سيرة الحكم في لبنان في سيرة صائب سلام [4]
أسعد أبو خليل
كاتب عربي
نيسان ـ الأخبار ـ نشر في 2022-12-06 الساعة 08:18
نيسان ـ حديثنا هنا عن مذكرات صائب سلام التي صدرت للتوّ في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة مهمّة شارك هو في صنع بعضها.
ويمكن لأي قارئ أن يشخّص عن بُعد أن صائب سلام كان يعاني من مرض مستعصٍ مِن معاداة الشيوعيّة. كان ينفرُ من مرور أي شيوعي أمامه، والشيوعيّة عنده أدنى مراحل المستويات البشريّة. وكان صائب يتلاقى مع بيار الجميّل في تصريحات شبه يوميّة قبل الحرب يحذّر فيها الاثنان من اليسار وأخطار اليسار: بيار الجميل كان يحذّر من «اليسار الإرهابي»، وصائب كان يحذّر من «اليسار الهدّام» (وكان يصف اليمين بـ«الغبي» لأنه لم يكن يُحسن التعامل مع أخطار اليسار). وصائب كان على حق في معاداته لليسار لأن اليسار جذب جمهور بيروت وباقي المناطق التي كان صائب يسعى لزعامتها: فوز نجاح واكيم ضد مرشّح صائب في انتخابات 1972 كان صادماً له.
وهناك سبب آخر لنفور صائب من اليسار الشيوعي: هو كان يرى (وقال ذلك في حينه بصريح العبارة وأورد ذلك في اليوميّات) أن السعوديّة نبذت المسلمين السنّة (ونبذت تمويل صائب) لأنها كانت ترى أن المسلمين انجرّوا وراء اليسار، فيما هي أنفقت على تمويل وتسليح ميليشيات اليمين لأنها تلاقت معها في العقيدة. ويكاد مستوى معاداة الشيوعيّة واشتمام مؤامرات شيوعيّة في كل أمر وناحية أن يصل إلى نفس مستوى السيناتور جوزيف ماكرثي الذي أصبح اسمه صنواً لعقيدة معاداة الشيوعيّة وتكبير حجم نفوذها وأخطارها. صائب مثلاً يعتقد أنه كان هناك في النقابات العمّاليّة في لبنان مؤامرة اشترك فيها هنري فرعون وخليل الخوري والشيوعيّون (ص. 190). لكن كيف يمكن أن يتفق أقطاب البورجوازيّة مع الشيوعيّين، يا صائب؟ هل هنري فرعون كان يستضيف البروليتاريا في قصره، وكان الخوري يستضيف البروليتاريا في منتجعه على الشاطئ اللازوردي؟ ويقول صائب إن «شيوعيّاً عنيفاً» كان يقود نقابة عمّال الكهرباء. لكن رجال الدرك هم الذين أطلقوا النار على تظاهرة دعا إليها «الشيوعي العنيف» هذا، أي أن العنف كان من جانب السلطة وإن كان صائب قد برّر للسلطة قتلها لعاملة متظاهرة. وطبعاً، لم يفت صائب أن «يلطّش» خصومه من زعماء السنّة فجعل من عبد الله اليافي مشاركاً في المؤامرة الشيوعيّة لكن كمجرّد تابع لهنري فرعون. لكن بالرغم من تكرار التعبير عن فوبيا ضد الشيوعية في الكتاب، فإن صائب، المتبجّح دوماً وأبداً، يقول من دون تردّد: «الشيوعيون كانوا يعارضونني ويحملون عليّ دائماً من دون أن أعاملهم بالمثل، وذلك لأنني كنتُ أحرصُ على الجوّ الديموقراطي، فلا يجوز أن أكبّل نشاطهم وخصوصاً أنهم لم يكونوا يشكّلون، في نظري، أي خطر على النظام في لبنان» (ص. 202). لكن لو كانوا لا يشكّلون أي خطر على النظام، فلماذا لم تنفكّ من تحذير اللبنانيّين (والسعوديّة خلال الزيارات) من خطر الشيوعية على لبنان؟ ولماذا تبدو مهجوساً بالشيوعيّة في اليوميّات؟ لكن صائب على حق في أنه سمح لأوّل ترشّح شيوعي لبناني في الانتخابات في عام 1972، عندما ترشّح الأمين العام للحزب، نقولا الشاوي، عن مقعد في طرابلس. والمفارقة أن الذي منع الشاوي من الترشح في انتخابات 1968 هو وزير الداخليّة آنذاك، سليمان فرنجيّة، بحجّة أن الحزب غير مرخّص له. وكان فرنجيّة حليفاً لسلام في تكتّل الوسط.
