الأردنيون وضرورة تأطير 'نظرية الدولة'
د. محمد أبو رمان
باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومتخصص في شؤون الفكر الإسلامي
نيسان ـ نشر في 2022-03-29 الساعة 07:11
نيسان ـ على الرغم من الحراك الرسمي الأردني الملحوظ منذ نحو عام، على أكثر من صعيد، سواء لجْنة تحديث المنظومة السياسية أو حتى الورشة الاقتصادية (انطلقت أعمالها قبل أسابيع قليلة في عمّان)، فإنّ هنالك تساؤلات وشكوكاً مطروحة بقوة لدى نسبة كبيرة من الأردنيين بشأن المستقبل، مع ارتفاع واضح تظهره استطلاعات الرأي للمتشائمين من المستقبل (من يرون أنّنا نسير في الاتجاه الخاطئ)!
من المفترض، مثلاً، أنّ هنالك اليوم خريطة طريق واضحة للمشهد السياسي الأردني للعشرة أعوام المقبلة، من خلال مخرجات اللجْنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، التي رسمت التعديلات الدستورية وأقرّها مجلس الأمة (البرلمان)، ثم قانوني الأحزاب الذي جرى إقراره، والانتخاب في طريقه إلى إقرار مجلس النواب، ما سينتهي، وفقاً للخطة المقرّرة خلال عشرة أعوام، بحكومات حزبية تستند إلى أغلبية برلمانية. مع ذلك، لم ينته النقاش، فلماذا هذه الحيرة الشعبية التي أصبح يُصطلح عليها في أدبيات سياسية وإعلامية عديدة بحالة عدم اليقين؟
يتمثل التفسير السريع المباشر لهذه الشكوك في فجوة انعدام الثقة المزمن بين الحكومات والشارع، وهو جزئياً صحيح، لكنّه لا يمثل سوى رأس جبل الجليد، فاستطلاعات الرأي التي يصدرها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية تظهر كذلك أنّ منسوب الثقة الاجتماعية بين المواطنين بعضهم ببعض يتعرّض لهزّةٍ كبيرة وانخفاضٍ شديد، وهي حالةٌ يمكن أن يقال إنّها عابرة للدول والمجتمعات العربية اليوم، بنسب مختلفة. وربما دلّ على ذلك أنّ تقريراً مسحياً مهماً لمؤسسة "فريدريش أيبرت" (قبل أعوام قليلة) للشباب العربي في دول عديدة عُنون بعدم اليقين (Uncertainty)، فمن الواضح أنّ هنالك حالة اهتزاز واختلال كبيرة وفقدان توازن في أغلب الدول والمجتمعات العربية اليوم، ومنها الأردن، بطبيعة الحال.
أدوار للمثقفين والأكاديميين والتربويين والعلماء لا تقل أهميةً عن أدوار السياسيين في المرحلة الراهنة
عوامل عديدة تقف وراء هذه الحالة، بخاصة منذ الربيع العربي، تتمثّل في فشل مشروعات التنمية الاقتصادية والانسداد السياسي، بخاصة بعد الربيع العربي والفشل في إحداث تغييراتٍ جوهريةٍ في المعادلات السياسية، تنقل الدول نحو مساراتٍ ديمقراطية واضحة. بدلاً من ذلك، نجد أن أغلبية الدول العربية غرقت في أزماتٍ داخلية بنيوية، أخذت في بعض الدول مسار الحروب الداخلية والصراعات العنيفة، وفي دول أخرى، طابع الأزمات السياسية والاقتصادية، فضلاً عن شعور نسبة كبيرة من جيل الشباب العربي (في مجتمعات فتية يشكل ما دون الـ30 عاماً في أغلبها الأغلبية الكبرى).
تطرح الأزمات السابقة تساؤلات كبيرة بشأن جدل العلاقة بين الدولة والمجتمع والأفراد، سؤال الحقوق والواجبات والمسؤوليات أو المواطنة، السلطة الأخلاقية والقيمية في الدولة والمجتمع، وهي أسئلة ترتبط، في جزء منها، بالأزمات السياسية، لكنها في الجزء الآخر تدخل في صميم السؤال الثقافي والبناء الاجتماعي الأخلاقي، فما قام به العالم السيبراني أنّه أعاد طرح جملة كبيرة من الأسئلة، وهزّ البناءات التقليدية في الصميم، سواء كنا نتحدّث عن النظم السياسية والمجال العام أو حتى النظم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ما يعني أنّ هنالك أدوارا للمثقفين والأكاديميين والتربويين والعلماء لا تقل أهميةً عن أدوار السياسيين في المرحلة الراهنة. لكن أغلب هذه الأدوار تكاد تكون مفقودة، للأسف، ما يعزّز حالة الشعور بالفوضى والقلق وغياب الإطار المرجعي الموجّه إلى المجتمعات العربية والأجيال الصاعدة للتعامل مع حجم التغيرات والتحولات الكبير والهائل.
