النصّاب والنُّصب
نيسان ـ نشر في 2022-09-18 الساعة 06:48
نيسان ـ نحتاج صورة متحرّكة، لا ثابتة، لنستطيع الجزم إن كانت انحناءة وزير خارجية الإمارات أمام النُّصب التذكاري للمحرقة اليهودية في إسرائيل، مؤقتة أو دائمة، فهل كان ظهْرُ الوزير محنيّاً قبل التقاط الصورة، أم في أثناء الصورة لضرورات بروتوكولية؟
والحال أنّ هذه الصورة وحدها هي ما استوقفنا من مجمل زيارة المسؤول الإماراتي تل أبيب. ولم نكن معنيين، ألبتة، بما صاحبها من قبل وعناق وضمّ، لأنها غدت صوراً مكرورة، لا تبعث على الدهشة أو الاشمئزاز، ولا الحياد حتى؛ بعدما بلغت علاقة العشق بين الطرفين حدودها القصوى، أما الانحناءة فأمرها مغاير تماماً.
بداية، ينبغي أن يكون مفهوماً موقفنا الثابت حيال المحرقة نفسها، فلسنا من مؤيدي المحارق، والإبادات الجماعية، والفردية، ما يعني أنّ الحياة البشرية في نظرنا مقدّسة لا يجوز العبث بها، ومن ضمنها حياة اليهود، وهو موقفٌ لا يحتمل الجدل ولا الكيل بمكيالين، غير أنّ ما يثير الريبة والشكوك هو الملابسات المحيطة بموقع النصب التذكاري للمحرقة، والغايات المبطّنة، والرسائل التي يمرّرها المكان، ما يغيّر من هدف التباكي والتذكار إلى جعل النصب رمزاً مدعّماً لكيان يسعى لتسويغ شرعية احتلاله واغتصابه.
الخلاف، إذاً، على المكان الذي أقيم فيه النصب، خلافاً لما يجب أن يكون عليه، فالأَوْلى أن يقام، في ألمانيا، مثلاً، أو في بولندا، أو حيثما جرت عمليات الحرق والإبادة، ففي مثل هذه الحالة يكون للنصب دلالته الأشد إقناعاً وتأثيراً لدى الزائر. أما أن يقام النصب على أرض تبعد آلاف الأميال عن مسرح الجريمة، فذلك لا يعني للزائر شيئاً حتى لو أقامه أحفاد الضحايا، ولا سيما أنّ من غير المتخيّل أن ترفض الحكومة الألمانية أو البولندية إقامة مثل هذا النصب على أراضيهما، خصوصاً أنّ ألمانيا، حصراً، ما زالت تدفع لليهود تعويضاتٍ لا تلوح أي نهاية لها، عمّا اقترفه نازيّوها قبل أزيد من 80 عاماً، وستكون ممتنّة لو أقيم النصب قي موقع المحارق تماماً؛ علّها تتطهّر من ذنوب أسلافها.
أمّا أن يقام النصب على أرض يحتلّها الأحفاد، فذلك يعني أن ثمة أغراضاً مبيّتة، تخفي وراءها نيّات ماكرة، ولا سيما أنّ الحفيد تحوّل إلى جلادٍ لا يغاير كثيراً صورة جلاده النازيّ الأول، إلّا بالأدوات والأساليب وحسب، فما يريده "النصّاب" من وراء نُصبه أن يكون النصب رمزاً لشرعنة اغتصابه، وليغفر له الزائر جرائمه ومجازره، بحقّ الشعب المحتلّ، وليُضفي مسوّغاتٍ على كلّ ما اقترقه، ويقترفه، لاحقاً؛ لكونه "الضحية" التي تفعل كلّ ما تفعله دفاعاً عن وجودها المهدّد، حتى لو محت الوجود برمّته، بمن عليه من فلسطينيين وسواهم.
هذا، بالضبط، ما لم يدركه الوزير العربيّ وهو ينحني أمام النصب الصهيوني، مشدداً على كلمة "الصهيوني" هنا؛ لأنّ النصب على أرض فلسطين يحمل رمزية الصهيونية لا اليهودية التي يزعمها، ومن أنشأه هو "النصّاب" لا الضحية. فالوزير، إياه، الذي لا يعرف (وربما يعرف)، لم تعد حدود زيارته مقصورة على تمتين العلاقات وتوقيع المعاهدات والاتفاقيات، بل أصبح شريكاً في الرواية الصهيونية الجديدة، ومؤازراً لها، فهو لا يذرف الدموع على الضحية، بل على الجلاد الذي تعذّبه الضحية حين تقاومه، وهو لا يلعن النازيين القدماء ممثلاً بهتلر وغيره، بل يدين "النازيين الجدد" من الفلسطينيين الذين يستكملون فصول المحرقة برفضهم وجود الصهاينة "اليهود" على أرضهم... هكذا يقول نصب المحرقة، الذي جُرّد منه التذكار، وغدا رمزاً لمستقبل الدولة التي ينبغي أن يباركها الجميع، بمن فيهم العرب أنفسهم.