وهناك لازمة في اليوميّات: إن صائب يستفيض في الحديث عن إنجازاته ومهاراته وقدراته (مثلما استفاض في الحديث عن ولايته في وزارة الداخلية لمدة أشهر فقط في عام 1946)، ثم يستشهد بأبيات في مديحه من عمر الزعني («اسمه صائب، فكره صائب، في الشدائد والمصائب، ما بصائب إلا صائب») لكنه يختم بالقول: «وأعتذر من القارئ مرّة أخرى، فقد شرحت كل هذا، كما ذكرتُ في مطلع الحديث عن وزارة الداخليّة، آملاً ألّا يأخذه القارئ على محمل التباهي، والعياذ بالله من الغرور الذي يبقى في نظري أخطر أمراض الرجال» (ص. 199). لكن تحذير صائب من الغرور القاتل لم يصله لأن اليوميّات تحفل بتمجيد وتعظيم الذات. هو يتحدّث كيف أن الشيخ أحمد حمّود (في انتخابات 1951) كان يغدق عليه «صفات الزعامة والكرم والإقدام» ويلقّبه بـ«الرجل الحديدي» (ص. 227) لكنه عندما كان يصل إلى عبد الله اليافي كان «يكتفي بذكر نزاهته». عداء سلام لليافي رافقه لسنوات طويلة ولم يخبُ حتى بعد تقاعد اليافي عن السياسة. وقد يعود ذلك إلى أن اليافي نجح في خلق زعامة بيروتية عصاميّة لنفسه. ثم هل صائب يعتبر أن صفة النزاهة هي أمر عابر أو مديح صغير أمام صفة «الرجل الحديدي»؟ ألا تُعَدّ النزاهة في لبنان اليوم من أهم معايير السياسة بعد انهيار الاقتصاد بسبب الفساد وسوء الإدارة؟ لكن سلام يزعم أن إطلاق صفة النزاهة (فقط) عليه أزعجت اليافي وأنه عاتبَ الشيخ حمّود على ذلك (ما دليله أنه عاتبه؟ كيف عرف صائب بذلك؟).
ونتعلّم الكثير عن عالم الصحافة والمثقّفين من يوميّات صائب لأنه أحياناً يفضح العلاقة بين التمويل والصحافي. يقول عن الصحافي إسكندر رياشي (الذي أُعيد نشر كتاباته أخيراً والذي تعتبره صحيفة «النهار» وغيرها مدرسة في أصول الصحافة) أنه قال له: «قلبي معك… ويدي في جيبة سامي»، في إشارة إلى سامي الصلح (ص. 200) وتمويله لصحافيّين مستفيداً من تمويل أميركي له. هذه العلاقة بين مواقف الكتّاب والصحافيّين وبين التمويل مسألة لا يتمّ التطرّق إليها في الصحافة العربيّة لأنها خاضعة بالمطلق للتمويل على أنواعه، مع طغيان للتمويل السعودي والإماراتي وتمويل أصحاب المليارات. لم يكن صعود رفيق الحريري في الزعامة السياسيّة منفصلاً عن ابتياعه للأقلام، والحريري ارتقى بمستوى شراء الأقلام والسياسيّين إلى مستوى من الفساد لم يعرفه لبنان من قبل. وحده سركيس نعّوم، في كتاب «من مزيارة إلى واشنطن»، يتحدّث بصراحة ومن دون أي حرج مهني عن تلقّيه مرتّبات من سياسيّين، لكنه يصرّ على أنه كان حرّاً ومستقلاً في آرائه ومواقفه بالرغم من ذلك.
وصائب الذي كان محسوباً (ظلماً حسب ما يقول) على البريطانيّين يظهر في اليوميّات معارضاً للتدخّل البريطاني الصفيق في الشؤون العربيّة. وهو يذكر مارون عرب، «المستشار الشرقي» للسفارة البريطانيّة في بيروت، والذي كان في زمانه أوسع نفوذاً وأقوى سلطة من معظم الساسة في لبنان. وكان الزعماء يتقاطرون عنده لنيل الرضى والتعليمات. ويصف صائب مؤتمر الجامعة العربيّة الشهير حول القضيّة الفلسطينية والذي عُقد في بلودان في حزيران 1946: يقول صائب إن المندوب السياسي الإنكليزي «كلايتون» حضر المؤتمر وعقد اجتماعات وراء الكواليس مع بعض أعضاء الوفود العربيّة المشاركة في المؤتمر. ويقول صائب إنه رفض طلبه للاجتماع ووجد في حضوره «وقاحة ما بعدها وقاحة» (ص. 200). وكلايتون هذا هو ليس الجنرال غلبرت كلايتون الذي تحدّث عنه لورنس العرب في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» بل أخوه إلتد. إلتد كان مسؤول المخابرات للشرق الأوسط للجنرال ألنبي، فيما كان أخوه ضابط مخابرات خلال الحكومة الفيصليّة، وأصبح إلتد في ما بعد مسؤولاً استخباراتيّاً رفيعاً لشؤون الشرق الأوسط، ويظهر حجم دوره وتدخّلاته في أرشيف التقارير الاستخباراتية الفرنسيّة (راجع كتاب «الحرب الأنجلو - فرنسيّة السريّة في الشرق الأوسط: استخبارات وتحرّر من الاستعمار، 1940-1948»، ص 37). وترّقى كلايتون هذا في المناصب وكان يجنّد المستعربين وقام بدور في حرب 1948. وجمع بين التواصل مع الزعماء العرب والهاغاناه. كان من صانعي القرار في السياسة البريطانيّة نحو الشرق الأوسط. أي أن الجامعة العربيّة كانت تبحث في خطة للدفاع عن فلسطين بحضور ممثّل عن حكومة وعد بلفور. ويقول صائب إن المجتمعين أصدروا أكذوبة «المقرّرات السريّة» لمؤتمر بلودان وذلك لخداع الرأي العام العربي المشغول آنذاك بخطر الهجمة الصهيونيّة. يقول صائب — وكان حاضراً لاجتماع الجامعة العربيّة المذكور: «أجزم بشكل قاطع، أنه لم يكن هنالك من مقرّرات سريّة، كما أذيع ونُشر من أخبار هدفها التهويل على الرأي العام العربي» (ص. 201). ورياض الصلح كان من الزعماء العرب الذين واظبوا على التصريح عن «مقرّرات سريّة» حتى حلول النكبة (راجع مجلّة «المصوّر» المصريّة قبل أسابيع من النكبة وفيها تصريحات الصلح عن مخططات سريّة).
