اتصل بنا
 

صلاح فضل: مدرسة في علم الحقيقة

نيسان ـ نشر في 2022-12-30

نيسان ـ "قيمة الثروة تُعرف عندما تُنال، وقيمة الصديق تُعرف عندما يُفقَد" جان بتّي-سان
******
من نعم الألوهة علينا أننا لا نقرأ حساب الفراق، عندما نستسلم لإغواء خوض تفاصيل علاقة كالصداقة، ربّما لأن الأخيرة تختل ختلاً، قبل أن تستدرجنا للشَّرَك، دون أن ننكر أن متعة علاقة، كالصداقة تستطيع أن تعوّض آلام الخسارة، الناتجة عن فجيعة الفَقْد، الذي لا نقرأ له حساباً في مفتتح النسيج، الذي شيّد كيان العلاقة. ولكن المأساة في أنانيّتنا. فنحن نراهن بالفطرة على الحدود القصوى دوماً، ونرفض القبول بالمتاح. نريد صداقة خالدة، مادام الحظّ قد ابتسم لنا، فجاد علينا بصديقٍ حقيقي، وننسى أن ما يجود به الحظّ، الحرمان منه هو من صلاحيّات الحظّ أيضاً، وليس من شيمه أن يجود بهباته على سبيل المجّان، أو لأجلٍ غير مسمّى، ولكن على سبيل الاسترداد! وهذا الاسترداد هو ما ننكره في حقّ أناسٍ صاروا، بعلاقة قدسية كالصداقة، جزءاً منّا، بل هم، منذ البدء، "نحن" الأخرى، نحن التي تستطيع أن تنفصل عنّا جرماً، ولكن هيهات أن تنفصل عنّا روحاً، لأن الأخلّة ليسوا سوى روحاً واحدة، تسكن جسدين مستقلّين. وهي استقلالية تهبها امتيازاً، تهبها إعجازاً، تهبها تحقيق الحرية في بُعدَين. لهذا السبب نستطيع أن نستغني عن كل شيء في مهلة الباطل، ولكن هيهات أن نستغني عن كيانٍ أحببناه لدرجة أننا لم نتردد في أن نستودعه روحنا، لأن ذلك يكفل لنا أن نعيش الحياة مرتين.
طوال ربع قرن تقريباً تواصلنا في مختلف العواصم، للمشاركة في المؤتمرات الأدبية، والفعاليات الثقافية، لأعلم كم هو شجاع صلاح فضل، سواء في فكره النقدي، أو في حكمه الأخلاقي، أو في نشاطه العمليّ، وكم هو حميمٌ في مزاجه الإنساني، وكم هو وفيٌّ لقيمه الروحية، في كل ما متّ بصلة لعلاقاته الشخصيّة.
لأن الخصال الشخصية، الخصال الإنسانية، هي الثروة التي لا غنى لنا عنها عند تحديد القيمة الفكرية، ما ظلّت الأخلاق مرجعاً في تقييم أحكامنا التجريبية، كما يليق بإنسان، اعتنق الروح الرواقية دين وجود، كما صلاح فضل، فلا يتكفي بأن يجود برؤيته النقدية الجريئة في حق أعمال أمثالي، ولكنه لا يبخل أيضاً بالوصايا، التي تحرّض على خوض تحدّيات أعظم شأناً باقتحام حقول بكر، غفلنا عنها، في حمّى هوسنا بأدغال الهمّ الكينوني حيناً، وبمستودع السؤال الاغترابي أحياناً، لنقترف خطايا في حقّ واقعٍ، الوطن فيه بطل المهزلة. وها هو يُلهمني أعمالاً روائية مرجعية، مثل ملحمة "الأخلاف والأسلاف" ذات الستّة أجزاء، عندما كنّا في طريقنا إلى مكتبة الاسكندرية مطلع 2002، أثناء انعقاد إحدى المؤتمرات، قائلاً أنه، كمصري، يجاور بلداً مثل ليبيا، ولكنه لا يستحي أن يعترف بجهله بتاريخ ليبيا، وعلى عاتق أمثالي، في نظره، تقع مسئولية تناول هذا التاريخ روائياً. وهو ما أدهشني بالطبع، ليقيني بعمق العلاقة التاريخية بين بلدينا، وإيماني بالمسَلّمة التي تقول بوحدتهما، لا بسبب العامل الجغرافي الصحراوي الجامع بينهما