اتصل بنا
 

استدامة الاستعصاء في الأردن..الفساد دولة مستقلة

كاتب وخبير قانوني

نيسان ـ نشر في 2022-12-13 الساعة 15:47

نيسان ـ تحول الفساد في الأردن من حالات فردية تقليدية الى مؤسسة لها تاريخ وبروتوكول وأدبيات وقوانين واعلام، الفساد في طريقه الى ان يكون دولة مستقلة، لها علمها ونشيدها الوطني، ووزاراتها، وبرلمانها، وشعبها.
في السابق، كان الفاسدون رجالا محترمين، استطاعت الدولة التعامل معهم وخلق توازنات لأنهم – اقصد جيل الفاسدين القدماء – كانوا "للعجب" وطنيين، ما لبثوا ان أنتجوا جيلا مسخا من الفاسدين لا تكاد تفهم لغتهم وطريقة تكاثرهم وسبب بقائهم، الان، لدينا ملائكة (5G) وشياطين (5G) في حين ان الدولة والشعب اكتفيا بالاستمرار على (GSM).
شعرت برغبة في الضحك حينما قرأت عن رفض مجلس "الأمة" لمشروع تعديل المادة (20) من الدستور، تلك المادة التي تمنع العين أو النائب بمجلس النواب أثناء مدة عضويته من إبرام أي تعاقد مع المؤسسات الحكومية باستثناء من كان مساهما أو شريكا بنسبة لا تزيد على 2 في المئة.
وأدخل مجلس الأعيان تعديلاً على المادة يسمح لأعضاء مجلس الأمة الذين يملكون أسهما أو الشركاء في الشركات بنسبة لا تزيد على 5 في المئة بالتعاقد مع الحكومة أثناء مدة عضويتهم، على أن يحظر عليهم التدخل في العقود التي تبرمها هذه الشركات مع الحكومة.
يا إلهي الذي خلقتني، كم ادهشتني الملائكية التي وردت ذيل هذه المادة التي أقرها مجلس الاعيان، اذ جاء فيها: "على أن يحظر عليهم التدخل في العقود التي تبرمها هذه الشركات مع الحكومة".
يا لقوة وبراءة وعفوية هذه الفقرة. ثم انظر التبرير الأخَّاذ الجميل "وبرّر الأعيان قرارهم بحاجة الدولة إلى التعاقد مع الشركات الوطنيّة، وأن نسبة المساهمة المؤثرة في الشركات هي التي تتجاوز 5 في المئة وليس 2 في المئة كما جاء في التعديلات المحالة على أنظارهم".
تمثل هذه الفقرة مثالا مطلقا على التحول الجيني في مؤسسة الفساد، كان الفسدة عندنا متخفين لا يظهر فسادهم الا في ليلة حمراء داخل زواريب عمان، اليوم، أصبح الفساد مقننا ومحميا وبروتوكوليا، لا يعتدي أحدهم على "رزقة" آخر، ولا يتدخل كارتيل في منطقة آخر، ولا تقلل عائلة كورليوني من عائلة بارزيني، ولا تنافس تاتليا آل كابوني. كثيرا من هؤلاء يرتبطون بعلاقات قرابة ومصاهرة في ما بينهم مما يجعل هناك حزام أمان وانذار مبكر.
الشعب من جهته عبر عن فهمه للواقع، اذ كشف استطلاع أن الغالبية العظمى من الأردنيين يعتقدون أن الفساد المالي والإداري منتشر في الأردن، وأن الوزراء وكبار موظفي الدولة هم الفئة الأكثر إسهاما في انتشار الفساد. هذا الشعب الطيب يثرثر في الخفاء ممتعضا من حالة الفساد، لكنه يصلي الليل والنهار ان يتعثر به أحد الفسدة الجدد ويجعله في حاشيته، الفسدة الأقل شأنا وتأثيرا هم نحن الشعب، ولكننا بالضرورة ترس مهم من تروس الفساد، يتظاهر الناس بشدة في مدينة اردنية صباحا، ثم يمارسون مناطقيتهم واصطفافهم العشيري والجهوي ليلا، لينتج عن ذلك إعادة فاسد مسخ الى مجلس الامة مرة تلو أخرى، يتم طحن أحد الناشطين ضد الفساد فلا يخصص أحد المتذمرين من الفساد خمس دقائق ليعبر عن تضامنه مع ذلك المسكين الناشط ضد الفساد.
