اتصل بنا
 

إفلاس العالم

نيسان ـ نشر في 2022-12-30

نيسان ـ رغم كل الحديث المتشائم مع نهاية العام وبداية عام جديد حول الركود الاقتصادي، وربما السياسي والاجتماعي، المتوقع في 2023 واستمرار الحروب والصراعات إلا أن هناك طاقة تفاؤل مهمة لا يمكن إغفالها. حتى مع استمرار الحرب في أوكرانيا واحتمال اشتعال بؤر صراع مسلح جديدة تزيد فرص خروج العالم من أزماته المتعددة وحدوث انطلاقة جديدة، إن لم يكن العام القادم فمع بداية العام التالي 2024 على الأكثر.
ليس هذا التفاؤل مبنيا على "التفكير بالتمني" وإنما هذا ما تشير إليه تجارب تاريخ البشرية السابقة. ونأخذ مثالا من الاقتصاد، حيث أن أكبر مشكلة تهدد النظام المالي العالمي في العام الجديد هي مشكلة الديون. فقد وصلت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى نحو ثلاثة أضعاف. وهناك أكثر من خمسين دولة تواجه احتمالات التخلف عن سداد خدمة ديونها – الذي يعني تقنيا عملية "إفلاس". ناهيك عن عدد كبير من الشركات التي يمكن أن تتخلف أيضا عن سداد خدمة ديونها وتعلن إفلاسها أيضا.
ورغم أن ذلك يثير مخاوف المستثمرين والصناديق حول العالم، إلا أنه ربما كان الحل الأمثل لتخلص النظام المالي العالمي من أمراضه المزمنة والدخول في مرحلة تعافي على أسس سليمة. فهناك الآن نحو ثلاثمئة تريليون دولار من الديون في النظام، القدر الأكبر منها ديون شركات، تليها ديون سيادية على الحكومات والبقية ديون "ورقية" لا تقابلها أي أصول حقيقية.
ذلك الانزعاج من الإفلاس حول العالم مبالغ فيه إلى حد كبير. فنحو خمس ذلك الدين العالمي هو أرقام "وهمية" من الأفضل أن تتبخر فعلا لأن ضررها كبير جدا. والشركات التي اقترضت بكثافة في السنوات الماضية وأسعار الفائدة قرب الصفر ولم تخطط لأن ترتفع كلفة خدمة الدين فالأفضل أن تفلس بدلا من إثقال النظام المالي بأعباء غير ضرورية. أما الشركات التي تتمتع بالكفاءة والفعالية فيمكن أن تنمو بشكل أفضل وتوفي التزاماتها بشكل جيد.
صحيح أن بعض الدول المثقلة بالديون الحكومية قد تعاني لفترة لكن تخلصها من القدر الأكبر من أعباء خدمة الدين العام يمكن أن تكون البداية الأفضل لانطلاقة اقتصادية إذا توفرت الإرادة السياسية وأخذت بأسباب التنمية المستدامة.
هذا مثال على صعيد الاقتصاد العالمي، وكيف أن تخلص النظام المالي من مواضع الخلل ولو عبر الإفلاس واسع النطاق يمكن أن يجعل الإصلاح أكثر جدوى مما حدث في أعقاب لأزمة المالية العالمية في 2008.
يمكن سحب ذلك أيضا على السياسية، فأغلب النظم السياسية في الدول الرئيسية على موعد مع تغييرات العام القادم والذي يليه. من انتخابات عامة في دول من أميركا إلى تركيا مرورا ببريطانيا وأيضا تغيير في التوجهات نتيجة صعود قوى جديدة حتى في الدول التي ليست على موعد مع انتخابات. وعلى صعيد العلاقات الدولية، فإن إرهاصات التغيير التي نشهدها منذ العام الماضي قد تؤتي أؤكلها في العام القادم والذي يليه.
مع أنه من الصعب توقع "إفلاس السياسة" على طريقة الإفلاس المالي/الاقتصادي المتوقع، إلا أننا قد نشهد بداية نهاية للتباين التقليدي بين اليمين واليسار في السياسة المحلية للدول وأيضا لمحاولة فرض نهج واحد للسياسة الدولية ما بعد نهاية الحرب الباردة. ليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى عالم "متعدد الأقطاب" لا تتفرد فيه الولايات المتحدة بالقيادة كما ترغب الصين وروسيا وغيرها. ولكن على الأقل سيترسخ مبدأ "تنويع" التحالفات ربما بشكل أقرب لطريقة "تنويع" الاقتصاد كما تفعل دول الخليج منذ سنوات للابتعاد عن الاعتماد على الطاقة فقط.
وفي ظل هذا التنويع، ستجد قوى صاعدة من الهند وفيتنام إلى المغرب والبرازيل فرصة قوية بتعزيز مكاسبها عالميا. ولن تكون أوروبا، التي اعتبرت تاريخيا "المركز" في العلاقات الدولية، بعيدة تماما عن تلك التغيرات. بل إن احتمالات اشتعال بؤر أخرى فيها غير أوكرانيا، مثل استعادة صربيا لإقليم كوسوفو وعودة الصراع العسكري على حدودها الشرقية بين ارمينيا واذربيجان، قد يؤدي إلى تغييرات مهمة في القارة ربما تصل إلى إعادة توزيع القوة فيها بعيدا عن قطبيها الرئيسيين: ألمانيا وفرنسا.
أما الافلاس العالمي الأهم، في تصوري، رغم أن المال والاقتصاد والسياسة تطغى على تفكير الجميع، فهو ربما كان الفكري والثقافي. وأهمية ذلك أنه سيمثل انطلاقة جديدة للبشرية للابتكار والإبداع بعيدا عن كل القوالب والأنماط التي سادت منذ بدايات القرن الماضي. فقد بلغ تطورها منتهاه على ما يبدو بدأ في التراجع حتى وصل إلى نهاية المنحنى ولم يعد هناك مفر من دورة ارتفاع جديدة تختلف كثيرا عن سابقتها حتى وإن بنت على اساسياتها.
ربما يصبح الحديث عن التطور التكنولوجي مثلما أصبح الحديث عن التحديث الصناعي في النصف الثاني من القرن الماضي. ويركز الابداع البشري على طور جديد من التفكير"الهجين" بين ما هو انساني وما هو آلي. وإذا كان يصعب تصور نتيجة ذلك الآن، إلا من قبل الشعراء والفنانين الذين يتخيلون المستقبل في إبداعهم، إنما أكثر احتمالا أنه سيكون نهج جديد تماما وليس تطورا لما هو سائد الآن فحسب.
فلمن ينتابه قلق من إفلاس العالم أن يراجع نفسه ليهدأ لأن إفلاس وضع هو فرصة لوضع الجديد، فالبشرية لم تعدم أبدا في تاريخها إيجاد طريقها للاستمرار في إعمار الأرض.

نيسان ـ نشر في 2022-12-30


رأي: أحمد مصطفى

الكلمات الأكثر بحثاً