الشبكية بما هي تمرد الفرد على المركزية الاجتماعية
إبراهيم غرايبة
كاتب اردني
نيسان ـ نشر في 2022-12-08 الساعة 11:19
نيسان ـ يتلقى جميع الناس على مختلف أعمارهم وطبقاتهم أفكارهم ومعارفهم كل واحد فردا، ففي وسع الفرد اليوم أن يختار بلا حدود ما يريد أن يعرفه أو يشاهده أو يستمع إليه أو يتعلمه وفي ذلك تتعدد بلا حدود مصادر التنشئة والتفكير.
ظلت عمليات التنشئة والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي لا تأخذ بالاعتبار إلا قليلا حق الفرد في الاختلاف والخصوصية، وكانت السلطات السياسية والدينية والمجتمعات تتولى ضبط الأفراد والقيم والاتجاهات والسلوك بمنظومة من القواعد الاجتماعية والدينية والسياسية، وتعزز غالبا بتشريعات ضمنية أو صريحة، وقد ساعدت الصناعة والطباعة على مزيد من التنظيم والسيطرة الاجتماعية والأخلاقية، ثم عززت مؤسسات التعليم والعمل والإعلام هذه الاتجاهات والأفكار، وكرست عمليات تنميط وتنظيم اجتماعي وأخلاقي، وصارت تجري عمليات تهيئة وتنشئة للفاعلين الاجتماعيين ليكونوا جميعا وفق نموذج واحد مركزي يتوقع منهم جميعا أن يحققوه أو يقتربوا منه، وتكون قيمتهم وأهميتهم الاجتماعية والعملية بقدر تمثلهم لهذا النموذج المركزي، في السلوك والعمل واللباس والذوق وأسلوب الحياة،.. وبالطبع فإن الصناعة بما هي إنتاج سلع متشابهة، وكذا المطبعة بما هي إنتاج ثقافي مركزي، ثم في عمليات تنظيم واستهلاك هذه المنتجات المادية والثقافية في المناهج والمؤسسات والأدلة الإرشادية أقحمت الناس جميع الناس في عمليات تشكيل موحدة ومركزية.
لكن وعلى الدوام ظل عدد كبير من الناس يتطلع ليكون مختلفا، ليكون كما يحب ويريد، وقد أنشأت الحالة ظواهر كثيرة، مثل الصعاليك في التراث العربي، والخارجين أو اللامنتمين والمختلفين في جميع المجتمعات والعصور، وكما حذر كولن ويلسون “اللامنتمي” وهربرت ماركوز “الإنسان ذو البعد الواحد” وقسطنطين جورجيو “الساعة الخامسة والعشرون” من خطورة المركزية على الأمم والأفراد فقد تعرض للظاهرة من قبل في التراث العربي الفيلسوف العربي المصري أحمد بن علي الدلجي (ت 1368م) في كتابه الفلاكة والمفلوكون مفصلا بالشرح والسرد كيف عجز عدد كبير من الأئمة في الفكر والدين والأدب عن الاندماج في السلطة والمجتمع وكيف تعرضوا للأذى والتهميش؛ مثل الطبري والكندي والمعري وأبو حيان التوحيدي والفارابي والحلاج والسهروردي والأخفش والترمذي والخليل الفراهيدي وابن خلكان والشيرازي وابن هانئ الأندلسي والباجي وواصل بن عطاء وسيبويه وابن حزم وابن رشد وابن سينا والحسن بن الهيثم والشاطبي والنووي، ..
ويلاحظ الدلجي أن عددا كبيرا من العلماء والمثقفين تعرضوا للتهميش والألم حتى أصاب الكثير منهم آلام عقلية ونفسية، وقد لجأ بعض العلماء إلى نسبة أعمال وكتب لغيرهم طمعا في أن تلاقي الاهتمام والتوقير، وقد يولعون بالأسفار والمخاطرة بنفوسهم طمعا في الخروج مما هم فيه، ولتألمهم بذكر نقائصهم وشعورهم أن الأغنياء معرضون عنهم، وأن الفقراء لا حاجة لهم بهم.