وتتوضّح أساليب وطرق السياسة والانتخابات في لبنان من الحديث الصريح لصائب. يقول عن ضمّه لفيليب تامر على قائمته في بيروت في عام 1947 ما يأتي: «اضطررتُ إلى ملء المركز الأرثوذكسي بشخص صاحب ثراء هو فيليب تامر من أبناء الكورة وليس له أيّة اتصالات شعبيّة في بيروت، وإنما اخترته لمجرّد الاستعانة به للقيام بمصاريف اللائحة» (ص. 204). وفي هذا لا يختلف سلام عن باقي الزعماء في لبنان — كل الزعماء في لبنان — وإلا لماذا كان كمال جنبلاط يأتي بتوفيق عسّاف وفؤاد الطحيني وسالم عبد النور؟ حتماً ليس لاشتراكيّتهم. لكن صاحب المال لا يفي بالغرض دائماً، إذ هُزمَ كامل الأسعد في انتخابات 1974 الفرعية في النبطيّة عندما حاول أن يستعين بثري (كامل علي أحمد) كي يفوز بمقعد نيابي بعد وفاة النائب فهمي شاهين (خسر علي أحمد الانتخابات وفاز مرشّح موسى الصدر، رفيق شاهين).
ويتحدّث صائب عن بدائية استعداد الجيش السوري لمعركة فلسطين، وكيف أنه حاول تقديم متطوّع ضابط بريطاني طيّار للمساهمة في الحرب ضد إسرائيل، لكن قيادة الجيش السوري (بشخص قائد سلاح الطيران) ردّته على أعقابه بعدما أرسله صائب مع وليد الخالدي. (ص. 210-211). هي مثال واحد من أمثلة عديدة عن عدم جديّة كل الحكومات العربيّة في حينه في التصدّي للخطر الصهيوني، وكانت تلك الحكومات مرتهنة إمّا لفرنسا أو لبريطانيا أو للاثنتين معاً، مثل لبنان.
ومرّة أخرى يبخسُ صائب حقَّ شقيقه، محمد، في الحديث عن «المقاصد». يقول إنه عقد اجتماعاً لجمعيّة «المقاصد» مع بلديّة بيروت ويصف محمد سلام (الذي قاد «المقاصد» لتسع سنوات) بـ«مدير إدارتها الذي كان ملازماً لعمر الداعوق ويده اليمنى» (ص. 212). لم يكن بمستطاع صائب تحمّل بروز (سياسي أو في مجال الأعمال) لأي فرد آخر من عائلة سلام — وإن كان بعد ذلك يعترف، عرضاً، بأنه كان لمحمد «مكانة مرموقة في الجمعيّة» (ص. 213) لكن لصائب وحده «الرصيد الشعبي». وعن شركة «طيران الشرق الأوسط»، يذكر دوره وحده كمؤسّس «بمعاونة الشاب اللامع… فوزي الحصّ» (ص. 222). لكن محمد سلام كان من المؤسّسين وهو أدارها. والطيّار فوزي الحصّ تلقّى من التشنيع والإهانات والذمّ الكثير في هذا الكتاب، ما يشير إلى طغيان الضغائن والحقد على شخصيّته. هل نقمة وحقد سلام على الحصّ (الذي لا يمكن إنكار دوره في تأسيس شركة «طيران الشرق الأوسط») يعودان إلى أنه ترشّح ضدّه على قائمة سامي الصلح بعد الحرب في 1958؟ لا بل هو يصفه بأشنع الصفات. فوزي الحص هو — حسب صائب — نصّاب ومُهرِّب وسارق وفاسد، كما أنه جاسوس. هكذا يستسهل صائب إطلاق النعوت والصفات والاتهامات ضد خصومه، ومن دون تقديم أدلّة. يقول عن الحصّ إنه كان يهرّب الخضَر والعملة إلى الرياض، والذهب إلى الهند. ويذكر أنه فصل فوزي الحص من الخدمة، لكنه لا يذكر مضمون الدعوى التي أقامها ضدّه الحصّ (ص. 224، لا يذكر أن الحصّ كان يملك ثلث الشركة، فيما ملك آل سلام الثلثيْن). قد يكون فوزي الحصّ تورّط في فساد، لكن مصداقيّة صائب — أو ضعف مصداقية صائب نحو خصومه — لا تسمح لنا بقبول الاتهام من دون دليل وقرائن. لكن شخصيّة صائب وحقده يتجلّيان أكثر في ما ساقه من اتهامات أدهى للحص، إذ هو زعم أن عميل «السي آي إي» الشهير، ويبر إيفلاند، ذكرَ في كتابه «حبال من رمل» أن فوزي الحص كان يمدّ المخابرات الأميركيّة بمعلومات عن «الثورة» في لقاءات يوميّة في فندق السان جورج (ص. 315). المشكلة في تخوين سلام للحص أن الكتاب مُتاح للناس للتحقّق من صحة الاتهام، وليس في الكتاب ذكر للحصّ أو سلام. والخبر واضح في هزاله: ما هي المعلومات المهمة التي كانت الدولة الكبرى تريد الحصول عليها عن «ثوّار» لبنان في عام 1958؟ ووصف «الثورة» لما جرى في ذلك العام في لبنان كان «مبهبطاً» لكن ليس بنفس درجة وصف «الثورة» على ما جرى في لبنان في الأعوام الماضية منذ الانهيار الاقتصادي الكبير. لكن هل إن الحقد يصل بصائب إلى اختلاق صفة ووظيفة العمالة لخصم (سياسي وبزنس له) والاعتماد على مصدر غير موجود؟ وهو فعلها من قبل في حالة الشيخ كامل القصّاب. كتاب «حبال من رمل» يفضح الكثير عن السياسة اللبنانية وعن كيف أن المخابرات الأميركيّة ابتاعت انتخابات 1957 لكميل شمعون وكيف أن شارل مالك (لا يزالون يزهون به في لبنان) كان مجرّد أداة بيد الحكومة الأميركيّة (يروي صائب في الكتاب كيف أن مالك كان يبدو عاجزاً عن اتخاذ القرار في إذا ما كان يريد أن يشغل منصباً وزارياً أو لا وكيف أنه كان يضع شروطاً تعجيزيّة ربما بإيعاز أميركي، حسب صائب. لكن كتاب «حبال من رمال» يحسم الأمر عن الدور السياسي لمالك، الذي لم يترشّح في انتخابات 1957 إلا بأمر أميركي). ويذكر إيفلاند كيف أن مال المخابرات الأميركيّة تدفّق على سامي الصلح لدعم المرشحين المسلمين الموالين لشمعون (يروي إيفلاند أيضاً أن زلفا شمعون أعطت علبة مجوهراتها لإيفلاند لحفظها).
