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بإعتبار أنه ينال من مكانة ودور السلطة التشريعية مثلما يلغي مبدأ المساءلة والمحاسبة المتبادلة بين السلطات الثلاث، وأي تهديد لسيادة القانون أكثر من ذلك يحتاج الشعب ليرفع الصوت محتجا على هذا الوضع . ولما كانت اختصاصات هذا المجلس هي مسائل قانونية نازعاً عن الحكومة مفهوم الولاية العامة وعن السلطة التشريعية دور الرقابة والمساءلة والمحاسبة فإن منظومة "الضبط والتوازن" القائمة في اي نظام سياسي غير سلطوي وآلية الحماية القانونية التي هي أساسية لحماية حقوق الإنسان وضبط حسن أداء النظام السياسي لضمان سير العدالة ودوام الإلتزام بمتطلبات الدولة القانونية سوف تضمحل امام سطوة ونفوذ هذه الهيئة الدستورية الجديدة والتي من غير المفهوم اطلاقاً ان تسمى دستورية بينما يتم تشكيلها من قبل شخص واحد منفرداً . ان الوصف الوحيد في قاموس العلوم السياسية والقانون الذي يناسب هذا الوضع هو دسترة الفردية او السلطوية.هذه الحجة التي لا يمكنها ان يجد المرء وصفاً مناسباً لها سوى انها مخرجا معيبا لمن تؤرقهم افرازات الديمقراطية والتعددية السياسية فيما لو صدقت الوعود وجرى تطبيقها في الاردن . ويبدو ان هؤلاء بحاجة لهذا الوسم ولكن لما كانو يطيقونه كان لابد من افراقه من محتواه ليبقى شكلاً يعتدون به ربما في الخارج ولكن دون مضمون ،ولا ضير ان يُحرم من الشعب الاردني الذي هو الخاسر الوحيد في هذه اللعبة الدستورية .ان تركيز السلطة او الجمع بين القوة والصلاحيات اللامحدودة و غير الخاضعة للرقابة هي هدر للمشروعية وللشرعية معا بإعتبار أنها تمنح سلطات دستورية واسعة لأشخاص غير منتخبن من ناحية ولا يخضعون للمساءلة او الرقابة من السلطة التشريعية او سلطة الشعب من ناجية اخرى .لقد افادتنا تجارب الأمم الأخرى ان اهدار دولة القانون يعني بشكل اتوماتيكي اهدارا لمفهوم الحماية او الدفاع القانوني والذ هو عبارة عن ادوات او ميكانزمات اجتماعية تحول دون تمكنأفراد لديهم طموحات جامحة ولا يمكن التحكم بها من حكم المجتمع وهؤلا عادةً يجمعون بأيديهم القوة والقانون. ويرشدنا التاريخ السياسي للدول والأنظمة السياسية عموما ان اول نتائج الجمع بين القوة والصلاحيات هو تعطيل عمل اليات الضبط والتوازن في النظام السياسي وإهدار مفهوم "الحماية او الدفاع القانوني" اللذين يمنعان اجتماع السلطة الدينية والزمنية بيدا واحدة سواء كان فردا او جماعة ، ودون غلو او مغالاة اي سلطة او سيطرة مركز قوة منفرد او التعسف حتى من قبل اليات الديمقراطية وادواتها ذاتها ويمنعان تركيز الثروة بيد قلة من الأشخاص تماما كما يحولان دون تركيز السلطة او هيمنة المؤسسة الأمنية التي يجب أن تخضع للسلطة المدنية من حيث الإشراف والمساءلة.على ضوء ما سبق بيانه يثور السؤال الاتي : ما حاجة الاردن لمزيد من تركيز السلطة ونسخ او مسح اي من آثار لمفاهيم الحماية القانونية وقواعد وادوات الضبط والتوازن التي يوفرها الدستور الحالي في إطار الملكية المقيدة ونظام الحكم النيابي الملكي الوراثي على قاعدة ان الشعب هو مصدر السلطات ؟و ربما ايضا السؤال الاهم الاتي : ما هو التبرير لهذا التركيز للسلطة واجهاض النظام الدستوري الوطني حيث لا يتورع المدافعين وهم قلة عن هذه البدعة الدستورية من تقديمها كوصفة للاحتراز من افرازات صندوق الانتخاب وتدشين الحكومات البرلمانية الموعودة .ان نزع سلطة الشعب في سياق الوعد بحكومة وبرلمان بدون انياب اي تدشين ديمقراطية بمضمون سلطوي هي بدعة جديدة ستدخل القاموس السياسي كابداع واختراع أردني بامتياز . ما فائدة الديمقراطية والتعددية والحكومة البرلمانية اذا اردزا ان نضع حول عنقها رباط السلطوية. هل هي الديمقراطية الافتراضية!لا ادري كيف يمكن لأصحاب هذا النهج ان ينظروا الى الشعب الاردني في الوجه ويقابلوا اعينهم باعين بنات وابناء الاردن ويقولون نريد ان ان نضع القيد حول ايديكم اولا لنطلق لكم السبيل من بعد لتصنعوا مستقبلا مشرقا يليق بكم وبوطنكم وانتم في القيد!الله...اللهأن الشعب الاردني بإمكانه وسندا للاعتبارات الموضوعية التي وردت آنفاً ان يعتبر نفسه حراً في قبول هذا التشريع والانصياع له او رفضه باعتبار ان مصدر الزاميته منعدم اصلا .المفوض السابق لحقوق الانسان

نيسان ـ نشر في 2022-01-11 الساعة 09:46


رأي: د. موسى بريزات

الكلمات الأكثر بحثاً