تاريخ بديل للعالم في كتاب 'عن الذهب والتوابل'
نيسان ـ نشر في 2022-11-23 الساعة 07:44
نيسان ـ جان فافييه يتقصى ولادة رأس المال وظهور رجل الأعمال وانبثاق الكون الجديد والتبادل العولمي في ركابه
لعل المهنة الأكثر انتشاراً في زمننا الراهن، ولا سيما في المدن الكبرى في العالم، هي تلك المهنة الغامضة التي قد لا تعني شيئاً ولكنها قد تعني كل شيء. المهنة التي غالباً ما تكون على أية حال معبرة عن شيء آخر تماماً عما توحي به. هي مهنة رجل الأعمال والتي غالباً ما باتت وبالتدرج "مهنة الذين لا مهنة لهم". ومع ذلك ثمة في لغات عديدة ألوف المجلدات التي تحاول أن تشرح هذه المهنة وحيثياتها، حتى لكبار المثقفين والمعنيين بالشؤون الاقتصادية وأحياناً بعلم الجرائم. ولئن كان مؤلفون كبار في المجال الاقتصادي الاجتماعي من طينة كارل ماركس إلى فرنان بروديل قد خاضوا التجربة محللين شارحين، فإن ثمة كتاباً صدر منذ نحو ثلث قرن لمؤرخ فرنسي هو جان فافييه، كمنت ميزته في أنه لخص كل تلك الأفكار بلغة مبسطة تخلو من "لؤم" ماركس، أو تركيبية بروديل في الدنو من الموضوع. والكتاب هو "عن الذهب وعن التوابل" الذي يغوص تحديداً في تتبع تاريخ ولادة رجل الأعمال الأوروبي في القرون الوسطى... وعن الكيفية التي تمكن بها رجل الأعمال هذا من تبديل صورة العالم، وإخضاع الجغرافيا والاستراتيجية والحروب، لمنطقه.
تراكم صنع تاريخاً
من البداية نعرف بالطبع أنه إذا كان المجتمع قد ولد يوم اجتمع أول شخصين في غابر العصور ليقررا أن يعيشا معاً، ونعرف أن الصراع الاجتماعي قد ولد يوم ثبت أول شخص حدوداً لأرض قال إنها تخصه، بحسب ما يشرح لنا روسو ليثني عليه برودون، معلناً أن كل استحواذ على أي شيء ما إنما هو سرقة، فإن الرأسمالية احتاجت إلى أن تنتظر ألوفاً أخرى من السنين قبل أن تولد. وحين نتحدث عن الرأسمالية هنا لا نعني بالطبع التراكم الفردي الأولي للثروات في أيدي أفراد قلائل، وهو أمر بدأ باكراً مع إدراك الإنسان قيمة التبادل، وإنما نعني التراكم الرأسمالي المفضي إلى إعادة إنتاج الثروات عن طريق التجارة. ونعني الحقبة التي انتهى فيها عصر طغيان بائع المفرق... لحساب بائع الجملة.
400 صفحة تكفي
تاريخ ولادة الرأسمالية هذه، وعلى هذا النحو، هو الذي يشكل الموضوع الذي صاغ من حوله المؤرخ الفرنسي جان فافييه كتابه "عن الذهب وعن التوابل" في ما لا يزيد على نحو 490 صفحة، وهو كتاب يأتي ليكمل جانباً من الجوانب التي كان المؤرخ فرنان بروديل قد عالجها في واحد من كتبه الرئيسة "نشوء الرأسمالية".
ويطلق جان فافييه على كتابه الجديد عنواناً فرعياً يبدو لنا أكثر تلاؤماً، هو "ولادة رجل الأعمال في العصر الوسيط" والحال أن كتابه يرسم هذه الولادة لكنه يتجاوزها في الزمان، وإن كان يحصرها في المكان: فرجل الأعمال الذي يتحدث عنه فافييه هنا هو رجل الأعمال الأوروبي (الإيطالي والألماني والفرنسي بخاصة)... هو رجل الأعمال -التاجر- المصرفي الذي بدأ يحقق التراكم ما إن خرجت أوروبا من ظلمات العصور الوسطى، في مدن مثل جنوى والبندقية ومارسيليا وهامبورغ، بل حتى باريس ولندن ونابولي وغيرها. أما الزمان فيمتد عميقاً إلى بدايات اكتشاف الإنسان فائض القيمة الذي يمكن تحقيقه من خلال البيع الممنهج، ويصل إلى العصر الحديث – ليس لأن المؤلف يؤرخ لنا الرأسمالية كما تجلت في العصر الحديث، بل لأنه يرسم القواعد التي انبتت الرأسمالية على أساسها.