ad
ويزهو صائب بنفسه ويقول إن أحمد سامح الخالدي أطلق عليه وصف «المشاريعي» لكن رصيد سلام من التشريع والمشاريع كان ضئيلاً جداً. وكان خصوم صائب يعيّرونه بذلك في الانتخابات (حصل كل من عبد الله اليافي وعثمان الدنا على عدد أصوات يفوق عدد الأصوات التي حصل عليها صائب في انتخابات 1968). وفي نطاق مشاريعه، يذكر «مشروع الدوحة» في عام 1953 من دون أن يذكر مساهمة هاني سلام فيه، ومن دون أن يذكر أنه مشروع خاص وليس عاماً أو ذات منفعة عامّة (ص. 221). ويعترف سلام في الكتاب بأن «الفضل» لدخول أوّل كتائبي إلى المجلس النيابي يعود له، إذ هو حمل جوزيف شادر، نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانيّة، على قائمته في انتخابات عام 1951. لكن صائب اشترط عليه أن ينزع من سترته «الزرّ الكتائبي» (ص. 226). لا ندري تأثير نزع الزرّ الخطير على مسيرة حزب الكتائب أو على دورها، وخصوصاً أنه عاد وسلّم في آخر سنواته بمسؤوليّة حزب الكتائب الإجراميّة عن الحرب الأهليّة. وهو فعل الشيء نفسه مع سليمان فرنجيّة: زها أنه كان أوّل من طرح اسمه مرشحاً للرئاسة في عام 1970 قبل أن يحمّله بعد ثلاث سنوات فقط المسؤولية عن خراب البلاد وقتل العباد.
ويصف صائب زيارته الأولى للسعوديّة ولقاءه الملك عبد العزيز، بعدما كان قد صادق أمراء آل سعود في بيروت (كان أولاد عبد العزيز — باستثناء فيصل وخالد ربما — شبه مقيمين في بيروت لما كان لمحلّة الزيتونة من سمعة حسنة عندهم، ربما لجودة أطباق مطاعمها وحسن ضيافتها الزاهدة). وجلس عبد العزيز في اللقاء المذكور على «كرسيّه العالي» وهو يحدّث سلام في شؤون السياسة والإعلام. وكان صائب يصطحب وفداً صحافياً، وإذا بعبد العزيز يقول: «مُلك الملك عبد العزيز لا يقوم إلا على الحق والعدل… أنا أعلمك والله أعلمك… لا يخرب المُلك إلا الصحافة والصحافيّون… والله لا مكان للصحافة في بلدنا ولا يدخل الصحافيون إلى هذا البلد… الصحافيّون… خسئوا خسئوا والله ما يدخلوا بلدنا» (ص. 240). وليس من المبالغة القول إن السعوديّة لم تعرف الصحافة في تاريخها (باستثناء الصحافة المعارضة السريّة وشبه السريّة) وأن النظام لم يسمح إلا بأبواق دعاية فقط. والطريف أن قدري قلعجي (صحافي وكاتب نبذَ الشيوعية واحتضنته دول الخليج لأنه كان من أوائل المتخصّصين في ذمّ الشيوعيّة — وكلّفته حكومة الكويت بشراء الصحافيّين اللبنانيّين إبّان الأزمة مع العراق في 1961، وقد روى ذلك إبراهيم سلامة في كتابه، «غداً سندخل المدينة») كتبَ عن حبّ الملك عبد العزيز للحريّات. ومن المنطقي السؤال عن سبب تقاطر الصحافيّين إلى السعوديّة — آنذاك واليوم وأمس — بالرغم من أن فلسفة الملك المؤسّس كانت صريحة جداً بالنسبة إلى معاداة الإعلام من أساسه. ومن هذا المقطع نستشفّ أن صائب في يوميّاته الخاصّة كان — خلافاً لكلامه العلني — صريحاً جداً وناقداً للنظام السعودي الذي لم يقل في نقده كلمة في العلن عبر السنوات.