على أنّ معالي الوزير سيكون معذوراً إن كانت انحناءة ظهره دائمة، بدأت مع التطبيع أو قبله بقليل. وفي هذه الحالة، ستكون الصورة تحصيلَ حاصلٍ لخفض الرؤوس أمام المحتلّ. أما إذا كانت مؤقتة لضرورات الصورة فقط، فهذا ما لم يحزرْه الوزير، لأن أحداً لن يتذكّره بعد اليوم إلا منحنياً أمام العدوّ.العربي الجديد
والحال أنّ هذه الصورة وحدها هي ما استوقفنا من مجمل زيارة المسؤول الإماراتي تل أبيب. ولم نكن معنيين، ألبتة، بما صاحبها من قبل وعناق وضمّ، لأنها غدت صوراً مكرورة، لا تبعث على الدهشة أو الاشمئزاز، ولا الحياد حتى؛ بعدما بلغت علاقة العشق بين الطرفين حدودها القصوى، أما الانحناءة فأمرها مغاير تماماً.
بداية، ينبغي أن يكون مفهوماً موقفنا الثابت حيال المحرقة نفسها، فلسنا من مؤيدي المحارق، والإبادات الجماعية، والفردية، ما يعني أنّ الحياة البشرية في نظرنا مقدّسة لا يجوز العبث بها، ومن ضمنها حياة اليهود، وهو موقفٌ لا يحتمل الجدل ولا الكيل بمكيالين، غير أنّ ما يثير الريبة والشكوك هو الملابسات المحيطة بموقع النصب التذكاري للمحرقة، والغايات المبطّنة، والرسائل التي يمرّرها المكان، ما يغيّر من هدف التباكي والتذكار إلى جعل النصب رمزاً مدعّماً لكيان يسعى لتسويغ شرعية احتلاله واغتصابه.
الخلاف، إذاً، على المكان الذي أقيم فيه النصب، خلافاً لما يجب أن يكون عليه، فالأَوْلى أن يقام، في ألمانيا، مثلاً، أو في بولندا، أو حيثما جرت عمليات الحرق والإبادة، ففي مثل هذه الحالة يكون للنصب دلالته الأشد إقناعاً وتأثيراً لدى الزائر. أما أن يقام النصب على أرض تبعد آلاف الأميال عن مسرح الجريمة، فذلك لا يعني للزائر شيئاً حتى لو أقامه أحفاد الضحايا، ولا سيما أنّ من غير المتخيّل أن ترفض الحكومة الألمانية أو البولندية إقامة مثل هذا النصب على أراضيهما، خصوصاً أنّ ألمانيا، حصراً، ما زالت تدفع لليهود تعويضاتٍ لا تلوح أي نهاية لها، عمّا اقترفه نازيّوها قبل أزيد من 80 عاماً، وستكون ممتنّة لو أقيم النصب قي موقع المحارق تماماً؛ علّها تتطهّر من ذنوب أسلافها.
أمّا أن يقام النصب على أرض يحتلّها الأحفاد، فذلك يعني أن ثمة أغراضاً مبيّتة، تخفي وراءها نيّات ماكرة، ولا سيما أنّ الحفيد تحوّل إلى جلادٍ لا يغاير كثيراً صورة جلاده النازيّ الأول، إلّا بالأدوات والأساليب وحسب، فما يريده "النصّاب" من وراء نُصبه أن يكون النصب رمزاً لشرعنة اغتصابه، وليغفر له الزائر جرائمه ومجازره، بحقّ الشعب المحتلّ، وليُضفي مسوّغاتٍ على كلّ ما اقترقه، ويقترفه، لاحقاً؛ لكونه "الضحية" التي تفعل كلّ ما تفعله دفاعاً عن وجودها المهدّد، حتى لو محت الوجود برمّته، بمن عليه من فلسطينيين وسواهم.
هذا، بالضبط، ما لم يدركه الوزير العربيّ وهو ينحني أمام النصب الصهيوني، مشدداً على كلمة "الصهيوني" هنا؛ لأنّ النصب على أرض فلسطين يحمل رمزية الصهيونية لا اليهودية التي يزعمها، ومن أنشأه هو "النصّاب" لا الضحية. فالوزير، إياه، الذي لا يعرف (وربما يعرف)، لم تعد حدود زيارته مقصورة على تمتين العلاقات وتوقيع المعاهدات والاتفاقيات، بل أصبح شريكاً في الرواية الصهيونية الجديدة، ومؤازراً لها، فهو لا يذرف الدموع على الضحية، بل على الجلاد الذي تعذّبه الضحية حين تقاومه، وهو لا يلعن النازيين القدماء ممثلاً بهتلر وغيره، بل يدين "النازيين الجدد" من الفلسطينيين الذين يستكملون فصول المحرقة برفضهم وجود الصهاينة "اليهود" على أرضهم... هكذا يقول نصب المحرقة، الذي جُرّد منه التذكار، وغدا رمزاً لمستقبل الدولة التي ينبغي أن يباركها الجميع، بمن فيهم العرب أنفسهم.
على أنّ معالي الوزير سيكون معذوراً إن كانت انحناءة ظهره دائمة، بدأت مع التطبيع أو قبله بقليل. وفي هذه الحالة، ستكون الصورة تحصيلَ حاصلٍ لخفض الرؤوس أمام المحتلّ. أما إذا كانت مؤقتة لضرورات الصورة فقط، فهذا ما لم يحزرْه الوزير، لأن أحداً لن يتذكّره بعد اليوم إلا منحنياً أمام العدوّ.العربي الجديد
نيسان ـ نشر في 2022-09-18 الساعة 06:48
رأي: باسل طلوزي