عولمة البدايات
يرى المؤلف أن الرأسمالية ولدت مع التكون العالمي لخريطة العالم... ففي البدء حين كانت الاقتصادات محلية، انطلاقاً من مبدأ الاكتفاء الذاتي، أو التقايض على الصعيد الداخلي لم يكن ثمة مجال لإحداث أي تراكم رأسمالي معقول، في ما بعد حين بدأت تتكون المدن على حساب الأرياف، والوحدات السياسية على حساب المقاطعات المغلقة، ومع ازدياد الحاجات من جهة إلى المواد الأولية المتناقصة، ومن جهة ثانية إلى المواد التي كانت مجهولة من قبل (وهما عنصران يعكسهما الذهب من ناحية، والتوابل من ناحية أخرى. ومن هنا مغزى عنوان الكتاب)، برز "الاستيراد والتصدير" كعامل له مركز الصدارة في حركة انتقال البضائع على الصعيد العالمي. ومثل هذا الانتقال ما كان له أن يكون ممكناً من دون توفر عنصر وسيط، عنصر مركزي يلعب دور حلقة الوصل بين المنطقة التي يتم الاستيراد منها والمنطقة التي يتم التصدير إليها. وفي مثل هذه الحالة كف مبدأ التقايض عن لعب الدور الرئيس في حركة التبادل التجاري، لتصبح العملة ذات الحظوة، ثم بالتدرج تركت العملة مكانها للحسابات المصرفية... وزادت أهمية المصرف، الذي صار شيئاً فشيئاً الجزء الأساسي في دورة رأس المال.
من التاجر إلى رجل الأعمال
ينطلق المؤلف في كتابه من واقع أنه بين زمن المعارض التجارية الأولى في مقاطعة شامباني الفرنسية، والانطلاقات الجريئة إلى ما بعد جبل طارق ومغامرات آل مديتشي وآل فوغر وأمثالهم المالية الكبرى، تحول التاجر القديم إلى رجل أعمال... وعلى هذا النحو توسعت آفاقه، وراحت تطلعاته تتجاوز، ومن بعيد، عالم البضاعة نفسها، واغتنت تقنياته. وتعلم كيف يهيمن على صفقاته وأعماله، وابتكر أشكال التسليف التي سرعان ما صارت الأشكال الأساس في اللعبة المصرفية. صحيح أنه عند ذاك تعلم كيف يخاطر، لكنه تعلم كذلك كيف يجعل لأخطاره حدوداً مرسومة... وبهذا المعنى صار منظماً للإنتاج وخلق الرأسمالية.
من الاقتصاد إلى السياسة
لكنه في الوقت نفسه، وهذا هو الأهم، تمكن -وربما للمرة الأولى في التاريخ- من دمج العنصر الاقتصادي في الحياة السياسية. وجان فافييه يكرس معظم فصول كتابه، في الواقع لدراسة هذا التمفصل بين الاقتصادي والسياسي، التمفصل الذي لعب فيه البنك دوراً أساسياً، وأدى إلى نشوء الدول الأوروبية الحديثة متمحورة من حول المراكز المالية: شركات استيراد وتصدير، ومصارف، ونقابات لرجال الأعمال حلت محل المنغلقات الحرفية القديمة... إلخ. وفي ظل هذه التحولات -يقول جان فافييه- تصبح لمغامرات ماركو بولو وكريستوف كولومبوس وماجلان دلالات مختلفة عن الدلالة الرومانسية المتداولة. تصبح رحلات هؤلاء جزءاً من مغامرة الرأسمالية الكبرى، لا جزءاً من مغامرة الإنسانية... والفرق شاسع بين العنصرين. وكذلك، في السياق نفسه، لا تعود الجغرافيا مجرد علم يدرس في المدارس، بل تصبح جزءاً من لعبة الاستراتيجية الاقتصادية نفسها، وعلى هذا النحو حين ولدت الرأسمالية الحديثة عرفت كيف تولد معها الجغرافيا كما ولدت علم الاقتصاد. وحتى الحروب منذ ذلك الحين صار لها شأن آخر: كفت عن أن تكون حروباً دينية وأيديولوجية وحروب توسع ديموغرافي لتصبح حروباً تتمحور من حول التنافس الاقتصادي.
