تعليقُ الصُّوَر

نيسان ـ من الظواهر المرضية اللافتة عند (المثقفين) العرب، ومن لفّ لفيفهم، أو يدور في فلكهم، أو يسعى لأن يكون في حسبتهم وحظائرهم، ظاهرة (تعليق الصور).
تدخل مقهى (ربحياً)، أو دار نشر، أو بيت ثقافة وفن، أو ردهة صالة عرض، فإذا بغابة من الصور تمطر، بلا استئذان، ذائقة التلقي البصرية لديك، تحتل مساحة عينيك، مُنتقلةً، دون هوادة، إلى مساحة عقلك ووجدانك وفرص تأمّلك: لمن هذه الصور؟ ما هو الجامع المشترك الأعظم بينها؟ من اختارها؟ كيف جرى اختيارها؟ ولأن جواب السؤال الأول يحضر فوراً، كون ملاحظة أنها صور لشعراء وروائيين وأدباء وفنانين ومؤرّخين وسياسيين وباحثين عرب، لا تحتاج عند (ابن الكار) لكثير جهد؛ هو يلتقط ذلك منذ النظرة الأولى، التي من المفترض أنها، في الحالات السوية الخالية من العُقد والزيف والأمراض المزمنة، الطريق، بعد الإعجابِ والابتسامةِ والإيجاب، إلى الحُّب.
الطامّة الكبرى أن الراغب بتوثيق سياق منطقيٍّ ممكن لآليات اختيارها، سيدوخ السبع دوخات دون أن يتسنّى له ذلك، ولا بأيِّ شكلٍ من الأشكال. يبدأ الأمر ببحث هذا الراصد المنتبه عن صورته بين هذه الصور، وعندما لا يجدها، يقول لنفسه لعلّهم اختاروا الشعراء فقط، ولم يختاروا النثريين أمثالي، فإذا بطريقة اختيارها تقوم على فلسفة (سمك.. لبن.. تمر هندي). شاعرٌ لصقه قاص وغير بعيد عنهما مغن. إمعاناً في حسن النوايا، يقول لنفسه: لعلهم اختاروا أبناء جيل الرواد، ليفاجأ بوجود صورة طه حسين تحت صورة (أبو فشخة ونُص كتاب)، وصورة محمود درويش بعد صورة (المتشاعر الشاب)، وعلى رأي المثل (العين لا تعلو على الحاجب) و(المعرفة حجاب)!!!
يصر على حسن النوايا، وعلى نقاء دوافع من وضع هذه الصور، فيقول لنفسه إنها، لا بدّ، معلّقة بحسب الترتيب الهجائي الأبجدي، فإذا بها لا هي مرتبة لا هجائياً، ولا أبجدياً، ولا بحسب تراتبية أي لغة من لغات العالم الحيّ ولا المنقرض! لا يستسلم لحقيقة سوء الطوية وخبث الدافعية التي جعلت من علّقها يعلّقها بناء عليها، فيقول لنفسه إنها مسألة لها علاقة بتراتبية قُطرية؛ فالأردنيون في جهة، ثم المصريون في جهة، وهناك في تلك الزاوية وُضِعَ العراقيون، ليظفر بالخيبة مرّة أخرى، فلا قُطرية، والجماعة لديهم حسٌّ قوميٌّ مُنير! يا لخيبته، فمن بين الصور عدد لا بأس به لروائيين وشعراء وفنانين أجانب من قارّات العالم جميعها، حتى (المقبورة) مارلين مونرو تزهو بصورتها المكنوزة بمختلف أسباب الحياة، بعيداً عن أي فكرة حول الانتحار.
بقي لديه تبرير أخير قبل أن يمزّق كلّ الرايات البيضاء: لعل من شروط تعليقهم صورة ما، أن يكون صاحبها قد أصدر خمسة كتب على الأقل؟! محاولة يائسة، فهو منذ النظرة الأولى (ما غيرها)، لاحظ وجود صور لمدّعي ثقافة وإبداع لم يبيضوا، بعد، ولا بيضة. يا لحسرته، وحيرته، إذاً: على أي أساس علّقوها؟
لا على أساس النوع الإبداعيّ ولا على أساس الجودة الإبداعية. لا هي للمطبعين فقط، ولا هي لأعداء التطبيع فقط. لا هي للمزمّرين للمقاومة على طريقة إيران، ولا هي لأبناء المعسكر المعادي لإيران. لا هي للعرب فقط ولا للأجانب فقط. لا هي للكبار، ولا هي للصغار. لا بالأبيض والأسود ولا بأي لون، أو طعم، أو رائحة، سوى رائحة الخبث والأذى والعفن المقيم.
قرر أن لا يمزّق راياته البيضاء، بل يحوّلها إلى كفن كبير يسع هذه الأمّة المفترض أنها "خير أمّة أخرجت للناس"، لأنها تتقن الكراهية والعِداء، أكثر من إتقانها أيَّ فاعليةٍ إنسانيةٍ أُخرى، ولأنها تملك براءة شحن بطاريات البغض واللؤم والشر، كلما كادت واحدة منها تضعف، أو يفتر ضجيجها ويأفل زمانها!!!
يحتاج (مثقفو) أمّتنا إلى مقبرةٍ كُبرى.. يحتاجون إلى قِيامةٍ كُبرى.
قبل أن أضع القلم، بقي لديّ سؤال ملحّ: هل يا ترى لو كانت صورتي بين صور الغابة المتوحّشة تلك، هل كنتُ سأكتب هذا المقال؟؟؟