وحده، ولكنه بمنطق التاريخ، الذي مزج بين شعبينا منذ عصور ما قبل الأسرات الفرعونية، كما برهنت التجربة. وأن يجهل إنسان، لعب دوراً تنويرياً في الثقافة العربية، في مقام صلاح فضل، تاريخ ليبيا، فتلك مفاجأة، في نظري، ترتقي إلى مستوى الصدمة فعلياً. وهو ما استفزّني لعمل ما بالوسع لمعالجة هذا الجرح، فلم أجد أصلح من تناول تلك المرحلة المرجعية من تاريخ اغتربت فيه أوطاننا عن حقيقتها، بفعل كابوس الامبراطورية العثمانية، التي كتمت أنفاس أممنا طوال خمسة قرون كانت الأسوأ في تجربتها الوجودية قاطبة. وهي الحقبة المدعوّة باسم "القرمانلية"، التي تمرّدت فيها روح هذا الوطن الشقيّ على قدرها، لتتنصّل من برادع آل عثمان، وتؤسس أسرةً وطنية هيمنت على المتوسط كلّه طوال قرن وربع القرن. ولم تكن ملحمة من ستّة كتب أن تتحقق في أمدٍ قصيرٍ جداً، لولا الاستنفار المزموم، الذي لعب فيه تحريض صلاح الفضل دور البطولة، ليتحوّل العمل ضرباً من ردّ اعتبار، أو جنساً من انتقام مجبول بروح قداسة، لأن التجربة برهنت أن هذا الإحساس، الذي نحسبه في قناعاتنا آثماً، كثيراً ما كان سبباً في تحقيق أمجادٍ بطولية، ليحقّ لنا أن نسمّيه "الانتقام المبدع". فالانتقام لا يعود مفهوماً رذيلاً عندما يكون رهانه الإدلاء بالشهادة في شأن قدس أقداسٍ هو: الحقيقة! والملحمة التي أوحَى بها الفقيد صلاح فضل كانت ترجمة صريحة لهذه الحقيقة، وليست مجرد رؤية لرواية في أجزاء تعالج تاريخاً في حقّ وطنٍ، أذكر الآن كيف استنزل الرجل فيه المديح عندما قال أن شخصي وفاه حقّه الميثولوجي، ولكن الواجب يقضي أن أفيه حقه الواقعي أيضاً، في إيماء إلى مسألة الأسطرة، المعتمدة في عرف الأدب عَصَباً في أي عمل إبداعي، لا في صيغته النثرية وحسب، ولكن في أبعاده الشعرية أيضاً، مما سيعني أن رسالة الناقد ليست في تشريح العمل المنجز وحده، ولكن في المشاركة الوجدانية في إنتاج العمل، برسم خرائط للمؤلف، تصلح حفريات في واقع برّي بتول، عصيّ جغرافياً وأنثربولوجياً، لاستكشاف الطريق.
ففضيلة إنسان في مقام صلاح فضل ليست في غرس حجر الأساس لمدرسة في علم النقد، ولكن في استثمار تلك القيم، التي لعب فيها حجر حكمة مثل الحبّ، دور رأس المال، ليضع حجر أساس لعلم أعظم شأناً جدير بأن يكون مدرسة في علم الحقيقة. وهو، عندما يغترب عن واقعنا اليوم كإنسان، فإنه لا يترجّل ككل الفرسان، ولكنه يترحّل، يهاجر كما هاجر الأنبياء، ليبرهن لنا أن الحبّ أيضاً يستطيع أن يُميت الموت، وإذا استجار بالهجرة، فإنه يحقق الخلاص، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت الهجرة هي الافيون الذي أدمنه كل الأنبياء. وهو، بهجرته، يتوارى عن واقع الباطل، عن واقع الحسّ ولكنه يسكن المستودع الوحيد الآمن من بطش الموت، وهو: الذاكرة. فالذاكرة كالإبداع، الذاكرة كالحبّ، الذاكرة هبة لها موهبة إماتة الموت!
بالذاكرة نستطيع بعث الأموات ليحيوا فينا، كما نستطيع بالذاكرة أن نبعث الأحياء إلى الموت بالنسيان!

نيسان ـ نشر في 2022-12-30


رأي: إبراهيم الكوني

الكلمات الأكثر بحثاً