اتصل بنا
 

كفنوني بزهر الياسمين بدلاً من نسيج الكتّان

نيسان ـ نشر في 2022-05-07 الساعة 15:08

نيسان ـ بعد منتصف الوجع، وتحت الظلام المسكون بالأنوار، كانت تفوح من المصابيح رائحة الغربة، لولا أنه بيت الله للطائفين، والرّكع السجود، وكأنني كنت على موعد معها يلهج لسانها بذكر الله، وهي تطوف بالبيت العتيق، وجهها مثل بياض الياسمين، مصبوغ بحمرة الحياة، إلا أن دموعها غطت الورد الجوري من خديها، مطرا متدفقا بليل الغرباء مشتعلا بالصمت، معلنا ثورته على كل من اغتصب ابنتها وقتلها وصلب جسدها الشفاف مثل المرايا، على أشجار الياسمين، فصرخت بأعلى صوتها، وسكين الذبح على رقبتها كفنوني بزهر الياسمين بدلا من نسيج الكتّان.
وهي تسرد قصة ابنتها في صحن الحرم الشريف كان قلبي معها، لكن روحي كانت محلقة في ملكوت الله تطلب الرحمة لشهداء الوطن، والخلاص من مجازر التاريخ، كانت عيناي معلقة أمام باب الملتزم، أناجي الله مكلومة من جرحٍ، شوه معالم زهر الياسمين، حين كانت المسافة بين قلبي وباب الملتزم لا تتعدى بضع أمتار، سرحت مع الخالق أتذلل بأعتابه وأسأله الخلاص من سفك الدماء مثلما قال ابن القيّم في "مدارج السالكين" "أسألك بعزك وذلي إلاّ رحمتني، ورحمة أهلي، وأسألك بقوتك وضعفي، يا سيدي ليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك يا الله دعاء الخائف الضرير، أن تنقذ وطني وتأخذه إلى الخلاص".
لم أكن أدري أنها كانت تسير بركبي، وتسمع مناجاتي، عندما فرغت من الدعاء كان وجهها غارقا بالدموع، وكانت المسافة بين وبينها وسادة من وجع، نغرز عليها آلامنا، وبيننا وبين الوطن قارة من حزن عميق.
رافقتني بين الصفا والمروة لنكمل شعائر الله عز وجل، فُجعتُ عندما رأيت وسادة الوجع ممتلئة بالدموع، وأنا أبتهل إلى الله حين أسلمته مقاليد روحي، وتبعثر الجسد مني حين مررت بطريق هاجر، سلام الله عليها زوجة أبينا ابراهيم، تبحث عن شربة ماء لولدها، كنت أبحث عن شربة خلاص للوطن كي يولد من جديد، رغم المخاض العسير، فابتهلت إليه كما فعلت "رب اغفر وارحم، واعفو وتكرّم، وتجاوز عما تعلم إنك تعلم ما لا نعلم، إنك انت الله الأعز الأكرم" هو وحده يعلم متى الخلاص لوطن الياسمين.
وما إن انتهى السعي حتى انكمشت سيدة الياسمين، في نهاية المروة وانطبق جسدها حتى غرق منديلها وفاح منه عبق الياسمين.
قلت: مهلا فالله عز وجل يعلم ما لا نعلم هوني عليك وارفعي يديك بالدعاء عله يشفي قلبك.
قالت: مازال صوتها يرن في أذني وهي تنادي أنقذوني من يد السجان، ارحموني فأنا ياسمينة قلبكم، وروح حياتكم.
شربتِ الصبرُ علقمًا، وجفَّ حلقُها من نحيبٍ، وبقايا جسدها عظام مكسرة بغياب ابنتها، وصدرها يعلو ويهبط من تأوهٍ وتنهدٍ، وأنا أرسم بأصابعي على وجهها رمز المحبة، ووشم السكينة في بيت الله عز وجل.
قالت: خطفوها بليل بهيم، حين شبكوا جدائلها المضفورة على أصابعهم، وجروا جسدها الغض، يتقلب على أرض ارتوت من دماء الشهداء، وعيناها الخضراوان مازالت تضيء ليلي الحالك، حين ترتسم على مرايا قلبي المقسوم بسكين الذبح، والموجوع بصوتها، وهي تردد كفنوني بزهر الياسمين، بدلاً من نسيج الكتان.
قلت: رأيتِ صورتها داخلك، أبحرت في عينيها، وانتفض الضوء منهما.
قالت: لم يتركوا لي الخيار، صلبوها، وغرزوا حقدهم في أيديها، ودقوا مسمار الصلب على جبينها، بين موتها معي، أو موتها بدوني، فاخترت أن أرمي بذاك الزمن المر الذي تكالبت فيه الأمم، ليصبوا جام غدرهم الأسود على أرواحنا، وفررتُ أركض مع طفلين، خوفا من مناقير طيور جارحة تسحبهم بلمح البرق.
رفعتُ يديّ إلى الله أطلب، أليس هو قريب يجيب دعوت الداعي، فنظرتْ في مرآة عينيّ، علّها تجد صورة ابنتها مرسومة، لكنها شهقت مرددة القصفُ هدأ، والمجزرةُ انتهت، ومناقير الطيور الجارحة مسحت المكان، ولم يبق إلا أطلالاً، تفوح منها رائحة البارود، فخرجنا من جحورنا نفتّش عن أرواحنا التي خطفها الموت، ونشب أظافره في أجسادنا، وما تبقى منها مصبوغ بدخان حرب قذرة لا تفي ولا تذر.
قلت: ألا يكفي يا سيدة الياسمين؟
قالت: لو عشت عمرا آخر مقابلا لعمري، سيظل دم ابنتي وشما على جبين الإنسانية، وسأظل أصرخ بوجه ذئاب الليل المرتدين السواد، كفوا أياديكم عن أوطاننا، ولملموا حقدكم الأسود، وطائفيتكم الزرقاء، ومذهبكم الذي تمجّدونه، وتوحشكم، وارحلوا من ديارنا، من أوطاننا، من أرواحنا فلم نعد نحتمل جرائمكم السوداء.
قلت: لكن مازالت الحرب تدور حامية الوطيس، وصوت الرصاص شق ضوء أرواحنا، وتدلت منه أذيال الخيبة، وراجمات حقدهم أعلنت علينا الموت الزؤام، بعد أن أصبحنا أرقاما في حساباتهم البنكية، يسجلوننا في دفتر الشيكات ليقبضوا ثمن لجوئنا تحت الخيام العفنة، المبللة من جميدِ أو صقيع.
قالت: إني أشمُّ رائحة عفنة تنذر بحرب مثل داحس والغبراء.
قلت: مع أن ذاكرتي اللعينة تأخذني لمدن النسيان قبل عقود ونيف بدأت حربٌ، وانتهت أدراج الرياح، وستنتهي تلك الحرب، شاء من شاء، وأبى من أبى، رغم أنف هامان وفرعون وكل الصحاب، لأنني أشتّمُ ريحا قادما من صفصاف الوطن، وأرى كزرقاء اليمامة ما زال في الطريق ذئاب، لكن وطني سيكون بخير، وعندما أموت كفنوني بزهر الياسمين بدلا من نسيج الكتّان.

نيسان ـ نشر في 2022-05-07 الساعة 15:08


رأي: آمنة بدرالدين الحلبي

الكلمات الأكثر بحثاً