اتصل بنا
 

مقاعد خلفيّة

أكاديمي أردني

نيسان ـ نشر في 2022-05-15 الساعة 12:07

نيسان ـ في قريةٍ تنامُ على أكتاف تلٍّ بعيدٍ يسكن عوض، أمام بيته مساحاتٌ مترامية الأطراف، وأوديةٌ ترابية كثيرة تتعانقُ في فصلِ الشتاءِ لتصبَّ في سدٍّ كبيرٍ حيث مجمعُ الماء. هذه الطبيعة المفتوحة خلعتْ على عوض قدرةً فائقةً على الصفاء الذهني، والحفظ والتّركيز؛ استطاع أن يحفظ جدولَ الضربِ كاملاً وهو في الثامنة من عمره، وأتبع ذلك حفظ تسعة أجزاء من القرآن الكريم، وقد دفعه اهتمام والده بالأدب واحتفاظه ببعض الكتب في مكتبة صغيرة في زاوية البيت إلى حفظ معلّقتي امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى، إضافة إلى بعض أبياتٍ متناثرةٍ في الحكمة والغزل والمدح والهجاء والرثاء.
لم يستطع والد عوض أن يتمّ دراستَه للبكالوريوس في مصرَ نظراً لعدم وجود معيلٍ للأسرة بعد وفاة والده، فانقطعت به السبل، ولم يجد معينا له على إتمام ما تبقّى له من سنوات الدّراسة، فحزم أمتعته ولملم أوراقه وكُتُبَه وقَفَلَ راجعا إلى قريته الوادعةِ بعد أن قضى سنتين في دراسة اللغة العربية، عاد ليرعى قطيع والده في تلك السهول الممتدة وصولا إلى الجبال البعيدة، في كل يومٍ يسرّح القطيعَ، وعندما يتوارى عن النّاس خلف التلال البعيدة يستحضر ما علق بذهنه من القصائد التي حفظها أثناء الدراسةِ، فيلقي بصوته الأجشّ على قطيعه للأعشى :
ودّع هريرة إنّ الركب مرتحلٌ وهل تطيق وداعا أيّها الرّجلُ
فيتذكر حبيبته التي تركها في مصر ولم يقوَ على توديعها فيبكي بصوتٍ خفيض، ثم يتابع:
كأنّ مشيتها من بيت جارتها مرّ السّحاب لا ريثٌ ولا عجلُ
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ولا تراها لسرّ الجار تختتلُ
يكاد يصرعها، لولا تشدّدها، إذ تقوم إلى جاراتها الكسلُ
قالت هريرة لما جئتُ زائرها: ويلي عليك، وويلي منك يا رجلُ
لا يكاد يسمعه سوى القطيع الذي أخذ يقترب منه وكأنّه يدعوه إلى اقتسام الوجع معه، بيد أنّه لا يرتضي لنفسه هذا الضّعف الذي أغرى به، فينتشل نفسه من أتون هذا الوجع بأنفة ابن كلثوم، فيفاخر شويهاته في العراء:
وأنّا المانعون لما أردنا وأنّا النّازلون بحيث شينا
ونشرب إنْ وردنا الماء صفواً ويشرب غيرُنا كدراً وطينا.
يلقي بجسده على الأرض بعدما أخذ منه التذكّر مأخذه، وينظر إلى السماء بعينين مغرورقتين بالدموع والحزن يأكل منسأة القلب.
يرى أبو عوض في ابنه الصّغير امتدادا لحلمه الذي ضاع على بوابة الحياة، يرى فيه الأماني التي أُجهضت مبكرا قبل تمامها وقد حالت الأيام دون تحقيقها، يرى في عوض جبراً لكسره، لذا فقد أخذ يروّيه كلَّ نافع ومفيد، فهو الفرصة الأخيرة ليصل به رحم الأماني المعلقة.
ببزته الصفراء الطويلة يجلس عوض في المقعد الأوّل، يقيّد كل ما يمليه عليه الأساتذة، ويدوّن كل شاردة وواردة، من والده تعلّم أن العلم صيدٌ والكتابة قيد، جاء إلى المدرسة وهو يعرف ماذا يريد، وقلّة هم الذين يعرفون ما يريدون في هذه الأيام.
طولُ عوض وجلوسه في المقعد الأمامي يسبب مشكلة لزملائه، يكاد يحجب رؤية الأستاذ واللوح، يكاد يختصر أربعين طالبا في طالب واحد ويستأثر بالحصة، هكذا قال ابن الأستاذ الذي يجلس خلف عوض، حتى الأساتذة يلفتهم شدة انتباهه واهتمامه فترى عيونَهم معلّقة فيه وجلّ كلامهم موجّهاً إليه.
لا شيء يبقى على حاله، مدنٌ تتغيّر ملامحها بطرفة عينٍ فتراها التفتت إلى الخلف قرونا طويلة، فما بالكم بفتى قادمٍ من قرية نائية جاء يحمل أحلاما كبيرة على أكتافٍ صغيرة، إنّ الحياة أصعبُ ما تكون عندما تظن أنّها سهلة.
هذا الوضع لم يرُق لمربي الصّف الذي آثر أن يُجلس عوض في المقاعد الخلفيّة بينما يُتاح المقعد الأمامي لبعض الطلبة لما في ذلك من مصلحة للجميع بزعمه.