يحلل الدلجي ظاهرة غرابة الأطوار المعروفة عن العلماء والفنانين والفلاسفة والشعراء والأدباء ويردها إلى الفقر وضيق ذات اليد وليس متعلقة حتما بالعلم والأدب كما هو شائع لدى الناس. ويراها ألصق بأهل العلم وألزم لهم من غيرهم لأسباب كثيرة، فالإمارة (الحكم) عنهم بمعزل والتجارة مبنية على المكر والكيد والآمال التي لا يقوم دليل على وقوعها، والصناعة والحرف يلزمها حيل ورذائل يأنفون عنها فيقعدون عن الاكتساب متعللين بالأماني الكاذبة فيقعون في الفقر والإملاق.
وأهل العلم يحسنون الظن بالناس على مقتضى ما يتوهمونه في أنفسهم، والناس لا يقيمون لعلومهم ومعارفهم وزنا، ويحاولون تطبيق قواعد العلم ونظرياته الدقيقة في شؤون الحياة اليومية، ولكن القضايا تختلف عن بعضها من وجوه عدة، وثقتهم بقواعدهم العلمية تجعلهم يخبطون خبطا عظيما، والعامة الذين لا يعرفون هذه العلوم ينظرون في كل قضية جزئية أمامهم نظرا جازما غير مشوش يبعد عنهم الفتور وضعف العزيمة فتنجح مساعيهم ويصيبون في ظنونهم غالبا. والعلماء بنظرتهم الفاحصة العميقة يفرضون احتمالات بعيدة ويجزمون بوقوعها، وما من شيء إلا ويطرقه احتمال المثبط عن إمضائه واستقامته فيتخلفون لذلك عن مظان الخير فيقعون في الفلاكة والإهمال. ويقضون العمر في تحصيل العلم وهو بطيء، والعلم ليس أمرا يقاس ويعرف على وجه الدقة، فهو قابل للجحد والإنكار وأن يدخل فيه غير أهله بالتلبيس والتمويه والجاه.
ظلت عمليات التنشئة والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي لا تأخذ بالاعتبار إلا قليلا حق الفرد في الاختلاف والخصوصية، وكانت السلطات السياسية والدينية والمجتمعات تتولى ضبط الأفراد والقيم والاتجاهات والسلوك بمنظومة من القواعد الاجتماعية والدينية والسياسية، وتعزز غالبا بتشريعات ضمنية أو صريحة، وقد ساعدت الصناعة والطباعة على مزيد من التنظيم والسيطرة الاجتماعية والأخلاقية، ثم عززت مؤسسات التعليم والعمل والإعلام هذه الاتجاهات والأفكار، وكرست عمليات تنميط وتنظيم اجتماعي وأخلاقي، وصارت تجري عمليات تهيئة وتنشئة للفاعلين الاجتماعيين ليكونوا جميعا وفق نموذج واحد مركزي يتوقع منهم جميعا أن يحققوه أو يقتربوا منه، وتكون قيمتهم وأهميتهم الاجتماعية والعملية بقدر تمثلهم لهذا النموذج المركزي، في السلوك والعمل واللباس والذوق وأسلوب الحياة،.. وبالطبع فإن الصناعة بما هي إنتاج سلع متشابهة، وكذا المطبعة بما هي إنتاج ثقافي مركزي، ثم في عمليات تنظيم واستهلاك هذه المنتجات المادية والثقافية في المناهج والمؤسسات والأدلة الإرشادية أقحمت الناس جميع الناس في عمليات تشكيل موحدة ومركزية.