إذاً، من ولادة المظاهر الأولى للعالم الجديد، ومنذ أن كفت الطرق الرومانية القديمة عن أن تكون مفيدة للقوافل والتجار (لأنها في الأصل، طرق استراتيجية عسكرية، يقول فافييه، أقيمت للوصول بسرعة إلى هدف محدد، بينما يمكن لطرق التجارة أن تكون ملتوية، بل من الأفضل لها أن تكون كذلك، لكي تصل البضائع إلى أكبر عدد ممكن من الزبائن)، ومنذ اندلعت حاجات التبادل الجديدة... ولد الحيز الاقتصادي، ومنه ولد فن الملاحة الحقيقي، وولدت التبادلات الجديدة وولدت الطرقات الجديدة. وهذه الولادة يصحبنا المؤلف في جولة معها عبر فصول كتابه المتلاحقة ليصل في النتيجة إلى أن رجل الأعمال في إبداعه للاقتصاد السلعي ولتضافر السياسي مع الاقتصادي (بالتالي مع الاجتماعي والثقافي... ولا سيما مع الجغرافي والعسكري) تمكن من اكتشاف فن مراكمة الرساميل والديناميات، وأمن للثروات إثماراً جديداً، وعثر على الوسائل الكفيلة بتأمين التوسع خارج حدود الكتلات النقدية. وهو أبدع فن التحليل الممنهج للبنى والحركات، وابتكر الوسائل الضرورية للوصول إلى توازن بين المجازفة والأمان، وكيف لنفسه مكانة خاصة في المجتمع الذي بات مقتنعاً أكثر وأكثر بالتضافر التبادلي للسياسة وللاقتصاد.
كيف ولد العالم الجديد
وهكذا ولد نمط جديد من الرجال، اتخذ لنفسه مكانة بين المسؤولين والفاعلين، ولكن بين الشهود أيضاً، لكنه في الوقت نفسه لم يعد المغامر الأفاق الذي يكتشف المناطق المجهولة... صار ثمة أناس آخرون يكتشفونها لحسابه، وهو يدير العملية من تلك المراكز التي صارت في ما بعد نقاط الثقل في المدن الكبرى. والحقيقة أن هذا كله وبحسب جان فافييه، يصور لنا بتحليل علمي دقيق يتكل إلى عدد واسع من أصناف العلوم ليحكي لنا كيف، مع ولادة رجل الأعمال -وباختصار شديد- ولد العالم الجديد كله.
إبراهيم العريس
لعل المهنة الأكثر انتشاراً في زمننا الراهن، ولا سيما في المدن الكبرى في العالم، هي تلك المهنة الغامضة التي قد لا تعني شيئاً ولكنها قد تعني كل شيء. المهنة التي غالباً ما تكون على أية حال معبرة عن شيء آخر تماماً عما توحي به. هي مهنة رجل الأعمال والتي غالباً ما باتت وبالتدرج "مهنة الذين لا مهنة لهم". ومع ذلك ثمة في لغات عديدة ألوف المجلدات التي تحاول أن تشرح هذه المهنة وحيثياتها، حتى لكبار المثقفين والمعنيين بالشؤون الاقتصادية وأحياناً بعلم الجرائم. ولئن كان مؤلفون كبار في المجال الاقتصادي الاجتماعي من طينة كارل ماركس إلى فرنان بروديل قد خاضوا التجربة محللين شارحين، فإن ثمة كتاباً صدر منذ نحو ثلث قرن لمؤرخ فرنسي هو جان فافييه، كمنت ميزته في أنه لخص كل تلك الأفكار بلغة مبسطة تخلو من "لؤم" ماركس، أو تركيبية بروديل في الدنو من الموضوع. والكتاب هو "عن الذهب وعن التوابل" الذي يغوص تحديداً في تتبع تاريخ ولادة رجل الأعمال الأوروبي في القرون الوسطى... وعن الكيفية التي تمكن بها رجل الأعمال هذا من تبديل صورة العالم، وإخضاع الجغرافيا والاستراتيجية والحروب، لمنطقه.
تراكم صنع تاريخاً
من البداية نعرف بالطبع أنه إذا كان المجتمع قد ولد يوم اجتمع أول شخصين في غابر العصور ليقررا أن يعيشا معاً، ونعرف أن الصراع الاجتماعي قد ولد يوم ثبت أول شخص حدوداً لأرض قال إنها تخصه، بحسب ما يشرح لنا روسو ليثني عليه برودون، معلناً أن كل استحواذ على أي شيء ما إنما هو سرقة، فإن الرأسمالية احتاجت إلى أن تنتظر ألوفاً أخرى من السنين قبل أن تولد. وحين نتحدث عن الرأسمالية هنا لا نعني بالطبع التراكم الفردي الأولي للثروات في أيدي أفراد قلائل، وهو أمر بدأ باكراً مع إدراك الإنسان قيمة التبادل، وإنما نعني التراكم الرأسمالي المفضي إلى إعادة إنتاج الثروات عن طريق التجارة. ونعني الحقبة التي انتهى فيها عصر طغيان بائع المفرق... لحساب بائع الجملة.