الإنسان يألف المكان حتى يصبح جزءا منه، لا يكاد يغادره إلا بشق الأنفس ثم لا يلبث أن يشتاقه، ففيه كثيرٌ من الذكريات والألفة والراحة والعادة، فيه سَفَكَ كثيرا من الوقت، وليس سهلا على المرء أن يستسلم لخيار الانتقال إلى مكان آخر، إلى مكان منزوع الذّكريات ليبدأ من جديد، ليس سهلا أن يَنْبَتَّ المرءُ عن جذوره.
أخذ عوض يقاوم هذا القرارَ بالاحتجاج أمام التلاميذ والأساتذة والإدارة، ولكن الكل أدار ظهره له، ولم يولوه كبير اهتمام. أمام هذا الحال وبعد مضي أيام أخذ عوض يرضخ ويستسلم لما آل إليه الحال مع شعوره بعدم الرضا. هي الأمور تأتي دائما على فترات، ومن رضي اليوم بالقليل سيرضى غداً بالكثير.
يجلس جوار عوض فتى قصير القامة مليء الوجه مكتنز الجسد، يظل طوال الحصة نائما سوى من بعض الحصص المخصصة للرياضة والفن؛ فإنه يُظهر موهبة كبيرة في دفع الأولاد إلى الأرض، وضربهم كيفما اتّفق، وسرقة رسوماتهم وأقلام التلوين خاصّتهم، يضعها في حقيبة صديقه الذي لا يشك به أحدٌ ولا يخضع للتفتيش، ليصار إلى أخذها منه بُعيد انتهاء الدوام .
مرت الأيام تترى واليدُ التي كانت لا تنفك تُرفَع لحل المسائل غدت اليوم متثاقلة متكاسلة، اليد التي كانت تُرفع لتجيب عن الأسئلة اليوم أصبحت تُرفع لصفع الأولاد، الصفوف المدرسيّة نموذج مصغّر للمدن الكبيرة، فبعض المدن تكون سكناً آمناً للناس، وبعضها الآخر يكون مرتعاً خصيباً للخروج عن القانون، بعضها يلزمك فيه سكّين تضعها في حزامك لتدافع بها عن نفسك، وبعضها يلزمك فيه كتاب لتعيش بين العقول الكبيرة المستنيرة.
في المقاعد الخلفية ثمة مؤامرات ومواجهات وسرقات وثارات يتم التخطيط لها، هناك الكثير من الأمور التي يمكن إدارتها من المقاعد الخلفية، مَن يجلس في الخلف بوده أن يرى الناس جيدا، لذلك فقد أصبح عوض جزءا من اللعبة التي تحاك في المقاعد الخلفية، غدا حجراً على رقعة اللعبة، يساعده طوله وزنده القوي وذكاؤه الذي سمح له في غضون مدة بسيطة أن يتزعّم عصابة الصفوف الخلفية ليصبح العقلَ المدبّر لها، يخطط لهم كيف سيطيحون بفتى أبلغ عنهم الأستاذ، ويدبّر لهم مكيدة يصطادون بها ذلك الطالب المتميّز الذي رفض مساعدتهم في الاختبار، يرسم لهم مخططا يوقعون به بفتى يكبرهم سنّا قد تعرّض لأحدهم بالشتم، يكتب لهم الرسائل لحبيباتهم في مدرسة البنات المجاورة لهم مقابل بعض النقود، يدبّر لهم عملية الانتقام من بعض المعلّمين الذين يُزعجونهم بكثرة الواجبات بإلحاق الضرر بسياراتهم التي يركنونها خارج أسوار المدرسة.
عوض غدا أكثر عدوانية وشراسة كذئبة جائعة، كان فتى غاضبا من كل شيء، غاضبا من الفقر والتهميش وحياة القرية الرتيبة، غاضبا من أبناء المعلمين الذي أخذوا يستأثرون بمقعده ويتبادلون الأدوار في المسرحيات التي تُمثّل على خشبات المسرح، ويشاركون في المسابقات والألعاب بينما لا أحد يعبأ به وبمقدرته، وذكائه، وسعة حفظه، إنّهم بإقصائهم له يربّون في داخله وحشا يكبُر كل يوم ويوشك أن يستيقظ.
غياب عوض المتكرر عن البيت دفع والده إلى زيارة المدرسة ليتفاجأ أنّ أموراً كثيرة قد وقعت، وأن مياهاً كثيرة قد صبّتْ في النهر، لم يعد بالإمكان إصلاح ما أفسده عوض، بعد إخفاقه في ثلاث مواد، وإيذائه المتكرر لزملائه، وتمرّده على معلّميه، الأمر الذي دفع مدير المدرسة إلى إصدار قرار بفصل عوض من المدرسة منذ ما يزيد على شهرين.
أحد المعلّمين قال لوالد عوض، إنّه رأى عوض بصحبة مجموعة من الشبّان يتجوّلون في المدينة بسيارة فارهة يقودها أحد أبناء تجّار السلاح والمخدّرات، ويمضون جلّ وقتهم في المقاهي، ومشاهدة الأفلام، والاعتداء على أصحاب المحال التجاريّة ممن لا يلتزمون بدفع الأتاوات للتجّار الكبار، بينما يجلسُ عوض في المقعد الخلفيّ للسيارة ويدخّنُ السيجار .

نيسان ـ نشر في 2022-05-15 الساعة 12:07


رأي: د. سالم الأقطش أكاديمي أردني

الكلمات الأكثر بحثاً