ويمكن لأي قارئ أن يشخّص عن بُعد أن صائب سلام كان يعاني من مرض مستعصٍ مِن معاداة الشيوعيّة. كان ينفرُ من مرور أي شيوعي أمامه، والشيوعيّة عنده أدنى مراحل المستويات البشريّة. وكان صائب يتلاقى مع بيار الجميّل في تصريحات شبه يوميّة قبل الحرب يحذّر فيها الاثنان من اليسار وأخطار اليسار: بيار الجميل كان يحذّر من «اليسار الإرهابي»، وصائب كان يحذّر من «اليسار الهدّام» (وكان يصف اليمين بـ«الغبي» لأنه لم يكن يُحسن التعامل مع أخطار اليسار). وصائب كان على حق في معاداته لليسار لأن اليسار جذب جمهور بيروت وباقي المناطق التي كان صائب يسعى لزعامتها: فوز نجاح واكيم ضد مرشّح صائب في انتخابات 1972 كان صادماً له.
وهناك سبب آخر لنفور صائب من اليسار الشيوعي: هو كان يرى (وقال ذلك في حينه بصريح العبارة وأورد ذلك في اليوميّات) أن السعوديّة نبذت المسلمين السنّة (ونبذت تمويل صائب) لأنها كانت ترى أن المسلمين انجرّوا وراء اليسار، فيما هي أنفقت على تمويل وتسليح ميليشيات اليمين لأنها تلاقت معها في العقيدة. ويكاد مستوى معاداة الشيوعيّة واشتمام مؤامرات شيوعيّة في كل أمر وناحية أن يصل إلى نفس مستوى السيناتور جوزيف ماكرثي الذي أصبح اسمه صنواً لعقيدة معاداة الشيوعيّة وتكبير حجم نفوذها وأخطارها. صائب مثلاً يعتقد أنه كان هناك في النقابات العمّاليّة في لبنان مؤامرة اشترك فيها هنري فرعون وخليل الخوري والشيوعيّون (ص. 190). لكن كيف يمكن أن يتفق أقطاب البورجوازيّة مع الشيوعيّين، يا صائب؟ هل هنري فرعون كان يستضيف البروليتاريا في قصره، وكان الخوري يستضيف البروليتاريا في منتجعه على الشاطئ اللازوردي؟ ويقول صائب إن «شيوعيّاً عنيفاً» كان يقود نقابة عمّال الكهرباء. لكن رجال الدرك هم الذين أطلقوا النار على تظاهرة دعا إليها «الشيوعي العنيف» هذا، أي أن العنف كان من جانب السلطة وإن كان صائب قد برّر للسلطة قتلها لعاملة متظاهرة. وطبعاً، لم يفت صائب أن «يلطّش» خصومه من زعماء السنّة فجعل من عبد الله اليافي مشاركاً في المؤامرة الشيوعيّة لكن كمجرّد تابع لهنري فرعون. لكن بالرغم من تكرار التعبير عن فوبيا ضد الشيوعية في الكتاب، فإن صائب، المتبجّح دوماً وأبداً، يقول من دون تردّد: «الشيوعيون كانوا يعارضونني ويحملون عليّ دائماً من دون أن أعاملهم بالمثل، وذلك لأنني كنتُ أحرصُ على الجوّ الديموقراطي، فلا يجوز أن أكبّل نشاطهم وخصوصاً أنهم لم يكونوا يشكّلون، في نظري، أي خطر على النظام في لبنان» (ص. 202). لكن لو كانوا لا يشكّلون أي خطر على النظام، فلماذا لم تنفكّ من تحذير اللبنانيّين (والسعوديّة خلال الزيارات) من خطر الشيوعية على لبنان؟ ولماذا تبدو مهجوساً بالشيوعيّة في اليوميّات؟ لكن صائب على حق في أنه سمح لأوّل ترشّح شيوعي لبناني في الانتخابات في عام 1972، عندما ترشّح الأمين العام للحزب، نقولا الشاوي، عن مقعد في طرابلس. والمفارقة أن الذي منع الشاوي من الترشح في انتخابات 1968 هو وزير الداخليّة آنذاك، سليمان فرنجيّة، بحجّة أن الحزب غير مرخّص له. وكان فرنجيّة حليفاً لسلام في تكتّل الوسط.
وهناك لازمة في اليوميّات: إن صائب يستفيض في الحديث عن إنجازاته ومهاراته وقدراته (مثلما استفاض في الحديث عن ولايته في وزارة الداخلية لمدة أشهر فقط في عام 1946)، ثم يستشهد بأبيات في مديحه من عمر الزعني («اسمه صائب، فكره صائب، في الشدائد والمصائب، ما بصائب إلا صائب») لكنه يختم بالقول: «وأعتذر من القارئ مرّة أخرى، فقد شرحت كل هذا، كما ذكرتُ في مطلع الحديث عن وزارة الداخليّة، آملاً ألّا يأخذه القارئ على محمل التباهي، والعياذ بالله من الغرور الذي يبقى في نظري أخطر أمراض الرجال» (ص. 199). لكن تحذير صائب من الغرور القاتل لم يصله لأن اليوميّات تحفل بتمجيد وتعظيم الذات. هو يتحدّث كيف أن الشيخ أحمد حمّود (في انتخابات 1951) كان يغدق عليه «صفات الزعامة والكرم والإقدام» ويلقّبه بـ«الرجل الحديدي» (ص. 227) لكنه عندما كان يصل إلى عبد الله اليافي كان «يكتفي بذكر نزاهته». عداء سلام لليافي رافقه لسنوات طويلة ولم يخبُ حتى بعد تقاعد اليافي عن السياسة. وقد يعود ذلك إلى أن اليافي نجح في خلق زعامة بيروتية عصاميّة لنفسه. ثم هل صائب يعتبر أن صفة النزاهة هي أمر عابر أو مديح صغير أمام صفة «الرجل الحديدي»؟ ألا تُعَدّ النزاهة في لبنان اليوم من أهم معايير السياسة بعد انهيار الاقتصاد بسبب الفساد وسوء الإدارة؟ لكن سلام يزعم أن إطلاق صفة النزاهة (فقط) عليه أزعجت اليافي وأنه عاتبَ الشيخ حمّود على ذلك (ما دليله أنه عاتبه؟ كيف عرف صائب بذلك؟).