الهواجس والشكوك أقوى وأكثر صلابة من المشتركات والمصالح الجمعية والخير المشترك
بالعودة إلى الحالة الأردنية وإسقاط جميع ما سبق عليها، يمكن إضافة أزمة أخرى واضحة للعيان، ازدادت خطورتها وضراوتها في الأعوام الأخيرة، وتشكّلت عبر حوارات ونقاشات بشأن مفهوم الهوية الوطنية، لكنه سؤال أعمق من ذلك، يصل إلى ما يمكن أن تُطلق عليه "نظرية الدولة" في الأردن (the Theory of the State)، فالخطط السياسية والاقتصادية ستبقى تسبح في الفضاء بدون أعمدة قوية ومرتكزات حقيقية، إذا لم تستند إلى تصوّراتٍ واضحةٍ معمّقة وتفاهمات مجتمعية وسياسية وثقافية بشأن ماهية الدولة والعلاقة بينها وبين المجتمع، والعلاقة بين الفرد والدولة، وقيم الدولة الرئيسية، والقيم الوطنية والأخلاقية العليا، وتعيد تصميم الأهداف العامة التي تجمع المواطنين والأولويات والتحدّيات الجوهرية، وترسم الرواية الكبرى للدولة والمجتمع، وهي روايةٌ قد تكون واضحةً في دولٍ عربيةٍ كثيرة، إلا أنّها أردنياً تعاني من فقر دم كبير، ما يعكس ضعفاً واضحاً في فلسفة التاريخ الأردني، في مؤسسات التنشئة السياسية والمجتمعية، في المناهج والمدارس والجامعات، وقبل ذلك على صعيد الأوساط الثقافية والأكاديمية ذاتها.
من الأردنيين شريحة عريضة ترى الأردن كياناً وظيفياً فقط، وشريحة أخرى تنظر إلى الهوية الوطنية من منظور القلق والخوف، ويتخوّف آخرون من أي أسئلة تطرح بشأن المستقبل، وهكذا نجد أنّ البنية الثقافية التحتية التي يُفترض أن تكون صلبة وقوية تعاني من هشاشة كبيرة، ما يجعل الهواجس والشكوك أقوى وأكثر صلابة من المشتركات والمصالح الجمعية والخير المشترك.
بالضرورة، من الطبيعي أن يختلف الناس، أحزاباً وقوى سياسية ومثقفين، بشأن خيارات فكرية وأيديولوجية وسياسية وبرامج اقتصادية كثيرة، لكن، من الضروري أن يكون ذلك في إطارٍ عام يجمع عليه الكل، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه "نظرية الدولة" في الأردن. العربي الجديد
من المفترض، مثلاً، أنّ هنالك اليوم خريطة طريق واضحة للمشهد السياسي الأردني للعشرة أعوام المقبلة، من خلال مخرجات اللجْنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، التي رسمت التعديلات الدستورية وأقرّها مجلس الأمة (البرلمان)، ثم قانوني الأحزاب الذي جرى إقراره، والانتخاب في طريقه إلى إقرار مجلس النواب، ما سينتهي، وفقاً للخطة المقرّرة خلال عشرة أعوام، بحكومات حزبية تستند إلى أغلبية برلمانية. مع ذلك، لم ينته النقاش، فلماذا هذه الحيرة الشعبية التي أصبح يُصطلح عليها في أدبيات سياسية وإعلامية عديدة بحالة عدم اليقين؟
يتمثل التفسير السريع المباشر لهذه الشكوك في فجوة انعدام الثقة المزمن بين الحكومات والشارع، وهو جزئياً صحيح، لكنّه لا يمثل سوى رأس جبل الجليد، فاستطلاعات الرأي التي يصدرها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية تظهر كذلك أنّ منسوب الثقة الاجتماعية بين المواطنين بعضهم ببعض يتعرّض لهزّةٍ كبيرة وانخفاضٍ شديد، وهي حالةٌ يمكن أن يقال إنّها عابرة للدول والمجتمعات العربية اليوم، بنسب مختلفة. وربما دلّ على ذلك أنّ تقريراً مسحياً مهماً لمؤسسة "فريدريش أيبرت" (قبل أعوام قليلة) للشباب العربي في دول عديدة عُنون بعدم اليقين (Uncertainty)، فمن الواضح أنّ هنالك حالة اهتزاز واختلال كبيرة وفقدان توازن في أغلب الدول والمجتمعات العربية اليوم، ومنها الأردن، بطبيعة الحال.