400 صفحة تكفي
تاريخ ولادة الرأسمالية هذه، وعلى هذا النحو، هو الذي يشكل الموضوع الذي صاغ من حوله المؤرخ الفرنسي جان فافييه كتابه "عن الذهب وعن التوابل" في ما لا يزيد على نحو 490 صفحة، وهو كتاب يأتي ليكمل جانباً من الجوانب التي كان المؤرخ فرنان بروديل قد عالجها في واحد من كتبه الرئيسة "نشوء الرأسمالية".
ويطلق جان فافييه على كتابه الجديد عنواناً فرعياً يبدو لنا أكثر تلاؤماً، هو "ولادة رجل الأعمال في العصر الوسيط" والحال أن كتابه يرسم هذه الولادة لكنه يتجاوزها في الزمان، وإن كان يحصرها في المكان: فرجل الأعمال الذي يتحدث عنه فافييه هنا هو رجل الأعمال الأوروبي (الإيطالي والألماني والفرنسي بخاصة)... هو رجل الأعمال -التاجر- المصرفي الذي بدأ يحقق التراكم ما إن خرجت أوروبا من ظلمات العصور الوسطى، في مدن مثل جنوى والبندقية ومارسيليا وهامبورغ، بل حتى باريس ولندن ونابولي وغيرها. أما الزمان فيمتد عميقاً إلى بدايات اكتشاف الإنسان فائض القيمة الذي يمكن تحقيقه من خلال البيع الممنهج، ويصل إلى العصر الحديث – ليس لأن المؤلف يؤرخ لنا الرأسمالية كما تجلت في العصر الحديث، بل لأنه يرسم القواعد التي انبتت الرأسمالية على أساسها.
عولمة البدايات
يرى المؤلف أن الرأسمالية ولدت مع التكون العالمي لخريطة العالم... ففي البدء حين كانت الاقتصادات محلية، انطلاقاً من مبدأ الاكتفاء الذاتي، أو التقايض على الصعيد الداخلي لم يكن ثمة مجال لإحداث أي تراكم رأسمالي معقول، في ما بعد حين بدأت تتكون المدن على حساب الأرياف، والوحدات السياسية على حساب المقاطعات المغلقة، ومع ازدياد الحاجات من جهة إلى المواد الأولية المتناقصة، ومن جهة ثانية إلى المواد التي كانت مجهولة من قبل (وهما عنصران يعكسهما الذهب من ناحية، والتوابل من ناحية أخرى. ومن هنا مغزى عنوان الكتاب)، برز "الاستيراد والتصدير" كعامل له مركز الصدارة في حركة انتقال البضائع على الصعيد العالمي. ومثل هذا الانتقال ما كان له أن يكون ممكناً من دون توفر عنصر وسيط، عنصر مركزي يلعب دور حلقة الوصل بين المنطقة التي يتم الاستيراد منها والمنطقة التي يتم التصدير إليها. وفي مثل هذه الحالة كف مبدأ التقايض عن لعب الدور الرئيس في حركة التبادل التجاري، لتصبح العملة ذات الحظوة، ثم بالتدرج تركت العملة مكانها للحسابات المصرفية... وزادت أهمية المصرف، الذي صار شيئاً فشيئاً الجزء الأساسي في دورة رأس المال.
من التاجر إلى رجل الأعمال
ينطلق المؤلف في كتابه من واقع أنه بين زمن المعارض التجارية الأولى في مقاطعة شامباني الفرنسية، والانطلاقات الجريئة إلى ما بعد جبل طارق ومغامرات آل مديتشي وآل فوغر وأمثالهم المالية الكبرى، تحول التاجر القديم إلى رجل أعمال... وعلى هذا النحو توسعت آفاقه، وراحت تطلعاته تتجاوز، ومن بعيد، عالم البضاعة نفسها، واغتنت تقنياته. وتعلم كيف يهيمن على صفقاته وأعماله، وابتكر أشكال التسليف التي سرعان ما صارت الأشكال الأساس في اللعبة المصرفية. صحيح أنه عند ذاك تعلم كيف يخاطر، لكنه تعلم كذلك كيف يجعل لأخطاره حدوداً مرسومة... وبهذا المعنى صار منظماً للإنتاج وخلق الرأسمالية.