الفساد في بلدي مضحك، مضحك حد البكاء والضحك في آن، السياسات التي رسمت للحد من الفساد ومكافحته إما اعتراها خلل في التطبيق أو قصور في التنفيذ، لماذا يا ترى؟ هل لأنها صيغت على يد جماعة الـــ 5% أعلاه؟، ثم اقرأ مع عزيزي الطيب، بموجب القانون؛ لا يجوز تقديم أي وزير أو رئيس وزراء إلى المحاكم عن الجرائم والمخالفات التي وقع فيها الوزير أثناء تأديته لمنصبه إلا بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب الذي يحق له فقط اتخاذ قرار باتهام الوزير إذا وجد أن في أعماله ما يخالف القانون، يا سلام!، اكثر من هذا كله، نص الدستور الأردني على الجواز للنائب أن يكون شريكا في المؤسسات التي يزيد عدد المساهمين أو المالكين للحصص فيها عن عشرة أشخاص، فسمح هذا الاستثناء للسلطة التشريعية بممارسة التجارة بشروط، وما احلاها تلك الشروط!
جميع الفسدة يخصصون وقتا سنويا لإرسال مجموعة من الحجاج والمعتمرين أو إذا لزم الأمر يذهبون بأنفسهم للتأكد من إيصال الرسالة حتى ولو كان ذلك على حساب الاضطلاع بمسؤولياتهم تجاه الأمة، حتى أنني يوم أمس تساءلت في سبب ما حصل مع سيدنا موسى عليه السلام حين تعجل للقاء ربه وترك قومه وراءه فأضلهم السامري!
السر الأعظم في استمرارية الفساد يرتكز على حبكة عظيمة انتجتها منظومة الفساد، تقوم من جهة على زرع صورة ذهنية لدى المواطن ان هنالك دورا ملكيا في الإبقاء على حالة الفساد، وكلما حاولنا التخفيف من خطاب الانتقاد "بطحنا" أحدهم بقوله: "لماذا يتم تدوير المناصب على الفاسدين ولماذا لا يودعهم الملك السجن وهو قادر على ذلك؟"، ومن الجهة الأخرى، يدلل هؤلاء على أن الشعب في أساسه متخلف وعشائري النزعة وغير قابل للتطور أو التطوير، فنصيح بهم وهم "يمردغوننا":
أيها الناس؛ الفساد مؤذن بخراب المُلك والبلد على السواء، هل من عاقل يتصور أن الملك يضحي بملكه لصالح فاسد قميء أو يضحي الشعب بوطنه لمتنفّع قذر؟
الامر غير ذلك تماما؛ هنالك طرف ثالث من مصلحته ان يعمق الجفوة بين الملك والشعب، ليستفرد هذا الطرف المتنفع بالوطن اثناء مشاغلة الجهتين بالكر والفر، بين دعوات للتأزيم وتحرك أمني مضاد، وفي الاثناء، يمارس الفاسدون عملياتهم، موسوسين للملك ضد الشعب ومهيجين للشعب ضد الملك، بينما الحقيقة – وبعيدا عن المشاعر الرومانسية – هنالك مصلحة للملك في دوام ملكه ومصلحة للشعب بدوام وطنه.
الشعب لا يريد اسقاط النظام، ولن يسمح بالفوضى ولن يرحب بالاستقواء على البلد، ولن يكون خنجرا مسموما بيد العدو المتربص، ولن يطلق النار على رجليه. انني اتهم كل مشارك في تعميق الهوة بأنه شريك في استدامة الاستعصاء، اما قصدا أو جهلا.
الحل: نقتلع الفساد ابتداء برسالة واضحة من الشعب للملك؛ ارتحل الينا، فنحن منك وأنت منا، معنا ومعك الله ثم الشباب الواعي والجيش والتاريخ.

نيسان ـ نشر في 2022-12-13 الساعة 15:47


رأي: الدكتور عمر كامل السواعدة كاتب وخبير قانوني

الكلمات الأكثر بحثاً