اتصل بنا
 

كندا …. البرد الذي يجمد الروح

نيسان ـ نشر في 2022-12-22 الساعة 19:39

نيسان ـ التقيته بتورنتو -كندا إيراني اسمه بهزاده ، دعاني لشرب كأس من الشاي الدافئ المضمخ بالزعفران الايراني ، أسعدتني الحميمية الدافئة التي تعاطى بها معي وانا ألتقيه للمرة الاولى في ذلك الحي الكندي الملئ بالايرانيين الهاربين من بلادهم الدافئة المجبولة بالشرق وسحر الشرق بأبهى اشكاله ، أسعدني تعامله معي وأنا القادم من الاردن بخلفيتي العربية السنية ! دونما تعصب أو عدوانية أو أحكام مسبقة ، كنا إخوة هناك تجمعنا الغربة ودفء اللقاء الذي قادنا من حديث لحديث ليتسرب البرد القارس من صوته المرتجف قادما من ثنايا روحه المتعبة بالغربة والبرد ، لم يحاول ان يخفي تأثير الطقس الزمهريري على حياته وهو مضطر ان يسكن تلك البلاد الشاسعة والتي يستشعر فيها غربته ووحدته صباح مساء .
لم يختر كثير من الايرانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين وغيرهم تلك البلاد الصقيعية وطنا بديلاً لهم عن طيب خاطر .
العشرات الذين التقيتهم من ايرانيين وسوريين وعراقيين هم هاربون من لظى الموت والقهر ، وما تجمّعهم في ميادين تورينتو ونيويورك واستكهولم وبرلين إحياءً واحتجاجا لمقتل "مهسا أميني" ظلما وعدوان على يد رجال الحرس الثوري إلا عنوانا فرعياً لقضية كبرى لهم وهو الإحتجاج على أنظمة التسلط والقمع والوحشية التي تزخر بها بلادنا واحداً واحداً لا أستثني منهم أحداً فأنا أراها أنظمة مستمرة بالحكم سنوات وسنوات دون حسيب أو رقيب رغم انها تقذف بالمهاجرين من أبناءها نحو البحار المظلمة والزمهرير دونما توقف ، ثم أرى فلسطينيين شردهم نظام عنصري صهيوني وألقى بهم هناك على بعد الآف الاميال إلى تلك الفيافي والمجاهل الثلجية الكئيبة والشتاءات الرمادية القاهرة والطبيعة القاسية ومع ذلك يتلقفون زائرهم الشرقي بحبات بقلاوة مقدسية مطرزة بالحب والبهجة بينما هم محرومون في غربتهم من وطنهم ومن زيتهم وزيتونهم وزعترهم ، ومحرومون عند كل حاجز للإحتلال من انسانيتهم وحريتهم التي حرمهم منها قطعان المستوطنين المسعورين يطاردونهم ويطردونهم من أرضهم وبياراتهم إلى كل زوايا العالم البادرة والبعيدة .
راقبت مليا جميع المهاجرين الى كندا الذين التقيتهم هناك ، تحدثت معهم ، خالطتهم فما رأيت منهم إلا جِداً وأجتهاداً ورغبة في خدمة المجتمع الذي أصبحوا يعيشون فيه ، هم إضافة إليه وليسوا عبئا عليه بأي حال من الأحوال ، وهذا مما زاد من حزني لأن بلادنا ألقت بمثل هؤلاء الأبناء الأسوياء والمجتهدين إلى هذه الأصقاع الموحشة والموغلة بالوحدة والغربة ، غربة فوق غربة فوق غربة .
أعرف من خبرتي أن ما أحضر هؤلاء المهاجرين إلى هذه البلاد هي نفس الأسباب والعوامل التي أحضرت المهاجرين البيض من بلادهم في إيرلندا وأوروبا وإسكندينافيا واليونان وسواها ؛ القمع والقهر والتسلط والفقر والفاقة والرغبة والأمل ، ولكن بالنظر إلى ما فعله البيض في هذه البلاد من إبادة للحجر والبشر واستئصالٍ للسكان الاصليين وإبادتهم بكل الوسائل المتاحة من قسوةِ ومكرٍ ومرضٍ وخداع وكأن الكوكب لا يتسع إلا لهم ، أبادوا الملايين من الذئاب والثعالب والقنادس وثيران البفالو طلباً لفراءها فحسب وألقوا بأجسادها جيفا على إمتداد السهول والمراعي الخصيبة التي اقتلعوها منها ومن الحياة معا ، حتى أن كاتبة غربية هي " ستِف بيني " ألّفت رواية مذهلة إسمها " رقّة الذئاب " تصف فيها الذئاب المفترسة بالطبيعة بالرقّة والضعف في مواجهة جبروت المستوطنين البيض وطمعهم اللامتناهي وقسوتهم الغير مبررة تجاه كل شئ يحيط بهم هناك ، وحتى عندما زرت المتحف في مقاطعة " نيوفاوندلاند " ، المتحف التاريخي لتلك البلاد ، لم أجد ذكراً لسكان تلك القارة الأصليين إلا في ثنايا قصة حزينة جدا تصف بحزن !!!! النهاية المأساوية لآخر السكان الهنود الحمر الأصليين في تلك الأصقاع وهي إمرأة وحيدة قضت بالمرض دون أن تترك خلفها أي ذرية ، وقد ذكروا أنهم حاولوا !!!! جاهدين الإبقاء على حياتها عبثاً ، لكنّها ما لبثت أن فارقت الحياة بعد أن أصبحت وحيدة ومعزولة متروكةً بين كل أولئك الوحوش محرومة من بني قومها الذين تم إصطيادهم واحداً واحداً وتجميع جماجمهم او فروات رؤوسهم مقابل جائزة وُضعت على رأس كلٍ منهم .
ما أشبه اليوم بالبارحة ، فالقسوة البشرية والطمع والتوحش هو هو ما ينعكس لنا من تلك البلاد وسكان تلك البلاد من البيض ، ظلمهم وقهرهم الذي وصلنا إلى عقر دارنا منهم ، عندما غرسوا نبتهم الشيطاني " إسرائيل " في بلادنا وأرضنا ثم عملوا على تقسيمنا لكى نبقى ضعفاء مهانين غير قادرين على دحر عدوانهم عنا ثم أسلمونا لأنظمة متوحشة مثلهم تحكمنا بالنيابة عنهم بأمرهم ودعمهم ، أنظمة من بقايا عبيدهم عندنا ، منحوهم السلطة علينا وأمدوهم بالمال والسلاح والاعتراف الدولي وكل ما يحتاجون إليه حتى يخضعونا ويقهرونا ويتسلطوا علينا ثم لم يكتفوا بذلك فملئوا بلادنا حروبا طائفية وفاقة وسوء توزيع للمال والثروة ومقدرات البلاد حتى نضطر في النهاية للهرب والهجرة من بلادنا وتفريغها من العقول التي تسهم في اعمارها متناثرين في كل انحاء الدنيا فيافيها وقفارها في متوالية مجنونة لا تتوقف .

نيسان ـ نشر في 2022-12-22 الساعة 19:39


رأي: د. اسامة المجالي

الكلمات الأكثر بحثاً