ونتعلّم الكثير عن عالم الصحافة والمثقّفين من يوميّات صائب لأنه أحياناً يفضح العلاقة بين التمويل والصحافي. يقول عن الصحافي إسكندر رياشي (الذي أُعيد نشر كتاباته أخيراً والذي تعتبره صحيفة «النهار» وغيرها مدرسة في أصول الصحافة) أنه قال له: «قلبي معك… ويدي في جيبة سامي»، في إشارة إلى سامي الصلح (ص. 200) وتمويله لصحافيّين مستفيداً من تمويل أميركي له. هذه العلاقة بين مواقف الكتّاب والصحافيّين وبين التمويل مسألة لا يتمّ التطرّق إليها في الصحافة العربيّة لأنها خاضعة بالمطلق للتمويل على أنواعه، مع طغيان للتمويل السعودي والإماراتي وتمويل أصحاب المليارات. لم يكن صعود رفيق الحريري في الزعامة السياسيّة منفصلاً عن ابتياعه للأقلام، والحريري ارتقى بمستوى شراء الأقلام والسياسيّين إلى مستوى من الفساد لم يعرفه لبنان من قبل. وحده سركيس نعّوم، في كتاب «من مزيارة إلى واشنطن»، يتحدّث بصراحة ومن دون أي حرج مهني عن تلقّيه مرتّبات من سياسيّين، لكنه يصرّ على أنه كان حرّاً ومستقلاً في آرائه ومواقفه بالرغم من ذلك.
وصائب الذي كان محسوباً (ظلماً حسب ما يقول) على البريطانيّين يظهر في اليوميّات معارضاً للتدخّل البريطاني الصفيق في الشؤون العربيّة. وهو يذكر مارون عرب، «المستشار الشرقي» للسفارة البريطانيّة في بيروت، والذي كان في زمانه أوسع نفوذاً وأقوى سلطة من معظم الساسة في لبنان. وكان الزعماء يتقاطرون عنده لنيل الرضى والتعليمات. ويصف صائب مؤتمر الجامعة العربيّة الشهير حول القضيّة الفلسطينية والذي عُقد في بلودان في حزيران 1946: يقول صائب إن المندوب السياسي الإنكليزي «كلايتون» حضر المؤتمر وعقد اجتماعات وراء الكواليس مع بعض أعضاء الوفود العربيّة المشاركة في المؤتمر. ويقول صائب إنه رفض طلبه للاجتماع ووجد في حضوره «وقاحة ما بعدها وقاحة» (ص. 200). وكلايتون هذا هو ليس الجنرال غلبرت كلايتون الذي تحدّث عنه لورنس العرب في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» بل أخوه إلتد. إلتد كان مسؤول المخابرات للشرق الأوسط للجنرال ألنبي، فيما كان أخوه ضابط مخابرات خلال الحكومة الفيصليّة، وأصبح إلتد في ما بعد مسؤولاً استخباراتيّاً رفيعاً لشؤون الشرق الأوسط، ويظهر حجم دوره وتدخّلاته في أرشيف التقارير الاستخباراتية الفرنسيّة (راجع كتاب «الحرب الأنجلو - فرنسيّة السريّة في الشرق الأوسط: استخبارات وتحرّر من الاستعمار، 1940-1948»، ص 37). وترّقى كلايتون هذا في المناصب وكان يجنّد المستعربين وقام بدور في حرب 1948. وجمع بين التواصل مع الزعماء العرب والهاغاناه. كان من صانعي القرار في السياسة البريطانيّة نحو الشرق الأوسط. أي أن الجامعة العربيّة كانت تبحث في خطة للدفاع عن فلسطين بحضور ممثّل عن حكومة وعد بلفور. ويقول صائب إن المجتمعين أصدروا أكذوبة «المقرّرات السريّة» لمؤتمر بلودان وذلك لخداع الرأي العام العربي المشغول آنذاك بخطر الهجمة الصهيونيّة. يقول صائب — وكان حاضراً لاجتماع الجامعة العربيّة المذكور: «أجزم بشكل قاطع، أنه لم يكن هنالك من مقرّرات سريّة، كما أذيع ونُشر من أخبار هدفها التهويل على الرأي العام العربي» (ص. 201). ورياض الصلح كان من الزعماء العرب الذين واظبوا على التصريح عن «مقرّرات سريّة» حتى حلول النكبة (راجع مجلّة «المصوّر» المصريّة قبل أسابيع من النكبة وفيها تصريحات الصلح عن مخططات سريّة).