لكن وعلى الدوام ظل عدد كبير من الناس يتطلع ليكون مختلفا، ليكون كما يحب ويريد، وقد أنشأت الحالة ظواهر كثيرة، مثل الصعاليك في التراث العربي، والخارجين أو اللامنتمين والمختلفين في جميع المجتمعات والعصور، وكما حذر كولن ويلسون “اللامنتمي” وهربرت ماركوز “الإنسان ذو البعد الواحد” وقسطنطين جورجيو “الساعة الخامسة والعشرون” من خطورة المركزية على الأمم والأفراد فقد تعرض للظاهرة من قبل في التراث العربي الفيلسوف العربي المصري أحمد بن علي الدلجي (ت 1368م) في كتابه الفلاكة والمفلوكون مفصلا بالشرح والسرد كيف عجز عدد كبير من الأئمة في الفكر والدين والأدب عن الاندماج في السلطة والمجتمع وكيف تعرضوا للأذى والتهميش؛ مثل الطبري والكندي والمعري وأبو حيان التوحيدي والفارابي والحلاج والسهروردي والأخفش والترمذي والخليل الفراهيدي وابن خلكان والشيرازي وابن هانئ الأندلسي والباجي وواصل بن عطاء وسيبويه وابن حزم وابن رشد وابن سينا والحسن بن الهيثم والشاطبي والنووي، ..
ويلاحظ الدلجي أن عددا كبيرا من العلماء والمثقفين تعرضوا للتهميش والألم حتى أصاب الكثير منهم آلام عقلية ونفسية، وقد لجأ بعض العلماء إلى نسبة أعمال وكتب لغيرهم طمعا في أن تلاقي الاهتمام والتوقير، وقد يولعون بالأسفار والمخاطرة بنفوسهم طمعا في الخروج مما هم فيه، ولتألمهم بذكر نقائصهم وشعورهم أن الأغنياء معرضون عنهم، وأن الفقراء لا حاجة لهم بهم.
يحلل الدلجي ظاهرة غرابة الأطوار المعروفة عن العلماء والفنانين والفلاسفة والشعراء والأدباء ويردها إلى الفقر وضيق ذات اليد وليس متعلقة حتما بالعلم والأدب كما هو شائع لدى الناس. ويراها ألصق بأهل العلم وألزم لهم من غيرهم لأسباب كثيرة، فالإمارة (الحكم) عنهم بمعزل والتجارة مبنية على المكر والكيد والآمال التي لا يقوم دليل على وقوعها، والصناعة والحرف يلزمها حيل ورذائل يأنفون عنها فيقعدون عن الاكتساب متعللين بالأماني الكاذبة فيقعون في الفقر والإملاق.
وأهل العلم يحسنون الظن بالناس على مقتضى ما يتوهمونه في أنفسهم، والناس لا يقيمون لعلومهم ومعارفهم وزنا، ويحاولون تطبيق قواعد العلم ونظرياته الدقيقة في شؤون الحياة اليومية، ولكن القضايا تختلف عن بعضها من وجوه عدة، وثقتهم بقواعدهم العلمية تجعلهم يخبطون خبطا عظيما، والعامة الذين لا يعرفون هذه العلوم ينظرون في كل قضية جزئية أمامهم نظرا جازما غير مشوش يبعد عنهم الفتور وضعف العزيمة فتنجح مساعيهم ويصيبون في ظنونهم غالبا. والعلماء بنظرتهم الفاحصة العميقة يفرضون احتمالات بعيدة ويجزمون بوقوعها، وما من شيء إلا ويطرقه احتمال المثبط عن إمضائه واستقامته فيتخلفون لذلك عن مظان الخير فيقعون في الفلاكة والإهمال. ويقضون العمر في تحصيل العلم وهو بطيء، والعلم ليس أمرا يقاس ويعرف على وجه الدقة، فهو قابل للجحد والإنكار وأن يدخل فيه غير أهله بالتلبيس والتمويه والجاه.
نيسان ـ نشر في 2022-12-08 الساعة 11:19
رأي: إبراهيم غرايبة كاتب اردني