أدوار للمثقفين والأكاديميين والتربويين والعلماء لا تقل أهميةً عن أدوار السياسيين في المرحلة الراهنة
عوامل عديدة تقف وراء هذه الحالة، بخاصة منذ الربيع العربي، تتمثّل في فشل مشروعات التنمية الاقتصادية والانسداد السياسي، بخاصة بعد الربيع العربي والفشل في إحداث تغييراتٍ جوهريةٍ في المعادلات السياسية، تنقل الدول نحو مساراتٍ ديمقراطية واضحة. بدلاً من ذلك، نجد أن أغلبية الدول العربية غرقت في أزماتٍ داخلية بنيوية، أخذت في بعض الدول مسار الحروب الداخلية والصراعات العنيفة، وفي دول أخرى، طابع الأزمات السياسية والاقتصادية، فضلاً عن شعور نسبة كبيرة من جيل الشباب العربي (في مجتمعات فتية يشكل ما دون الـ30 عاماً في أغلبها الأغلبية الكبرى).
تطرح الأزمات السابقة تساؤلات كبيرة بشأن جدل العلاقة بين الدولة والمجتمع والأفراد، سؤال الحقوق والواجبات والمسؤوليات أو المواطنة، السلطة الأخلاقية والقيمية في الدولة والمجتمع، وهي أسئلة ترتبط، في جزء منها، بالأزمات السياسية، لكنها في الجزء الآخر تدخل في صميم السؤال الثقافي والبناء الاجتماعي الأخلاقي، فما قام به العالم السيبراني أنّه أعاد طرح جملة كبيرة من الأسئلة، وهزّ البناءات التقليدية في الصميم، سواء كنا نتحدّث عن النظم السياسية والمجال العام أو حتى النظم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ما يعني أنّ هنالك أدوارا للمثقفين والأكاديميين والتربويين والعلماء لا تقل أهميةً عن أدوار السياسيين في المرحلة الراهنة. لكن أغلب هذه الأدوار تكاد تكون مفقودة، للأسف، ما يعزّز حالة الشعور بالفوضى والقلق وغياب الإطار المرجعي الموجّه إلى المجتمعات العربية والأجيال الصاعدة للتعامل مع حجم التغيرات والتحولات الكبير والهائل.
الهواجس والشكوك أقوى وأكثر صلابة من المشتركات والمصالح الجمعية والخير المشترك
بالعودة إلى الحالة الأردنية وإسقاط جميع ما سبق عليها، يمكن إضافة أزمة أخرى واضحة للعيان، ازدادت خطورتها وضراوتها في الأعوام الأخيرة، وتشكّلت عبر حوارات ونقاشات بشأن مفهوم الهوية الوطنية، لكنه سؤال أعمق من ذلك، يصل إلى ما يمكن أن تُطلق عليه "نظرية الدولة" في الأردن (the Theory of the State)، فالخطط السياسية والاقتصادية ستبقى تسبح في الفضاء بدون أعمدة قوية ومرتكزات حقيقية، إذا لم تستند إلى تصوّراتٍ واضحةٍ معمّقة وتفاهمات مجتمعية وسياسية وثقافية بشأن ماهية الدولة والعلاقة بينها وبين المجتمع، والعلاقة بين الفرد والدولة، وقيم الدولة الرئيسية، والقيم الوطنية والأخلاقية العليا، وتعيد تصميم الأهداف العامة التي تجمع المواطنين والأولويات والتحدّيات الجوهرية، وترسم الرواية الكبرى للدولة والمجتمع، وهي روايةٌ قد تكون واضحةً في دولٍ عربيةٍ كثيرة، إلا أنّها أردنياً تعاني من فقر دم كبير، ما يعكس ضعفاً واضحاً في فلسفة التاريخ الأردني، في مؤسسات التنشئة السياسية والمجتمعية، في المناهج والمدارس والجامعات، وقبل ذلك على صعيد الأوساط الثقافية والأكاديمية ذاتها.
من الأردنيين شريحة عريضة ترى الأردن كياناً وظيفياً فقط، وشريحة أخرى تنظر إلى الهوية الوطنية من منظور القلق والخوف، ويتخوّف آخرون من أي أسئلة تطرح بشأن المستقبل، وهكذا نجد أنّ البنية الثقافية التحتية التي يُفترض أن تكون صلبة وقوية تعاني من هشاشة كبيرة، ما يجعل الهواجس والشكوك أقوى وأكثر صلابة من المشتركات والمصالح الجمعية والخير المشترك.
بالضرورة، من الطبيعي أن يختلف الناس، أحزاباً وقوى سياسية ومثقفين، بشأن خيارات فكرية وأيديولوجية وسياسية وبرامج اقتصادية كثيرة، لكن، من الضروري أن يكون ذلك في إطارٍ عام يجمع عليه الكل، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه "نظرية الدولة" في الأردن. العربي الجديد
نيسان ـ نشر في 2022-03-29 الساعة 07:11
رأي: د. محمد أبو رمان باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومتخصص في شؤون الفكر الإسلامي