وتتوضّح أساليب وطرق السياسة والانتخابات في لبنان من الحديث الصريح لصائب. يقول عن ضمّه لفيليب تامر على قائمته في بيروت في عام 1947 ما يأتي: «اضطررتُ إلى ملء المركز الأرثوذكسي بشخص صاحب ثراء هو فيليب تامر من أبناء الكورة وليس له أيّة اتصالات شعبيّة في بيروت، وإنما اخترته لمجرّد الاستعانة به للقيام بمصاريف اللائحة» (ص. 204). وفي هذا لا يختلف سلام عن باقي الزعماء في لبنان — كل الزعماء في لبنان — وإلا لماذا كان كمال جنبلاط يأتي بتوفيق عسّاف وفؤاد الطحيني وسالم عبد النور؟ حتماً ليس لاشتراكيّتهم. لكن صاحب المال لا يفي بالغرض دائماً، إذ هُزمَ كامل الأسعد في انتخابات 1974 الفرعية في النبطيّة عندما حاول أن يستعين بثري (كامل علي أحمد) كي يفوز بمقعد نيابي بعد وفاة النائب فهمي شاهين (خسر علي أحمد الانتخابات وفاز مرشّح موسى الصدر، رفيق شاهين).
ويتحدّث صائب عن بدائية استعداد الجيش السوري لمعركة فلسطين، وكيف أنه حاول تقديم متطوّع ضابط بريطاني طيّار للمساهمة في الحرب ضد إسرائيل، لكن قيادة الجيش السوري (بشخص قائد سلاح الطيران) ردّته على أعقابه بعدما أرسله صائب مع وليد الخالدي. (ص. 210-211). هي مثال واحد من أمثلة عديدة عن عدم جديّة كل الحكومات العربيّة في حينه في التصدّي للخطر الصهيوني، وكانت تلك الحكومات مرتهنة إمّا لفرنسا أو لبريطانيا أو للاثنتين معاً، مثل لبنان.
ومرّة أخرى يبخسُ صائب حقَّ شقيقه، محمد، في الحديث عن «المقاصد». يقول إنه عقد اجتماعاً لجمعيّة «المقاصد» مع بلديّة بيروت ويصف محمد سلام (الذي قاد «المقاصد» لتسع سنوات) بـ«مدير إدارتها الذي كان ملازماً لعمر الداعوق ويده اليمنى» (ص. 212). لم يكن بمستطاع صائب تحمّل بروز (سياسي أو في مجال الأعمال) لأي فرد آخر من عائلة سلام — وإن كان بعد ذلك يعترف، عرضاً، بأنه كان لمحمد «مكانة مرموقة في الجمعيّة» (ص. 213) لكن لصائب وحده «الرصيد الشعبي». وعن شركة «طيران الشرق الأوسط»، يذكر دوره وحده كمؤسّس «بمعاونة الشاب اللامع… فوزي الحصّ» (ص. 222). لكن محمد سلام كان من المؤسّسين وهو أدارها. والطيّار فوزي الحصّ تلقّى من التشنيع والإهانات والذمّ الكثير في هذا الكتاب، ما يشير إلى طغيان الضغائن والحقد على شخصيّته. هل نقمة وحقد سلام على الحصّ (الذي لا يمكن إنكار دوره في تأسيس شركة «طيران الشرق الأوسط») يعودان إلى أنه ترشّح ضدّه على قائمة سامي الصلح بعد الحرب في 1958؟ لا بل هو يصفه بأشنع الصفات. فوزي الحص هو — حسب صائب — نصّاب ومُهرِّب وسارق وفاسد، كما أنه جاسوس. هكذا يستسهل صائب إطلاق النعوت والصفات والاتهامات ضد خصومه، ومن دون تقديم أدلّة. يقول عن الحصّ إنه كان يهرّب الخضَر والعملة إلى الرياض، والذهب إلى الهند. ويذكر أنه فصل فوزي الحص من الخدمة، لكنه لا يذكر مضمون الدعوى التي أقامها ضدّه الحصّ (ص. 224، لا يذكر أن الحصّ كان يملك ثلث الشركة، فيما ملك آل سلام الثلثيْن). قد يكون فوزي الحصّ تورّط في فساد، لكن مصداقيّة صائب — أو ضعف مصداقية صائب نحو خصومه — لا تسمح لنا بقبول الاتهام من دون دليل وقرائن. لكن شخصيّة صائب وحقده يتجلّيان أكثر في ما ساقه من اتهامات أدهى للحص، إذ هو زعم أن عميل «السي آي إي» الشهير، ويبر إيفلاند، ذكرَ في كتابه «حبال من رمل» أن فوزي الحص كان يمدّ المخابرات الأميركيّة بمعلومات عن «الثورة» في لقاءات يوميّة في فندق السان جورج (ص. 315). المشكلة في تخوين سلام للحص أن الكتاب مُتاح للناس للتحقّق من صحة الاتهام، وليس في الكتاب ذكر للحصّ أو سلام. والخبر واضح في هزاله: ما هي المعلومات المهمة التي كانت الدولة الكبرى تريد الحصول عليها عن «ثوّار» لبنان في عام 1958؟ ووصف «الثورة» لما جرى في ذلك العام في لبنان كان «مبهبطاً» لكن ليس بنفس درجة وصف «الثورة» على ما جرى في لبنان في الأعوام الماضية منذ الانهيار الاقتصادي الكبير. لكن هل إن الحقد يصل بصائب إلى اختلاق صفة ووظيفة العمالة لخصم (سياسي وبزنس له) والاعتماد على مصدر غير موجود؟ وهو فعلها من قبل في حالة الشيخ كامل القصّاب. كتاب «حبال من رمل» يفضح الكثير عن السياسة اللبنانية وعن كيف أن المخابرات الأميركيّة ابتاعت انتخابات 1957 لكميل شمعون وكيف أن شارل مالك (لا يزالون يزهون به في لبنان) كان مجرّد أداة بيد الحكومة الأميركيّة (يروي صائب في الكتاب كيف أن مالك كان يبدو عاجزاً عن اتخاذ القرار في إذا ما كان يريد أن يشغل منصباً وزارياً أو لا وكيف أنه كان يضع شروطاً تعجيزيّة ربما بإيعاز أميركي، حسب صائب. لكن كتاب «حبال من رمال» يحسم الأمر عن الدور السياسي لمالك، الذي لم يترشّح في انتخابات 1957 إلا بأمر أميركي). ويذكر إيفلاند كيف أن مال المخابرات الأميركيّة تدفّق على سامي الصلح لدعم المرشحين المسلمين الموالين لشمعون (يروي إيفلاند أيضاً أن زلفا شمعون أعطت علبة مجوهراتها لإيفلاند لحفظها).