من الاقتصاد إلى السياسة
لكنه في الوقت نفسه، وهذا هو الأهم، تمكن -وربما للمرة الأولى في التاريخ- من دمج العنصر الاقتصادي في الحياة السياسية. وجان فافييه يكرس معظم فصول كتابه، في الواقع لدراسة هذا التمفصل بين الاقتصادي والسياسي، التمفصل الذي لعب فيه البنك دوراً أساسياً، وأدى إلى نشوء الدول الأوروبية الحديثة متمحورة من حول المراكز المالية: شركات استيراد وتصدير، ومصارف، ونقابات لرجال الأعمال حلت محل المنغلقات الحرفية القديمة... إلخ. وفي ظل هذه التحولات -يقول جان فافييه- تصبح لمغامرات ماركو بولو وكريستوف كولومبوس وماجلان دلالات مختلفة عن الدلالة الرومانسية المتداولة. تصبح رحلات هؤلاء جزءاً من مغامرة الرأسمالية الكبرى، لا جزءاً من مغامرة الإنسانية... والفرق شاسع بين العنصرين. وكذلك، في السياق نفسه، لا تعود الجغرافيا مجرد علم يدرس في المدارس، بل تصبح جزءاً من لعبة الاستراتيجية الاقتصادية نفسها، وعلى هذا النحو حين ولدت الرأسمالية الحديثة عرفت كيف تولد معها الجغرافيا كما ولدت علم الاقتصاد. وحتى الحروب منذ ذلك الحين صار لها شأن آخر: كفت عن أن تكون حروباً دينية وأيديولوجية وحروب توسع ديموغرافي لتصبح حروباً تتمحور من حول التنافس الاقتصادي.
إذاً، من ولادة المظاهر الأولى للعالم الجديد، ومنذ أن كفت الطرق الرومانية القديمة عن أن تكون مفيدة للقوافل والتجار (لأنها في الأصل، طرق استراتيجية عسكرية، يقول فافييه، أقيمت للوصول بسرعة إلى هدف محدد، بينما يمكن لطرق التجارة أن تكون ملتوية، بل من الأفضل لها أن تكون كذلك، لكي تصل البضائع إلى أكبر عدد ممكن من الزبائن)، ومنذ اندلعت حاجات التبادل الجديدة... ولد الحيز الاقتصادي، ومنه ولد فن الملاحة الحقيقي، وولدت التبادلات الجديدة وولدت الطرقات الجديدة. وهذه الولادة يصحبنا المؤلف في جولة معها عبر فصول كتابه المتلاحقة ليصل في النتيجة إلى أن رجل الأعمال في إبداعه للاقتصاد السلعي ولتضافر السياسي مع الاقتصادي (بالتالي مع الاجتماعي والثقافي... ولا سيما مع الجغرافي والعسكري) تمكن من اكتشاف فن مراكمة الرساميل والديناميات، وأمن للثروات إثماراً جديداً، وعثر على الوسائل الكفيلة بتأمين التوسع خارج حدود الكتلات النقدية. وهو أبدع فن التحليل الممنهج للبنى والحركات، وابتكر الوسائل الضرورية للوصول إلى توازن بين المجازفة والأمان، وكيف لنفسه مكانة خاصة في المجتمع الذي بات مقتنعاً أكثر وأكثر بالتضافر التبادلي للسياسة وللاقتصاد.
كيف ولد العالم الجديد
وهكذا ولد نمط جديد من الرجال، اتخذ لنفسه مكانة بين المسؤولين والفاعلين، ولكن بين الشهود أيضاً، لكنه في الوقت نفسه لم يعد المغامر الأفاق الذي يكتشف المناطق المجهولة... صار ثمة أناس آخرون يكتشفونها لحسابه، وهو يدير العملية من تلك المراكز التي صارت في ما بعد نقاط الثقل في المدن الكبرى. والحقيقة أن هذا كله وبحسب جان فافييه، يصور لنا بتحليل علمي دقيق يتكل إلى عدد واسع من أصناف العلوم ليحكي لنا كيف، مع ولادة رجل الأعمال -وباختصار شديد- ولد العالم الجديد كله.
إبراهيم العريس
نيسان ـ نشر في 2022-11-23 الساعة 07:44
رأي: إبراهيم العريس