اتصل بنا
 

ماذا تريد الدوحة؟

باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومتخصص في شؤون الفكر الإسلامي

نيسان ـ نشر في 2022-11-27 الساعة 06:51

نيسان ـ أحسب أن أعداء الإمارة الخليجية الصغيرة وخصومها يعترفون اليوم بأنّها حققت انتصاراً تاريخياً بإقامة بطولة كأس العالم، ونجحت أيّما نجاح في تجاوز التحدّيات والصعوبات التي وقفت أمام إقامة البطولة، والهجمة السياسية والإعلامية الكبيرة التي ارتفعت وتيرتها بالتدريج مع بدء العد التنازلي لإقامة البطولة، وتخللتها تحيزاتٌ عنصريةٌ وثقافيةٌ صارخة، في محاولات إجهاض البطولة العالمية بالسبل والوسائل كافة.
ها هو العالم بأسره يشاهد يومياً قطر، وها هم مئات الآلاف من كل أنحاء العالم، ومن مختلف الجنسيات والثقافات والألوان والأفكار، يتقاطرون إلى قطر، لمتابعة هذا الحدث الكبير. لأنّ الرياضة اليوم، بخاصة كرة القدم، أصبحت أقوى من الأسلحة كافّة، ومن الصواريخ العابرة للقارات الفتّاكة، فهي (كرة القدم) ثقافة يومية لدى الشعوب كافّة، وقوة ناعمة كبرى، ومسرح جديد من مسارح الثقافات الوطنية والقومية والاشتباكات الناعمة بين الدول والمجتمعات.

صحيحٌ أنه لولا الإمكانات المالية الكبيرة لما تمكّنت قطر من تنظيم كأس العالم بهذه الطريقة الحضارية المتطوّرة، لكن الأمير، الشيخ تميم بن حمد، استثمر ثروات بلاده بالاتجاه الصحيح، فحقّق مكاسب هائلة، في مقدمتها السمعة العالمية والقوة الناعمة الهائلة التي أحرزتها من خلال البطولة.
كان المونديال مناسبة أيضاً لتحديث البنية التحتية على طراز متطوّر، فاستُثمرت الأموال القطرية في بناء الدولة والانتقال نحو العالمية بكل معنى الكلمة. وكان حفل الافتتاح والأنشطة الثقافية التي أقيمت بموازاة المباريات قفزة أخرى في تعزيز دور الرياضة في بناء حلقات التفاهم والتثاقف والتمازج بين الشعوب المختلفة، ونوعاً آخر من أنواع الدبلوماسية العامة الجديدة التي تحقّق أهدافاً تتجاوز كثيراً الدبلوماسية التقليدية.
هذا وذاك يعيداننا إلى السؤال الحاضر الغائب دوماً في نقاشات النخب السياسية والمثقفة العربية: ماذا تريد الدوحة؟ لماذا تحرص على إقامة كأس العالم وتحدّي كل الصعاب والظروف؟ ولماذا قبل ذلك تدعم حركات التحرّر الشعبي والديمقراطية في العالم العربي والسباحة ضد التيار؟ وقبل ذلك ما وراء تأسيس قناة الجزيرة (في النصف الثاني من التسعينيات) التي أحدثت نقلة نوعية كبرى في السياسات العربية بأسرها، عبر كسرها أحد أهم قوانين النظم السلطوية العربية؛ التحكّم بالمعلومات ما يضمن السيطرة على الشعوب؟
كأس العالم، الربيع العربي، قناة الجزيرة، والجزيرة الرياضية (BEIN SPORT) ويمكن أن تُضاف إليها رهانات أخرى عديدة، مثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تلفزيون العربي، فروع الجامعات العالمية المشهورة، الموقف المتميز في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، المواقف الدبلوماسية المستقلة في ما يتعلق بالأزمة اليمنية والعلاقة مع تركيا وإيران، فمثل هذه الرهانات والمواقف والمحطّات التاريخية تؤشر على أمر واضح تماماً، هو "الوعي التاريخي" لدى قادة هذه الإمارة، ما يجعلهم يفكّرون في منح قطر والقطريين نموذجاً فريداً عالمياً، ويجعل من الدوحة عاصمة مؤثرة بصورة واضحة ومميزة، ليس فقط على صعيد إقليمي، بل عالمي أيضاً. أن يسجّل التاريخ لهذه الإمارة مواقف وأحداثاً، وأن تقوم بدورٍ يتجاوز بكثير الحجم الجغرافي، ويتفوّق على الجيوبوليتيك ويسخّر الموارد الطبيعية المميزة في سياسات عالمية وإقليمية فريدة.
لم يكن ذلك من دون ثمنٍ أو خصومات إقليمية ودولية، لكن حتى هذه الظروف القاسية تجاوزتها القيادة القطرية بنجاح، وتمكّنت اليوم من الخروج بانتصارات ومكاسب كبيرة على مختلف الجهات، وجديدها أخيراً الصورة البرّاقة التي حظيت بها الدوحة اليوم مع تظاهرة كأس العالم الرياضية الثقافية الكبرى.
يتجاوز تنظيم قطر المونديال توفير المساحة الجغرافية لإقامة المباريات، إذ حُوِّلَت هذه المسابقة العالمية إلى مساحة ثقافية وإعلامية ودبلوماسية، وتمكّنت قطر من تقديم صورة مبهرة عن التخطيط والتنظيم والتطوير والعمل الجادّ للوصول إلى هذه المرحلة المتقدّمة، التي نقلت معها الدوحة إلى مرحلة جديدة على الصعد، الداخلي والإقليمي والدولي. العربي الجديد

نيسان ـ نشر في 2022-11-27 الساعة 06:51


رأي: د. محمد أبو رمان باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومتخصص في شؤون الفكر الإسلامي

الكلمات الأكثر بحثاً