ad
ويزهو صائب بنفسه ويقول إن أحمد سامح الخالدي أطلق عليه وصف «المشاريعي» لكن رصيد سلام من التشريع والمشاريع كان ضئيلاً جداً. وكان خصوم صائب يعيّرونه بذلك في الانتخابات (حصل كل من عبد الله اليافي وعثمان الدنا على عدد أصوات يفوق عدد الأصوات التي حصل عليها صائب في انتخابات 1968). وفي نطاق مشاريعه، يذكر «مشروع الدوحة» في عام 1953 من دون أن يذكر مساهمة هاني سلام فيه، ومن دون أن يذكر أنه مشروع خاص وليس عاماً أو ذات منفعة عامّة (ص. 221). ويعترف سلام في الكتاب بأن «الفضل» لدخول أوّل كتائبي إلى المجلس النيابي يعود له، إذ هو حمل جوزيف شادر، نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانيّة، على قائمته في انتخابات عام 1951. لكن صائب اشترط عليه أن ينزع من سترته «الزرّ الكتائبي» (ص. 226). لا ندري تأثير نزع الزرّ الخطير على مسيرة حزب الكتائب أو على دورها، وخصوصاً أنه عاد وسلّم في آخر سنواته بمسؤوليّة حزب الكتائب الإجراميّة عن الحرب الأهليّة. وهو فعل الشيء نفسه مع سليمان فرنجيّة: زها أنه كان أوّل من طرح اسمه مرشحاً للرئاسة في عام 1970 قبل أن يحمّله بعد ثلاث سنوات فقط المسؤولية عن خراب البلاد وقتل العباد.
ويصف صائب زيارته الأولى للسعوديّة ولقاءه الملك عبد العزيز، بعدما كان قد صادق أمراء آل سعود في بيروت (كان أولاد عبد العزيز — باستثناء فيصل وخالد ربما — شبه مقيمين في بيروت لما كان لمحلّة الزيتونة من سمعة حسنة عندهم، ربما لجودة أطباق مطاعمها وحسن ضيافتها الزاهدة). وجلس عبد العزيز في اللقاء المذكور على «كرسيّه العالي» وهو يحدّث سلام في شؤون السياسة والإعلام. وكان صائب يصطحب وفداً صحافياً، وإذا بعبد العزيز يقول: «مُلك الملك عبد العزيز لا يقوم إلا على الحق والعدل… أنا أعلمك والله أعلمك… لا يخرب المُلك إلا الصحافة والصحافيّون… والله لا مكان للصحافة في بلدنا ولا يدخل الصحافيون إلى هذا البلد… الصحافيّون… خسئوا خسئوا والله ما يدخلوا بلدنا» (ص. 240). وليس من المبالغة القول إن السعوديّة لم تعرف الصحافة في تاريخها (باستثناء الصحافة المعارضة السريّة وشبه السريّة) وأن النظام لم يسمح إلا بأبواق دعاية فقط. والطريف أن قدري قلعجي (صحافي وكاتب نبذَ الشيوعية واحتضنته دول الخليج لأنه كان من أوائل المتخصّصين في ذمّ الشيوعيّة — وكلّفته حكومة الكويت بشراء الصحافيّين اللبنانيّين إبّان الأزمة مع العراق في 1961، وقد روى ذلك إبراهيم سلامة في كتابه، «غداً سندخل المدينة») كتبَ عن حبّ الملك عبد العزيز للحريّات. ومن المنطقي السؤال عن سبب تقاطر الصحافيّين إلى السعوديّة — آنذاك واليوم وأمس — بالرغم من أن فلسفة الملك المؤسّس كانت صريحة جداً بالنسبة إلى معاداة الإعلام من أساسه. ومن هذا المقطع نستشفّ أن صائب في يوميّاته الخاصّة كان — خلافاً لكلامه العلني — صريحاً جداً وناقداً للنظام السعودي الذي لم يقل في نقده كلمة في العلن عبر السنوات.
نيسان ـ الأخبار ـ نشر في 2022-12-06 الساعة 08:18
رأي: أسعد أبو خليل كاتب عربي