اتصل بنا
 

متى سنكون أطفالاً؟

نيسان ـ نشر في 2022-09-25 الساعة 05:15

نيسان ـ راجت لعبة الدمى المضغوطة التي حظي باقتنائها جيل "النهضة" العربية التي تلت مرحلة جلاء الاستعمار، منتصف القرن الماضي، وكانت لوحاً بلاستيكياً عريضاً، يحتوي على ثقوبٍ مربّعة، وفي كل ثقبٍ دمية صغيرة مخبأة. وكانت اللعبة تقوم على ضغط الدمية الظاهرة إلى الأسفل، لتبرز دمية جديدة من ثقب آخر، بينما تختفي الدمية المضغوطة بالإصبع. ولإظهار دميةٍ جديدة، يتعيّن الضغط على الدمية البارزة حديثاً، وهكذا. والغريب أن الدّمى كانت متشابهة للغاية، على عكس ما كنا نظنّ في البداية، وراودنا سؤال ممضّ آنذاك: لماذا لم يفكّر مبتكر اللعبة في إضفاء فروق بين الدمى لزيادة المتعة؟
والحال أنه كان يلزمنا أزيد من سبعين عاماً لنعرف الإجابة عن هذا السؤال، ولنكتشف حديثاً أن هذه اللعبة صُنعت للمنطقة العربية فقط، أما الصانع فكان يتوافر على قدر من الكهانة والتنبؤ للمستقبل السياسي العربي، ما جعله يختزل هذا المستقبل بالدّمى المتشابهة إياها.

وللإنصاف، نقول إن هذه اللعبة لم تصنع للأنظمة الوراثية العربية، بل لنظيرتها الثورية، التي كان يفترض أن تتوافر على قدرٍ ضئيل من الحريات وتبديل الشخصيات، ولا سيّما الحاكمة، ذلك أن الأنظمة الأولى معلومة النتائج والشخصيات، بحكم مبدأ التوريث وولايات العهد، ولا مجال للرهان والتوقّعات فيها، فالدمية التي ستخرُج من الثقب بعد انضغاط سابقتها إلى الداخل (القبر)، معروفة، ولن تدهش أحداً، خصوصاً أنها منذ لحظة البروز ستلقي خطاباً مفعماً بالعبرات، تؤكّد فيه أنها ستستأنف المسيرة على خطى الدّمية الأولى، وتبني عليها، وتحافظ على سائر المعاهدات التي أبرمها "السلف الصالح"، وفي مقدّمتها اتفاقية السلام مع إسرائيل، إن كانت هذه الاتفاقية موقعة، أو التعهد بتوقيعها قريباً.
أما على طرف آخر، حيث كان يفترض أن تتغاير الدمى وتفترق، على الأقل بحكم الانقلابات العسكرية المتوالية، فكانت الدمى متطابقة، أيضاً، مع اختلافاتٍ طفيفة في الرتب والنياشين. صحيحٌ أن الدمية الجديدة حال بروزها تعد بالكثير، وتبذل من الوعود والتعهدات ما يملأ محيطاً برمّته، لكن عند التطبيق، وعقب انفضاض فورة الحماسة، يكتشف الشعب المبتلى بهذه الدمية، أن ما امتلأ حقّاً هو المحيط المتجمّد الشمالي بوعودٍ استحالت جليداً وثلجاً لا يذوب. ومن الأنظمة الثورية من أضاف إلى لعبة الدمى المضغوطة ابتكاراً جديداً، فجعل من نفسه ملكاً جمهوريّاً، وأصبح يُدعى "جلالة الرئيس"، بعد أن "ضغط" الدستور في الثقب الأسود، وأبرز دستوراً جديداً يتيح له الحكم مدى الحياة، ومن بعده لوليّ عهده، كحال الأسدين حافظ وبشّار، وكحال ما كان ينويه الرئيس حسني مبارك بتوريث نجله، لولا أن ضغطته ثورة شعبية في الثقب.
وفي تونس التي انضغط بها الحبيب بورقيبة، على يد دميته زين العابدين بن علي، لم يختلف الوضع كثيراً، فبورقيبة الذي جاء يحمل حماسة الثورة على المستعمر الفرنسي، وحُسب له فضل تحديث الدولة، انكفأ في أواخر حياته وأصبح أشدّ تشبثاً بالسلطة، وبات يعزو كلّ إنجاز إلى شخصه، بما في ذلك الإنجازات الفردية الرياضية، وقد حدَث فعلاً أن جرّد لاعباً تونسيّاً من ميداليته التي حازها في إحدى الألعاب الدولية، عندما أراد تكريمه في قصره عقب عودته، لكنه، بدلاً من التكريم، قال للاعب: "لولا أفضالي على البلد لما كنتَ لاعباً أصلاً، وهذه الميدالية من حقّي". وبالفعل، غادر اللاعب حفل التكريم بلا ميدالية، لأنها أصبحت تطوّق عنق الزعيم.
ولم تغاير الدمية الجديدة سابقتها، مع فارقٍ واحد فقط، أن زين العابدين بن علي بدأ عهده بالقمع، وانتهى به، ليضغطه الشعب بحثاً عن وجهٍ جديد، غير أن الجديد لم يكن غير دمية أشدّ مكراً، بدأت عهدها بخطبٍ وصلت إلى حدّ "تحرير فلسطين"، ثم استحالت إلى طاغيةٍ يفصّل دستوراً جديداً على مقاسه، ويركّز الصلاحيات في يده .. ذلكم هو قيس بن سعيّد.
لا أدري حقّاً متى سنسأم لعبة الدمى المضغوطة، ونحطّمها كما يفعل الأطفال؟ متى سنكون أطفالاً؟العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2022-09-25 الساعة 05:15


رأي: باسل طلوزي

الكلمات الأكثر بحثاً